المحتوى الرئيسى

عن إلهام رباعيات عمر الخيام

05/16 22:52

نشرت مجلة aeon البريطانية المتخصصة فى الموضوعات الأدبية والثقافية مقالا لـ«رومان كرزنارك» ــ الفيلسوف الاجتماعى البريطانى ــ حول رباعيات الفيلسوف والشاعر الفارسى «عمر الخيام» وأثرها على المجتمع البريطانى أثناء العصر الفيكتورى، والذى اتسم بأنه عصر شديد المحافظة والاعتداء بالتقاليد المجتمعية الصارمة، فى حين دعت رباعيات الخيام إلى الحرية المطلقة واللهو واغتنام فرص الحياة.

يستهل الكاتب المقال بإبداء دهشته من قدرة قصيدة مؤلفة من 400 بيت (الرباعيات) ــ تستند على حكايات فارسية وتدعو إلى التغلب على قِصر العمر ــ بأن تحظى بشعبية واسعة فى انجلترا، وتحديدا خلال فترة حكم الملكة فيكتوريا (1837 – 1901). جدير بالذكر أن هذه الرباعيات قد قام بترجمتها عالم اللغة الإنجليزية «إدوارد فيتسجيرالد» استنادا إلى النسخة الفضفاضة من الرباعيات التى كتبها الشاعر وعالم الرياضيات «عمر الخيام» فى القرن الثانى عشر. وقد نُشرت ترجمة «فيتسجيرالد» عام 1859ــ وهو العام نفسه الذى تم فيه إصدار كتاب «أصل الأنواع» للعالم الجيولوجى وعالم التاريخ الطبيعى «تشارلز داروين»، وكذلك كتاب «عن الحرية» لعالم الاجتماع والفيلسوف البريطانى جون ستيورات ميل ــ ولذلك لم يتم بيع نسخة واحدة من الترجمة خلال العامين الأولين وزيادة على ذلك لم يلحظ أحد الترجمة من الأساس. لكن تغير كل ذلك عندما تم التقاط نسخة من كتيب فيتسجيرالد والمؤلف من 20 صفحة وبيعت بسعر زهيد قدره فلس واحد لمتجر بيع الكتب وايتلى ستوكس والذى بدوره عرضها على الشاعر والرسام الإنجليزى «دانتى غابرييل روزيتي» الذى هام بها عشقا وقرر نشرها.

خلال عام 1863 وقعت الترجمة فى يد الشاعر والناقد الفنى «جون راسكن» والذى علق عليها قائلا بأنه لم يقرأ حتى ذلك اليوم شيئا يُضاهى هذه الرباعيات فى مجدها، ومن تلك اللحظة تحديدا بدأ عشق الخيام يسيطر بشكل كبير على المجتمع الفيكتورى والذى استمر حتى العام الأول للحرب، وبحلول ذلك الوقت كان هناك 447 طبعة من الترجمة قيد التداول. تُرجم ذلك الإعجاب والعشق للخيام فى أشياء عدة؛ كتأسيس مطاعم ومنتجات (كمعجون الأسنان) تحمل اسمه، إضافة إلى لعب ورقية تحمل صوره؛ الأمر لم يقف عند هذا الحد بل وصل إلى أنه خلال مشاركة انجلترا فى الحرب الأهلية اليابانية ــ التى اندلعت عام 1946ــ عثرت على جنود قتلى بالخنادق بحوزتهم نسخ مخبأة فى جيوبهم لرباعيات عمر الخيام المترجمة.

على صعيد آخر يتساءل الكاتب «رومان كرزنارك» عن ماهية الشيء غير العادى بتلك الرباعيات؛ فيقول: لماذا حظيت بكل هذا الاهتمام؟ ويساعد فى الإجابة الأبيات التالية التى تعد الأكثر شهرة فى مسيرة الخيام:

أفق وهات الكأس أنعم بها

واكشف خفايا النفس من حجبها

يصاغ دن الخمر من تربها

يا طالب الدنيا وقيت العثار

دع أمل الربح وخوف الخسار

شرب عتيق الخمر فهى التي

تفك عن نفسك قيد الإسار ***

إذا انطوى عيشى وحان الأجل

وسد فى وجهى باب الأمل

قرّ حباب العمر فى كأسه

يتضح من الأبيات السابقة أن الرباعيات كانت بمثابة احتجاج عاطفى ضد الأيديولوجيات الفيكتورية غير الرسمية والتى تمثلت فى الاعتدال والسيطرة والضبط الذاتى، وقد تجلى هذا الاحتجاج فى أبيات الرباعية التى تسرد تناول أقداح النبيذ الباردة والذوق الفنى والحسى المصاحب لتلك الأبيات. مع ذلك كانت رسالة القصيدة أكثر جذرية من ذلك؛ حيث أن الرباعيات لم تكن ترفض تعاليم المسيحية فحسب وإنما كانت ترفض فكرة الدين برمته حيث لا وجود للآخرة، ورأت أن الوجود البشرى عابر ولذا يجب على الإنسان طيلة بقائه على قيد الحياة أن يستمتع بوقته المحدود على هذه الأرض.

لاشك أن هذا الاتحاد المبهر من الملذات الجسدية والشكوك الدينية قد استحوذ على خيال الجمهور الفيكتورى الذى كان وقتها يقوم بإنشاد تراتيل دينية صباح كل أحد داخل أروقة الكنيسة.

من جهة أخرى يؤكد «كرزنارك» على أن تأثير الرباعيات على الثقافة الفيكتورية كان واضحا للغاية، وخاصة فى أعمال الروائى والشاعر الايرلندى «أوسكار وايلد» الذى وصف القصيدة بأنها تحفة فنية، وكان وايلد أحد أعظم محبى الخيام الأدبيين؛ ولذا تناول موضوعات القصيدة فى روايته «صورة دوريان غراى» الصادرة عام 1890؛ حيث جسد اللورد «هنرى وتون» فى الرواية شخصية المضلل الذى تحكمه الهيدونية (فلسفة اللذة) ــ التى تعد نظرية فى الأخلاق تُعرِّف الخير بأنه ما يؤدى إلى اللذة وأن الشر ما يسبب الألم ــ ويقوم هنرى فى الرواية بإغواء الشاب دوريان بطل الرواية ببيع روحه مقابل الحفاظ على شبابه وجماله، وإجمالا فقد ظهر وايلد خلال روايته متأثرا فى نظرته لانتصار الملذات الحسية برباعيات الخيام.

تجدر الإشارة إلى أن رواية وايلد قد دعمت المثلية الجنسية التى كانت تعتبر جريمة فى ذلك الوقت، ولهذا رأى وايلد أن فى الرباعيات انتصارا لفكرة الحرية الفردية والتحرر الجنسى من القيود الذى كان مفروضا من قبل الاتفاقيات الاجتماعية الفيكتورية. يُذكر أن وايلد قُدم للمحاكمة عام 1895 بتهمة المثلية الجنسية وحُكم عليه بالسجن سنتين مع الأعمال الشاقة، كما أن فيتسجيرالد ــ مترجم الرباعيات ــ عُرف هو الآخر بالمثلية الجنسية، وعليه كانت الرباعيات عملا أدبيا أكبر من مجسد للهيدونية والفلسفة الحسية؛ حيث كانت تمثل عملا سياسيا تخريبيا هدفه إعادة تشكيل المشهد الثقافى الفيكتورى.

فى السياق ذاته حظت الهيدونية بسمعة سيئة خلال العصر الحالى وخاصة بالنسبة لحركة الشباب الشعبية والتى كان شعارها «أنت تعيش لمرة واحدة فقط». اعتقدت تلك الحركة أن معتقدات الهيدونية (كشرب الخمر وتناول المخدرات) ليست من مبادئ الحرية على الإطلاق، وأن الحياة التى تتمثل بشكل أساسى فى السعى الدائم وراء الملذات ليست صائبة بأى شكل.

من ناحية أخرى يمكن أن تكون الرباعيات بمثابة الترياق المناسب للتفكير الحديث فى السعادة، خاصة بعد أن تحولت المجتمعات فى العصر الحالى إلى وضع الكثير من القيود على تدفق المشاعر وصار التعبير عن شهوة حب الحياة نادرا؛ فعلى سبيل المثال فى حال مطالعة أحد كتب المساعدة النفسية لن تتضمن نصيحة بالتدخين تحت ضوء النجوم أو تناول التيكيلا فى ملهى ليلى، ومع ذلك فقد كانت تلك المساعى فى يوم ما محورية وأساسية لسعادة الإنسان ورفاهيته منذ قرون.

ختامًا.. يقول الكاتب إنه بالرغم من كل ذلك يمكن للأفراد فى العصر الحالى استدعاء روح الخيام ورباعيته ولكن بما يلائم معتقداتهم وقيمهم من أجل المساعدة فى الانغماس فى أحداث الحياة اليومية وذلك عِوضا عن مراقبتها عبر شاشات الهواتف الإلكترونية، وإذا ما أرادوا الاستفادة من تجربة الفيكتوريين فعليهم الاحتفاظ بنسخ من الرباعيات فى جيوبهم جنبا إلى جنب مع هواتفهم، وأن يتذكروا كلمات الخيام:

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل