المحتوى الرئيسى

د.محمود الحوت يكتب: الأم والابن والروح القدس.. من خواطر سورة (مريم) – (2) | ساسة بوست

05/16 16:29

Follow @Check out د.محمود الحوت (@dr_elhoot): https://twitter.com/dr_elhoot?s=08

منذ 21 دقيقة، 16 مايو,2017

– كانت مريم لدى قومها في مكانةٍ عليِّة، فهي هبة امرأة عمران الخالصة لله مذ كانت في بطنها جنينًا، فهي العابدة الناسكة، التقية الورعة، الراهبة الزاهدة، وهي العذراء البتول التي ليس للرجال سبيل إلى حياتها.

* فَأَتَت بِهِ قَومَها تَحمِلُهُ قالوا يا مَريَمُ لَقَد جِئتِ شَيئًا فَرِيًّا ﴿27﴾.

– وصلت رحلة عودتها إلى نهايتها، وعبرت من أحد أبواب بلدتها وهي تحمل الغلام، في طريقها للساحة التي تتوسط البلدة. وأخذ بعض الناس في الاقتراب منها، ينظرون إليها وإلى الغلام، يكلمونها وهي ساكتة.

– وتسارع الناس في التوافد إلى تلك الساحة من كل حدبٍ وصوبٍ، وطفِقوا يتحلَّقون حولها، تتعالى أصواتهم وهمهماتهم التي تتحول إلى صراخٍ أحيانًا، ومريم لا تجيبهم وهي ثابتة صامتة تدير عينيها في جموعهم، لا تدري كيف ستتجه بها آية الله؟ وماذا سيفعل الله بها وبتلك الجموع من قومها؟ وكيف سيكون المخرج؟ ولكنها ممتلئة بالإيمان واليقين أن الله معها، وأنها في كنفِ رحمتِه.

– ولما تكاثر الناس وصاروا جمعًا كبيرًا، يتحدثون بما جاءت به مريم، ويتأملون الصبي الذي جاءتهم تحمله بين يديها، وأصواتهم تتعالى وقد خاضوا وتمادوا في الاتهام والقذف، لمريم وعِفتِها وطهارتها، ويخاطبونها بأن ما يرونه من مشهد طفلٍ تلده هذه العابدة المطهرة، يدل على أنها قد أتت فِعلًا منكرًا، وفاحشةً مبينة.

– وانبرى من بين الحشود رجلٌ يجيب على دهشة القوم الغاضبين من صمتها وعدم ردها على صيحاتهم، ويخبرهم أنه أول من التقاها من الناس حين رجوعها من معتزلها، وهو من سمع آخر قولٍ لها قبل صمتها وصيامها، وأعلمهم بما أخبرته به، من أنها قد نذرت صومًا لله، واعتزمت ألا تكلم اليوم إنسيًا.

* وبعد احتدام الموقف وتأزمِ المشهد واجتماع سكان المدينة قاطبةً، وربما لم يغِب عن الساحة أحد، يتوجه كبراؤهم وحكماؤهم لمريم بالنداء:

يا أُختَ هارونَ ما كانَ أَبوكِ امرَأَ سَوءٍ وَما كانَت أُمُّكِ بَغِيًّا ﴿28﴾.

يكلمونها والجموع الغاضبة من حولهم محتشدةٌ ينظرون ويسمعون: يناجونها بكنية محببة إليها ترمز لعراقة محتدها وطهر أسلافها (يا أُختَ هارونَ) ويا سليلة النبي الصالح هارون وسِبطِه المهتدين، ويذَّكِرونَها بما كانوا يحملونه نحوها من حسن ظن وثقة، فأبوها (عمران) الذي كان من الصالحين، ولم يكن من أهل السوء، وأمها التقية الشريفة التي وهبت ما في بطنها لله حال حملها بمريم، لم تكن أبدًا من النساء الفاجرات.

– يرجونها أن تخرج عن صمتها وتبطل صيامها لتعلمهم بالأمر الذي حدث، وبقصة ذلك الغلام وميلاده، وتجيب على تساؤلاتهم.

* ولربما رفعت مريم رأسها بعزةٍ وشموخ، ودارت بناظريها على جموع الحاضرين، وبثباتِ أهلِ الحق، وبيقين من يؤمن أن الله معه ولن يخذله، ترفع يدها ليراها الجمع كله وهي تشير لغلامها الذي تحمله:

فَأَشارَت إِلَيهِ قالوا كَيفَ نُكَلِّمُ مَن كانَ فِي المَهدِ صَبِيًّا ﴿29﴾.

علموا من إشارتها أنها لا تزال ممتنِعة عن الكلام والرد، وأنها تحيلهم وتساؤلاتهم إلى الصبيّ على ذراعيها.

ولم يظنوا أن إشارة مريم إلى الطفل تعني أن الطفل سيكلمهم، بل وقع في روعهم أن إشارتها إليه تعني أن يتجهوا هم إليه بالحديث، فكان عجبهم وسؤالهم المنكر لذلك: كيف لهم أن يكلموا أو يوجهوا أسئلتهم إلى طفلٍ وليدٍ؟! كيف يخاطبونه؟ وأنَّى للطفل أن يفهم قولهم وهو في المهد صبي؟!

* ولكن ما كان ليخطر لهم ببال، أن يكلمهم الصبي ويرد عليهم.

* قالَ إِنّي عَبدُ اللَّـهِ آتانِيَ الكِتابَ وَجَعَلَني نَبِيًّا ﴿30﴾.

– تلك مريم فتاة المعبد الناسكة العابدة التقية، تقف في ذلك الموقف المهيب، وبين يديها وليدها الصبي عيسى ابن مريم، عيناها لا تغادر وجهه الطفوليِّ الصبوح، ومن حولها الجموع الحاشدة من بني إسرائيل، يرقبونها وقد رأوها تشير نحو الصبي بيدها، وأعينهم تصوب النظرات إلى حيث أشارت، إلى ذلك الصبي، فصمتها وامتناعها عن الكلام، وإعراضها عن أسئلتهم واتهاماتهم، قد استَّفَزَّهم وأثار غضبهم، ولكنه استنهض فضولهم للتعرف على مقصدها من الإشارة للصبي كردٍ على أقوال حكمائهم. وما كانت مريم تدري ما سوف يقع، فقط فعلت ما وجِهَت إليه بأن تشير للصبي، ولكنها تعلم إيمانًا ويقينًا أن الله لن يُضَيِّعَها وطفلها.

– تتحرك شفاه الصبي وهو بين ذراعي أمه، ويتكلم بصوتٍ طفولي رقيق، تعلو نبراته حتى يصل لأسماع كل المحتشدين من بني إسرائيل، يؤازِره صمت قد أطبق على الساحة ومن فيها، فيسمع الجميع بيانًا من الكلمات المتدفقة من فم الصبي عيسى ابن مريم، يعلن إليهم وإلى البشرية قاطبةً وحتى قيام الساعة: أنه عبد الله، الذي آتاه الكتاب (الإنجيل)، وكلفه بالنبوة، ليكون في رجولته المبكرة، رسول الله إليهم، يتنزل عليه الإنجيل، ويقيم لهم الدين ويقوم عليه.

– ابتدأ عيسى الصبي في مهده إعلانه للناس، في أول ما نطق به من كلمات: (قالَ إِنّي عَبدُ اللَّـهِ…) واصفًا نفسه بأنه عبد الله، قاطعًا الطريق على الكثير من قومه وأتباعه الذين سوف يتعدون به مستوى المخلوق البشري، بعد تمام رسالته واختفائه من بينهم، ويتخذونه إلهًا من دون الله، أو يقولون عليه إنه ابنُ الله، سبحان الله عَمَّا يقولون وتعالى علوًا كبيرًا، وكبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذِبًا.

– هنا تكتمل الآية التي وُعِدَت بها مريم وعايشت تفاصيلها، وبدت أمام أعين بني إسرائيل ملامح تلك الآية.

فتلك مريم العذراء الطاهرة تلد طفلًا دون أن يمَسّها بشر، وهذا وليدها يتكلم في مهده ويعلمهم بأنه نبي من الله مرسل لهم بكتاب منه.

* وَجَعَلَني مُبارَكًا أَينَ ما كُنتُ وَأَوصاني بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمتُ حَيًّا ﴿31﴾.

– وأن الله جعله مباركًا في نفسه ولقومه، يحمل الخير والنفع للناس أينما كان. وكأن تلك البركة التي أكرمه الله بها ستتبدى في الهدى الذي جاء به، والدعوة إلى الله وحده وإحسان عبادته وإصلاح ما اعوجَّ من دين بني إسرائيل وشريعة موسى.

– وأن الله قد أوصاه بالصلاة والزكاة طوال حياته.

– وهكذا تكون نبوة عيسى ودعوته قد بدأت منذ هذا الوقت.

كانت تلك التعاليم هي باكورة ما جاءهم به من ربه، حيث أبلغهم وصية الله له كنبيِّ مرسلٍ وهي:

القيام على الصلاة والمداومة عليها عبادةً لله وتقربًا إليه وطاعةً له.

وأن يؤدي الزكاة فينفق المال في الخير، ويتزكى تطهيرًا لنفسه ويسمو بها فوق شهوات الحياة وزينتها، طوال عمره.

وبذلك يكون عيسى الصبي الوليد قد تقدَّم إلى القوم في تجمعهم، مُعرِفًّا لنفسه، فهو (عبد الله)، ودوره المُكلف به من الله هو أنه اصطفاه نبيًا، ثم جوهر دعوته، بعد العبودية لله وتوحيده أن يلتزم بالصلاة والزكاة، كعبادات وفروض، طوال حياته.

* ثم يأتي ليعلن دوره العائلي نحو والدته الصِدِيقة المطهرة.

وَبَرًّا بِوالِدَتي وَلَم يَجعَلني جَبّارًا شَقِيًّا ﴿32﴾.

فقد كانت تلك المعجزة التي شهدها الناس بكلامه في مهده وطفولته، هي إعلان ببراءة أمه مريم من كل سوء وظن يمكن أن يدور بصدور بني إسرائيل، فكانت معجزته هي بره الأعظم لأمه الصديقة، وقد جعله الله بارًا بوالدتِه، رحيمًا بها، محسِنًا إليها، ليمسح عنها أحزانًا وقلقًا ومرارةً أصابتها من جراء حملها وولادتها. فكان في حياته نموذجًا للبر والتسامح والرأفة والرحمة والتواضع، ماسحًا لجراح الجرحى وآلام البؤساء، ينشر الهدى والرحمة للعالمين، ولم يكن قط جبارًا ولا شقيًا تجاه أمه أو نحو أحدٍ من الناس.

* وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَومَ وُلِدتُ وَيَومَ أَموتُ وَيَومَ أُبعَثُ حَيًّا ﴿33﴾.

وتأتي خاتمة بيان عيسى وهو في مهده محمولًا بين ذراعي أمه، شاهدًا بطهارتها وصدقها وعِفَتِها، ومقدمًا نفسه لجموع بني إسرائيل التي تسمع وترى، مخبرًا لهم بما خَصَّه الله من سلام وسكينة وبركة في يوم مولِدِه، وفي يوم موتِه، وفي يوم بعثه في الآخرة.

لتتشابه مع خاتمة قصة زكريا ويحيى، إذ كُلِلَ كلاهما بسلامٍ قَدّره الله على كلٍ منهما، في يوم مولده ويوم موته ويوم بعثِه.

كان عيسى يتكلم عن نفسه يخاطب القوم المجتمعين فكان إخباره لهم بحلول سلام الله عليه «وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَومَ وُلِدتُ وَيَومَ أَموتُ وَيَومَ أُبعَثُ حَيًّا ﴿33﴾»

كان الحديث عن يحيى بصيغة الغائب أو كان مخاطبًا، فكانت دعوة السلام عليه دعوة من الله له كغائب «وَسَلامٌ عَلَيهِ يَومَ وُلِدَ وَيَومَ يَموتُ وَيَومَ يُبعَثُ حَيًّا ﴿15﴾».

* ذلِكَ عيسَى ابنُ مَريَمَ قَولَ الحَقِّ الَّذي فيهِ يَمتَرونَ ﴿34﴾ ما كانَ لِلَّـهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبحانَهُ إِذا قَضى أَمرًا فَإِنَّما يَقولُ لَهُ كُن فَيَكونُ ﴿35﴾ وَإِنَّ اللَّـهَ رَبّي وَرَبُّكُم فَاعبُدوهُ هـذا صِراطٌ مُستَقيمٌ ﴿36﴾.

يخاطب الله محمدًا وكل البشر من خلاله، مشيرًا ومقررًا أن ذلك الطفل عيسى ابن مريم، ذا الميلاد المعجز – الفريد، هو كلمة الله الحقة التي ألقاها إلى مريم، ليصير حمله وميلاده أمرًا مقضيًا، هو القول الحق الذي يتجادل فيه فرق من الناسِ بالباطل وبافتراء الكذب والبهتان على أمه، أو اتخاذه إلهًا مع الله أو إلهًا من دون الله، أو ادعاء أنه ابن لله.

* ما كانَ لِلَّـهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبحانَهُ إِذا قَضى أَمرًا فَإِنَّما يَقولُ لَهُ كُن فَيَكونُ ﴿35﴾.

وتُعلن الحقيقة الكونية، يسمعها بنو إسرائيل المحتشدون حول مريم وابنها، كما ستظل البشرية تسمعها إلى يومِ الدين، وسوف يسمعها أتباع عيسى الذين صدق إيمانهم وكذلك الذين انحرفوا بعقيدتهم، يسمعون أن الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، العزيز والغنيّ، القادر والقاهر، ما كان له أن يتخذ ولدًا، وليس سبحانه في تشابهٍ مع البشر وأحوالهم، فهو ليس كمثله شيءٌ، ولا ينقصه شيءٌ، ولا يحتاج لشيءٍ حتى يتخذ ولدًا مثلما يفعل خلقه، إنه إلههم وخالقهم، وإله وخالق كل شيءٍ، تعالى وتنَّزه عن أفعال خلقه، وعن كل ذلك سبحانه.

فإذا قضى أمرًا، أو شاء له أن يكون، فإنه يكون، وإن قال لشيءٍ كن، فإنه يكون.

– ما كانَ لِلَّـهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبحانَهُ…

يأتي خطاب قطعي حاسمٌ ينفي الله سبحانه أن يكون متخذًا لولد، عقب بيان للمسيح وهو في مهده طفلٌ، يعلن فيه بشريته وعبوديته لله وتكليف الله له بالنبوة.

– في سياق قصةِ زكريا ويحيى في مقدمة هذه السورة، تتضح الرغبة الشديدة والحنين الجارف في إنجاب الولد لدى زكريا الشيخ الكبير الضعيف، الذي وهن عظمه وشاب شعره، وبدأ يتحسب لعجزٍ يصيبه، أو مرض يعتريه، أو موت يأتيه، فيخشى على أمر الدين والشريعة أن يضيعها أتباعه وقومه، فينادي ربه، يدعوه أن يهبه ولدًا.

– إن الإنسان في نسخته الذكورية، ممثلًا في زكريا وهو في حالة من حالات الضعف والحنين البشري، واستشعار أن هناك شيئًا ينقصه، وجد نفسه في حاجة ليلجأ إلى ربه القوي القدير والرحمن الرحيم، يدعوه ليحقق له غايته.

(فالحاجة) للولد هي (ضعف) لدى الوالد، يسعد به قلبه، ويتعزز به في قومه، ويشاركه في سعيه، ويعينه في عجزه، ويرعاه في شيبتِه ومرضه، كما يتمنى الولد ليكون امتدادًا لذكره، يرث عنه علمه ويقوم على حاصل جهد حياته وثروته.

– وفي سياق قصة مريم الناسكة العابدة، المستغنية بعبادتها عن الناس وحياتهم، تحمل بكلمة الله ومشيئته، وينمو في بطنها جنينها، ثم يأتيها المخاض، فتتألم وتعاني، وتخاف وتحزن، فتلد طفلها. فولادة الولد في التجربة الإنسانية للأنثى، هو ضعف ووهن على وهن.

– إنجاب الولد للإنسان، ذكرًا أو أنثى هو حاجة طبيعية، وحنين نفسيّ، ونقصٌ فطري يسعى لاستكماله ذلك المخلوق.

ولكن ذلك لا يجوز للخالق صاحب الكمال والجلال، المنزه عن الحاجات والنقائص، لا يكون لله، لا يكون لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، سبحانه وتعالى وتنزه عن كل نقصٍ أو ضعفٍ، عن أي خوف أو حزن، وعن كل حاجة أو سعيٍ أو مرض أو هِرَمٍ، عن قعودٍ أو رقودٍ أو موت، تنزه عن الوريث وهو سبحانه من يرث الأرض ومن عليها.

* وَإِنَّ اللَّـهَ رَبّي وَرَبُّكُم فَاعبُدوهُ هـذا صِراطٌ مُستَقيمٌ ﴿36﴾.

يقررها الله في قرآنه، وربما أتم عيسى بها بيانه وهو يكلمهم صبيًا في مهده، ويقرؤها محمدٌ على العالمين مؤمنين أو مشركين، أهل كتاب أو أميين.

– يقولها عيسى لبني إسرائيل: فقد بدأ بيانه بأنه (عبد الله)، آتاه الله الكتاب، وجعله نبيًا، ويبدأ في التو يمارس نبوته ودعوته، مؤكدًا على أن الله هو رب عيسى وربهم جميعًا، فلن يكون لهم عذر أن يخلطوا بين مقام العبد والنبي عيسى وبين مقام الله الواحد الأحد.

فالله رب عيسى ورب بني إسرائيل ورب الناس أجمعين، وأن عليهم عبادته، فالإيمان بالله وحده لا إله غيره، ولا رب سواه، وعبادته وطاعته هي الطريق القويم للهداية والصرط المستقيم للنجاة والسعادة في الدنيا والآخرة.

– ويقرؤها النبي محمد في كتابه على قومه وأمته والناس أجمعين، مؤمنيهم ومشركيهم واليهود والنصارى فيهم، وتتردد الآيات على مسامعهم إلى يوم الدين.

يعلن لهم أن الله رب محمد، رب مشركي وكفار مكة ومن حولها، رب يهود ونصارى العرب والعجم، وهو رب الناس أجمعين. ويدعوهم كما دعاهم منذ نزول الوحي، إلى عبادةِ الله وحده، واتباع صراطه المستقيم.

فَاختَلَفَ الأَحزابُ مِن بَينِهِم فَوَيلٌ لِلَّذينَ كَفَروا مِن مَشهَدِ يَومٍ عَظيمٍ ﴿37﴾.

– وتنتهي المناظرة الخالدة، وقد اكتملت كل أركان الآية أمام أعين الحاضرين جميعًا.

– وينتقل زمان الحدث إلى الحاضر آن تنزيل آيات القرآن لتضم مشاهد الزمان ووقائعها معًا، فتأتي كلمات الله معقبةً على ذلك، تخبر الرسول (ص) وكل من يستمع القرآن، بأمرِ الخلاف الذي فرَّق بين الفِرقِ من بني إسرائيل في شأن عيسى ابن مريم.

فإن منهم من آمن بنبوته وبما جاء به، ومنهم من افترى الكذب فادعى أنه هو الله، أو ابنٌ لله، ومنهم من رموا عيسى بأنه كاذب، وأنه مولود من زنا، وبهتوا بهتانًا عظيمًا في حق أمه الصديقة مريم رضي الله عنها.

أما الكافرون الذين لم يؤمنوا به رسولًا من عند الله، وأنه كلمة الله التي ألقاها إلى مريم، وأن ميلاده بدون أبٍ هو آية من الله، والذين كذبوه، والذين بالغوا في تقديسه فاتخذوه إلهًا أو ابنًا لله، وعبدوه مع الله أو من دون الله، فيتوعَّدهم الله بالويل والعذاب الشديد في يوم الحساب العظيم، الذي تصوره كلمات قليلة، ليبدو بمشهده الهائل والرعيب.

* أَسمِع بِهِم وَأَبصِر يَومَ يَأتونَنا لـكِنِ الظّالِمونَ اليَومَ في ضَلالٍ مُبينٍ ﴿38﴾.

ويستمر وعيد الله لهم، ويُخَاطَبُ النبيُّ وسامِعو الآياتِ بأنه حسبهم أن يسمعوا أو يبصروا ما يلقاه هؤلاء الكافرون في ذلك اليوم الذي لهم فيه شأنٌ مهولٌ، يملأ الأسماع ويأخذ بالأبصار، حين يأتون فيه ربهم أو يُؤتَى بهم أذلاء خاضعين مُجبَرين، وبأنفسِهم قادمين إلى حيث الحساب والجزاء.

ويا لهُ من وعيدٍ حين يكون جبار السماوات والأرضِ هو المتكلم.

ولكن برغم ما ينتظرهم من حساب وعذاب في الآخرة، فإن هؤلاء الظالمين والمكذبين، لا يتَحَّسَبون لذلك اليوم الذي يأتون فيه ربهم، حيث مشهد الحساب العسير، بل هم عن الحقِ والبعثِ والحساب، وعن الهدى ضالين، ضلالًا غير خافٍ ولا ملتبسٍ، ضلالٌ بينٌ وجَلِيّ.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل