المحتوى الرئيسى

المرأة حين تكون "على قد حالها"

05/18 09:54

"كنّا نعمل في المصانع والحقول، كان فراغاً عدمياً تسبب فيه ذهاب الرجال إلى ساحة المعركة، ولكنّا تماسكنا وملأنا فراغهم".

هذا هو ما قالته إحدى الناجيات من ويلات الحرب العالمية الثانية التي كانت شاهدة على قسوة تلك اللحظة التاريخية.

هكذا كانت المرأة الأوروبية وقت الشدائد حين نامت المرأة الإنكليزية في المترو أسفل لندن من أجل أن تصحو باكرا لتعمل من أجل أن تنتصر إنكلترا وكذلك الفرنسية التي نقلت آثار متحف اللوفر بيديها الناعمتين من أجل أن تحمي إرث الإنسانية، ولتظل فرنسا مهد الأنوار، ولكن المرأة التي سأتحدث عنها لم يذهب زوجها فقط إلى ساحة المعركة، ولم تنقل إرث حضارتها، ولم تنَم في ساحات انتظار المترو، ولكن المعركة هي من أتت إليها في مخدعها وقضت على كل أحلامها.

يقول الفيلسوف الألماني كارل ماركس إنك باستطاعتك أن تعرف مقياس درجة تقدم أي أمة بالنظر فقط إلى المرأة كمقياس حقيقي لها.

بحثت في جوجل حين شرعت بغمس قلمي في قارورة العطر؛ لأكتب عن المرأة السورية، فإذا بي أجد محركات البحث تأخذني إلى معانٍ كلها تقريباً تصب في "جماليات" المرأة السورية الشكلية، وأنها صاحبة التصنيف العالمي في مملكة الجمال الأنثوي، متناسياً أن الجميلات هن الأشقى في عالمنا الاستهلاكي، فالحظ دائماً بجوار القبيحات كجزء من مركب التوازن في الحياة، وكأني وأنا أراهن في قائمة الجميلات أنني أراهن محكوماً عليهن بالشقاء حتى أضحين اليوم ضحايا لحرب شعواء على الجمال لتدمره ثم تبيعه لتجار الرقيق ونخّاسي التاريخ.

لن أعود لكتب التاريخ لأقول كانت المرأة السورية تحتل مكانة رفيعة ومجداً عريقاً، لن أحكي عن زنوبيا ملكة تدمر الجميلة، ولن أعود إلى أسطورة أن أوروبا هي في الحقيقة فتاة سورية، ولكن سأكتفي بالحاضر وقوته التي نعيشها، فما تصنعه المرأة السورية اليوم مجد لم تصنعه قبلها جدتها ولا مثيلاتها من بنات جنسها، فهي تخوض اليوم أشرف معركة ضد الجهل القابع منذ آلاف السنين، معركة وجودية تحررية، ولا أبالغ حين أقول: إن مركز الثقل النسائي لكل الحركات التي أنشئت لتدافع عن المرأة وحقوقها تنتظر اليوم نتائج تلك المعركة التي تبارز فيها المرأة السورية وحيدة أشباح الرجعية والتخلف والاستبداد.

يؤسفني أن العالم الأعور اليوم لم يرَ سوى الجمال في تلك المرأة، رغم أنه يختفي وراءه "حياة" كاملة ووعي متراكم قادم من حقب التاريخ المختلفة كطمي النيل الذي يسافر ليزيد جودة الأرض وخصوبتها يوماً بعد يوم.

هل تعرفون أُم الرجال يا سادة؟ قليل جداً مَن يعرفها ولكننا نراها يومياً على شاشات التلفاز وهي تقف تتحدى البرد والصقيع والقنابل، وتقف في كبرياء متحدية صلف العالم وميزانه المختل، تشعل النيران لتدفئ أولادها، تطبخ لهم في "جدر"، وكأنك تشاهد مشهداً يأخذك إلى عوالم العصور الوسطى، ولكن يقول لك في صراحة: كيف أصبح عالمنا اليوم سيئاً ولكن رغم سوداوية المشهد الذي نراه فإنها بقيت تنثر الحب وتكتب على جدران بيتها المهدم "راجعين يا هوى"، وتصدح مع فيروز: "سنرجع يوماً".

فمن زنوبيا إلى أم الرجال دار الحديث بينهما يا ترى من أكثرنا عظمة؟ هل اللوحات الجميلة التي رسمت لكِ ستبقى أم تلك الصخرة التي أحملها فوق ظهري ليتحطم عليها أطماع العالم؟ هل الجمال الصافي أم ذلك الجمال المشبّع بروح التحدي بل لي أن أقول دون مواربة إنه ذلك الجمال القوي الذي يغير الحاضر لا على حسابات التاريخ والجغرافيا، ولكن على معادلات الرغبة في النهوض، وتحقيق شيء تحت سماء الكون.

تاه عقلي وأنا أحاول أن أميز ذلك الجمال عن قريناتها الأخريات، وتساءلت عن زاوية مهمة للمرأة السورية بادرت على الفور بالاتصال لعلّي أجد في كلمات أصدقائي ما يقول لي مَن هي تلك المرأة؟

جاءتني إجابات كثيرة، ولكن أكثر جملة استقرت في بالي، وأنا أكتب هذا المقال هو "امرأة على قد حالها" وأنها "أخت رجال"، وأنها "في الأنوثة أنثى وفي المواقف الصعبة امرأة بألف رجل".

ولكن لم ترو ظمئي تلك الإجابات فما زلت أبحث عن "تحرير المعنى" بالمعنى الفقهي أكثر حتى سألت صديق لي يحمل "الشام" في قلبه عن امرأة لها تاريخ وطني حديث صنع وطنه سوريا ترغب في أن تكون ابنتك تلك المرأة يوماً ما.

قال لي بالحرف الواحد: "مدارسنا خير الله أسماء لزعيمات الحركة الوطنية"، اصبر حتى أسأل زوجتي وبالفعل اتصل وأخذت أكتب وراءه الكثير من الأسماء من خولة بنت الأزور إلى عائشة الباعونية إلى نازك العبد، وبدأت في الكتابة وراءه وأنا صامت.

وما أن انتهى حتى قلت له: "هل تريد لشام ابنتك أن تكون مثل جدتك؟"، وكأني أرغب في الهروب من عجلة التاريخ.

قال لي بسرعة وكأنه طالب ثانوي حافظ للمقرر "لا"، تعجبت من ردة فعله هذه، ولكنها كانت كـ"لا" التي قالتها الشعوب يوماً ما بقناعة وحماسة دون النظر للعواقب.

قال لي: أريد لابنتي أن تكون نسخة أخرى أريدها شاماً أخرى، وهذا باختصار ما ينتظر المرأة السورية برأيي "عالم آخر" ستصنعه بعقلها ويديها التي ترتجف اليوم من البرد، ولكنها غداً ستصبح قوية لتصنع الوطن المفقود وتزرعها في قلبها بخصوبة شهر الربيع الذي ما زلنا نحلم به، ولكن أحلام اليوم هي حقائق الغد القريب.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل