المحتوى الرئيسى

هل اعتدتُ غيابَك يا أبي؟!

05/18 13:42

أفكر كثيراً في معنى الصبر، أحاول أن أميزه وألمَسه في قلبي كي لا يختلط الأمر عليه، فيألف الوَحشة والتبلد من حيث ظن أنه يصبر ويتصبر!

في طابور الزيارة أراقب فتاةً -ربما شدني جمال وجهها وحسن طلتها في بداية الأمر- تقف وحدها، لا تهتم بأحد، لا تتبادل أطراف الحديث كما يفعل الجميع ليمر الوقت الثقيل، لا يبدو عليها شيء وهي تحمل الحقائب الثقيلة بمفردها، تقف أمام الشرطي بلا مبالاة تامة، يفتش حقائب الزيارة مرة، ومرة أخرى، ومرة ثالثة، لا يظهر عليها انزعاج ولا ارتياح! يبدو أنها اعتادت المكان والناس والعساكر والنظام المهين، ولم يعد شيء يُثيرها أو يلفت انتباهها حتى! تتحرك كأنها تؤدي واجباً سخيفاً روتينياً تفعله بلا رغبة ولا رفض أيضاً! أشفقت عليها ماذا فعلوا بك لتصلي لهذا الحال أيتها الجميلة؟

وأشفقت على من جاءت لتزوره فيراها هكذا بلا شعور، غير مبالية بشيء! لاحظتها أكثر من مرة في الطابور وفي أماكن الانتظار، ثم جمعني بها القدر في نفس صالة الزيارة، جلست أمامي مع زوجها؛ استرقتُ النظر إليهما بالطبع - لم أكن أحاول التجسس طبعاً، فأنا لا أسمعهم، ولا أحب أن أجرح خصوصيتهم- لكني أردت أن أعرف الحال، تفاجأت كثيراً عندما رأيتها تبتسم، تضحك، تبكي، وتعود فتضحك ثم تبكي! إنها بخير، لا أعرفها ولا تعرفني لكني في تلك اللحظة فرحت لها جداً، وظننت أنه من جميل القدر -رغم قسوة الظرف- أن أرها في ذلك الحال لتكتمل صورة ما في ذهني، لم تُفْقِدها المحنة الشعور كما كنت أظن، وما اعتقدت من قبل أنه لا مبالاة كان في الحقيقة "صبراً"..

اليوم وبعد أربعة أعوام من المطاردة والاعتقال في سجون الانقلاب العسكري أتساءل كثيراً هل اعتدت غياب والدي؟ سرعان ما تداهمني الوَحشة وأنا أتذكر كل لحظة اشتقت له فيها ولم أرغب في أكثر من حضن صغير يؤنسُني فأطمئن أنه ما زال هناك مساحة آمنة لي في هذه الأرض الموحشة التي هي "وطني"، وأتذكر كل لحظة احتجت فيها للعون ولم أتمكن من طلب المساعدة، وخجلت أن تنكشف حاجتي ويظهر ضعفي أمام قريب أو غريب،

كل لحظة أُغلقت في وجهي الأبواب، التي بالمناسبة لو أغلقت وهو بالقرب ما عبئت بها، وكل لحظة آذاني أحدهم أو أهانني -بقصد أو بغير قصد- فبكيت وتذكرت أن أبي ليس بالقرب، وأن ظهري مكشوف للهواء! في اللحظات الجميلة التي غاب عنها - رغماً عنه وعني- وما كنت أتخيلها بدونه، وجرحتني نظرة مشفقة وكلمة مواساة، وجرحتني نظرة لا مبالية وكلمة ثقيلة من باب "بطلي دلع" في كل المرات التي نظرت فيها لأحبابي الصغار فوجدتهم يكبرون في غياب والدهم، وأجالسهم فيأخذنا الحديث ويظهر لي أنهم ليسوا على ما يرام!

وفي اللحظة الأسوأ على الإطلاق التي أتخيل فيها أبي الحبيب - فديته بعمري - وحيداً في زنزانة ضيقة ليس فيها ما تقوم به الحياة! وأنا في عمري القصير لم أعرف أحداً خيراً منه! سبحان من صوره جميل الخَلق والخُلق، تقياً، نقياً، كريم الطبع، يصل الرحم، ويطعم الطعام، وينفق عن سعةٍ وعن ضيق.. كيف يتحكم به شرار الخلق الذين لا يخشون الله ولا يرقُبون في مؤمن إلاً ولا ذمة؟! لا يهدئ من روعي في تلك اللحظة غير أن أرحم الراحمين يلهمني صورةً في خيالي أراه فيها يصلي ويعبد الله ويستأنس بذكره والصلاة على نبيه.. وأنه أوذي في الله ولله؛ فلا يضيعه الله أبداً..

عندما أفكر أشعر بشيء ما يحدث في قلبي لا يمكنني وصفه، كأن أحداً ما يمسكه ويضغط عليه بقوة! غصة في حلقي، ولا أتنفس بشكل مريح.. هذا الشعور الحزين يؤلمني من جهة ويريحني من أخرى.. ما زلت أشعر! أخاف على قلبي قسوة الظرف وشدة المحنة، وأفكر وأتحين الفرص والمواقف لأتأكد من أن ما أحمله فيه من سكون "صبر" وليس "تبلداً"! هل ستنجو قلوبنا من هذه المحنة؟! وإن نجت؛ أليست الحياة الدنيا كلها دار عمل واختبار نخرج من محنة إلى أخرى؟ ألم يتألم خير البشر وسيد الناس بأبي هو وأمي؟

ألم يخرج ومعه الصحابة رضوان الله عليهم من الشدائد بقلوب ونفوس لم نعرف خيراً منها؟ هذا ممكن إذن.. لا نزال بخير ما دمنا مؤمنين بالله، ولا تزال قلوبنا بخير ما دامت تتألم وتفرح وتتعاطف وتحب وتكره وفق مراده منها! لا تشوهنا المحنة إلا بقدر ما نغض الطرف عن المنحة فيها، وبقدر ما نستسلم للجزع و اليأس دون تفكر أو تدبر، وبقدر ما نسلم قلوبنا للأحزان والوسوسات دون مقاومة، ويكون العون من الله على قدر الاجتهاد من العبد كما يقول أبي دوماً، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل