المحتوى الرئيسى

هنية رئيساً

05/16 18:38

من الجورة/عسقلان، استقر به الحال في مخيم الشاطئ للاجئين؛ حيث أمضى إسماعيل هنية حياته. من والده الشيخ "عبد السلام أحمد عياش هنية" تعلم الإنشاد والمديح النبوي، وتلاوة القرآن والطريق إلى المسجد؛ حيث تأثر بالشيخ "موسى غبن"، الذي أولاه رعاية خاصة، وكم كنت ألمح الفتى الذي لا يتجاوز عمره 15 عاماً إماماً وخطيباً في المسجد الغربي (الشاطئ الكبير).

صاحب ذلك انطلاق الشيخ الياسين بدعوته من مخيم الشاطئ؛ حيث التحق مع مطلع الثمانينات بركب جماعة الإخوان المسلمين، وقد شكل العمل الطلابي وعضوية ورئاسة مجلس طلبة الجامعة الإسلامية بغزة محطة البروز القيادي الطلابي لإسماعيل، الذي أنهى دراسته الابتدائية والإعدادية في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، بينما حصل على الثانوية العامة من معهد الأزهر الديني بغزة، قبل أن يلتحق بكلية التربية قسم اللغة العربية في الجامعة الإسلامية ويتخرج فيها.

كانت الانتفاضة الأولى محطة هامة في تاريخ إسماعيل هنية النضالي ضد الاحتلال الإسرائيلي، وعبر المعايشة المواكبة فقد تكونت جذوة المقاومة قبل انتفاضة 1987 وأثناءها.

ولعل ذلك يفسر اعتقاله بعد 15 يوماً فقط من اندلاع الانتفاضة، ومن ثم أعيد اعتقاله عام 1988 لمدة 6 أشهر "إدارياً" دون محاكمة، وقد حكم على هنية بالسجن 3 سنوات بعد ضربة 89 الشهيرة لحماس. وخلال اعتقاله تعزز بروز إسماعيل كأحد قادة حماس الشبان الذين يتطورون في السلم القيادي؛ حيث كان دوماً أميراً للقسم الذي يتواجد فيه.

وقد زاد مستوى القراءة والثقافة لدى أبو العبد في هذه المرحلة من تعميق شخصيته، وفي 1992 قرر رابين إبعاد أكثر من 400 من الحركة الإسلامية إلى لبنان، وكان هنية أبرز مبعدي مرج الزهور.

كانت تجربة ثرية أبرزت إسماعيل هنية عنواناً لحماس، وكانت أوسلو وما حملت من بوادر صدام بين حماس وفتح (السلطة)، وتأثر هنية بنيران تلك العلاقة المتوترة بين السلطة وحماس؛ حيث اعتقل غير مرة لدى الأجهزة الأمنية رغم علاقته الجيدة بأقطاب فتح الذين عبروا بأكثر من طريق عن مدى احترامهم لهذا الرجل الذي حرص كثيراً على إبقاء التناقض الرئيسي مع الاحتلال وضرورة صيانة الدم الفلسطيني.

وشكل خروج الشيخ ياسين في عام 1997 خضرمة تكوين شخصية "إسماعيل هنية"، السياسي والقائد؛ حيث لازم الشيخ الشهيد مديراً لمكتبه، وفي الحديث الشخصي يعتبر أبو العبد نفسه أن تلك الفترة التي قضاها برفقة الشيخ ياسين "أثمن وأفضل فترة" عاشها.

وقد تعرض خلالها الشيخ ياسين برفقة هنية لمحاولة اغتيال في السادس من سبتمبر/أيلول 2003، كما تعرض لمحاولة اغتيال أخرى حين أُرسل له طرد بريدي مسموم لمكتبه في رئاسة الوزراء، وبعد رحيل الشيخ ياسين والرنتيسي ارتقى أبو العبد لسدة القيادة السياسية لحماس.

كما مثلت انتفاضة الأقصى وما صاحبها من المقاومة وما جسده أبو العبد خلالها من عطاء في ظل قيادة الإمام الشهيد، تجربة ثرية أضافت لأبو العبد الكثير، وعاش خلالها أشهراً طويلة مطارداً، ولم يمنعه ذلك من المساهمة الفاعلة في استمرار مسيرة العطاء.

ومن هنا كان أبو العبد تلك الشخصية "الكاريزمية" المؤثرة التي تملأ غياب القيادة في حماس، علاوة على شعبيته الكبيرة في الشارع الفلسطيني، وعلاقاته المتميزة مع الفصائل الفلسطينية، وقد أضافت شخصيته الرياضية الكثير على مستوى الصفات أو الشعبية.

أكد القائد إسماعيل هنية، خلال قيادته للحركة، أنه شوري بدرجة فائقة، وأنه يحمل مشروع حركة قوية ذات أفق سياسي، وأنه لا يحيد عن السياسة العامة والقرار المؤسسي.

وقد ترأس هنية قائمة "الإصلاح والتغيير" التي فازت في الانتخابات التشريعية الفلسطينية 2006م بـ74 مقعداً ليغدو بعد ذلك أول رئيس وزراء لفلسطين من حماس ومن مخيم لاجئين في القطاع.

وجسدت رئاسة إسماعيل هنية للوزراء بعد انتخابات 2006م الحلقة الأهم في حضوره المحلي وعلاقاته الدولية والإقليمية؛ حيث حقق حضوراً كارزمياً عالمياً وثقلاً جماهيرياً وازناً، كما عمق خلالها من حضوره القيادي الحركي، ولعل محطات العدوان على غزة وقيادته سنوات الصمود على عجاف الحصار، وكذا الخروج بما يشبه الانتصار في حروب الإرادة والثبات في غزة نضجاً قيادياً فائقاً لإسماعيل هنية.

عبر الملامسة الشخصية لهنية الإنسان القائد فإنك تلمسه في قسمات وجهه وابتسامته المشرقة وسلوكه الأخلاقي الدمث، وتواضعه الشديد وحرصه على صلة الرحم، والتشاور الدائم بعيداً عن التفرد، علاوة على حرصه على القراءة والمطالعة فضلاً عن سعة اطلاعه السياسي، وأكثر ما يميزه صياغة المواقف الوحدوية، والقدرة الفائقة على الإقناع، ساعده في ذلك حفظه أجزاء من القرآن الكريم، كما أنه سريع البديهة علاوة على تمتعه بذاكرة دقيقة وهدوء يحسد عليه ووفاء سمح وحكمة ضابطة.

ربما مكّن ذلك أبو العبد من الفوز باستطلاعات الرأي لإسلام أون لاين (الموقع الأكثر زيارة في العالم) لعام 2007 كأفضل حاكم مسلم، ويفوز بفارق كبير كأكثر شخصية فلسطينية مقبولة في العالم العربي لعام 2007 في استفتاء جريدة القدس الفلسطينية، وكذلك على مدار استطلاعات رأي متعددة المشارب كان غالباً إسماعيل هنية المرشح الرئاسي الأفضل للشعب الفلسطيني.

وقف هنية اليوم على رأس أكبر حركة مقاومة معاصرة في العالم العربي بعد أن كان نائباً لرئيسها خالد مشعل في الدورة التنظيمية السابقة، ومن قبله موسى أبو مرزوق الذين ساهما عبر قيادة مكتبها السياسي في إرساء دعائم هذه الحركة.

ويواصل أبو العبد مشوار مشعل وأبو مرزوق في قيادة حركة مؤسسية شورية رسخت جذورها في الأرض عبر نظام مؤسسي رصين، وغدت تمثل دولة بكافة شروطها.

وفوز هنية يراه البعض تعزيزاً لغزة في قيادتها لحماس والتي تشكل فيها غزة رافعة لمشروع التحرير بأكمله باعتبار أنها الأرض التي يرفرف عليها علم فلسطين بحرية المراغمة ومذاق العزة لتمثل أمل جسر العودة والتحرير.

ويتسلم هنية قيادة حماس وهي تعيش معترك فلسطيني صعب ومفترق خطر، وتلف المرحلة الأزمات من كل جانب، فغزة تعاني حصاراً متفاقماً يمس كافة تفاصيلها، سواء في الكهرباء والتنقل والإعمار والرواتب والبطالة، خاصة في ظل إجراءات جديدة قررها محمود عباس، والتي تفاقم حالة الحصار المنهك لغزة على مدار عقد مضى، ويزيد هذا الإنهاك جولات من عدوان القتل والتدمير التي خاضتها غزة في فترات زمنية متقاربة كان أقساها 2014م حيث مسحت أحياءً بأكملها.

غزة التي تعبر حدود اليأس بمزيد من الصبر تشكل تحدياً صعباً أمام رئاسة هنية لحماس، خاصة في مكوناتها التنظيمية الراسخة وثقلها القيادي الوازن، ولكنها في ذات الوقت تشكل الرافعة لحماس ومشروعها باعتبارها الأرض الوحيدة في العالم التي تستطيع أن تقول فيها حماس رأيها بكل حرية دون كثير من حسابات سياسية مرهقة، ولعلها من هنا تمثل القرار الأول لهنية بأن يبقى في غزة، وهذا لا يمنع تنقله بين العواصم الممكن زيارتها كزائر خفيف الظل لا كمقيم يترتب على وجوده استحقاقاً سياسياً.

وعلى الناحية الأخرى، يقف هنية أمام تحدٍّ شرس؛ حيث تعيش الضفة الغربية والكنتونات المعزولة في ظل تنكر (إسرائيل) الكامل لمسيرة التسوية والتزاماتها، بينما يعمل فيها مبضع التهويد عبر الاستيطان وشق الطرق ولا رادع للاحتلال، وكذا القدس قلب فلسطين، بل تمضي فيها مخططات التهويد ضمن مشروع "القدس 2020" وحالة التيه تلف الضفة والقدس بين سراب التفاوض العبثية وإرهاصات انتفاضة القدس التي تعاني ويلات جز العشب والتنسيق الأمني.

وهنية أمام مشهد القدس والضفة يقف أمام تحدٍّ عميق، خاصة أن حركته هناك منذ أكثر من عقد لم تعد قادرة ببنائها التنظيمي على مواجهة حالة التراجع في المشروع الوطني، فضلاً عن عدم القدرة على تحقيق إعادة البناء الذاتي إلا في أضيق السبل، ومن هنا فإن تحدي إعادة الاعتبار لتنظيم الضفة والقدس يخضع للقاعدة الفقهية "ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، فضلاً عن الدور الأصعب في إنقاذ القدس والضفة من خطر الابتلاع التهويدي عبر مشروع وطني جامع، ولو في برنامج الحد الأدنى عبر توظيف جيد لوثيقة حماس السياسية والنضال لإقرار برنامج وطني جامع.

وليس بعيداً عن الضفة والقدس، فإن فلسطينيي 48 يعيشون مرحلة لا تقل حساسية في غياب الكاميرا تجري عملية مسح الهوية وسلب الأرض، ولعل هذا التحدي الغائب عن ذاكرة القوى الفلسطينية يحتاج هنية وفريقه استحضاره في ظل تعقيدات شكل العلاقة مع فلسطينيي 48 ومستوى قدرة حماس على إدراج هذا الملف على أجندتها.

هنية يتقدم الصفوف لقيادة كبرى الحركات الفلسطينية، والشعب الفلسطيني في الشتات يُعاني مرارة هجرة ولجوء جديد أو محاولة تغييب مقصود أو مشاريع توطين وتذويب، وما بين شتات فلسطيني معذب ومُغيب على حدود فلسطين وشتات فلسطيني غير مؤثر في أطراف الأرض في أميركا اللاتينية وكندا وأوروبا وغيرها تتجسد حالة التحدي أمام هنية في القدرة على الاستثمار لهذه الطاقات المليونية ومنع حالة الغياب.

تنظيماً هنية يتسلم حركة راسخة بهياكلها وأنظمتها وحضورها السياسي وتاريخها المشرق، ولكن هذا لا يمنع أن أمامه تحديات جساماً أمام استكمال حلقات هامة في البناء المؤسسي للحركة، وربما إعادة الهيكلة لتحسين الأداء وتحقيق حالة توازن في مكونات الحركة المتشعبة، سواء في غزة التي تمثل فيها حماس الثقل والرصيد، أو في الضفة التي تعيش حالة استئصال ممتدة أثرت على بنيتها التنظيمية بالكامل، أو في ساحات الخارج، والتي تبحث عن ذاتها في التحول من مكاتب حركية إلى تنظيم وازن يحقق حضوراً لافتاً في الأداء مع غزة العصية وحتى مع الضفة الجريحة.

الانقسام يلقي بظلاله القاتمة على المشهد الفلسطيني؛ ليضع على طاولة هنية سؤال المصالحة التي تجولت في العواصم دون أن تجد دواءً شافياً يخرجها من قيود الوثائق إلى رحابة الوقائع.

وزخم الحضور الوطني والعلاقات الداخلية الفلسطينية والقبول الشعبي والحضور الرمزي في غزة يمنح هنية أفقاً أعظم وتأثيراً أكبر في وضع نقاط جديدة على حروف المصالحة التائهة موظفاً هذا الإرث ومستثمراً التحول السياسي الذي قدمته وثيقة حماس التي مثلت السجاد الأحمر للضيف الكبير الذي مده مشعل أمام خلفه هنية.

ومن هنا، فإن مسار العلاقات الدولية لحماس يبدأ من تحت الصفر، وصولاً إلى حالة توازن عن طريق الصعود، والمدخل إلى ذلك جهد دبلوماسي حثيث يعيد الاعتبار لحماس برفعها من قائمة المنظمات الإرهابية ويؤكدها كحركة تحرر وطني وفق الشرائع والقوانين الدولية، والوثيقة السياسية مجدداً تمثل بارقة أمل على هذا الصعيد.

ٍ مبر/ولعل موقف ترامب المبهم حتى اللحظة قد يشي بضرورة بذل الجهد في اتجاه أميركا، فضلاً عن أوروبا وروسيا والصين وغيرها.

أما إقليمياً، فإن هنية يتسلم قيادة حماس في أدق وأخطر وأصعب مراحل الإقليم الذي يعيش مخاضاً مجنوناً، وجسد هنية دوراً محورياً في الآونة الأخيرة في ترطيب العلاقات مع مصر وإيران، مع تكريس لسيادة النأي عن أزمات الإقليم، وأن تبقى حماس عينها على فلسطين وقلبها ينبض في القدس وبوصلتها محددة المسار، وألا حسابات محاور في أجندتها، وتفتح ذراعيها لكل مساند للحق الفلسطيني الأبلج.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل