المحتوى الرئيسى

الصيام.. العادة القاتلة

05/15 11:09

لقد دأب الصحابة الكرام ومَن تبعهم بإحسان على تقفّي أثر هذا الشهر، واستقباله بحفاوة إيمانية بالغة، ويسعون من خلاله إلى إخضاع أنفسهم لعملية تحول كبيرة على مستوى النفس والجسد، فيكسرون عادة البحث عن اللذة، ويكبحون جماح رغباتهم الدنيئة، فالصيام هو عملية تهذيب للنفس والجسد قصد تهيئتهما للتواصل القلبي مع الله -عزّ وجلّ- والوقوف ببابه.

وعامة المسلمين، للأسف، يكونون على الموعد مع الشهر الكريم، لكن بمنطق مخالف تماماً لما ذكرناه سلفاً، منطق استهلاكي صرف، يخاطب فينا الجانب الحيواني فقط، بل ويتعداه إلى محاولة إقبار كل ما هو روحاني في هذا الشهر المبارك.

الكل يستعد لرمضان؛ شركات الإنتاج وشركات الإعلانات، والإعلام العام والخاص، والشوارع والمحافل العامة وكل شيء يتآمر ضد هذا الصائم الذي ينبغي احتواؤه وتحويله لدابة مستهلكة تمشي على بطنها.

فالإنسان في هذا الشهر وبفعل كل هذه المؤثرات يتحول إلى كائن مستهلك، لا يستطيع الصمود أمام إغراء السوق فيما يخص المنتجات "الرمضانية"، فكل إشارة على قرب الشهر لا بد أن تكون مرفوقة بمنتج جديد وتخفيض جديد.

هذا المنطق السوقي انغرز في عقيدتنا وسلوكنا، وبِتنا نستعد للصيام بشراء أطعمة من كل صنف ولون، بل وتجد النساء يفاخرن ويتسابقن في إعداد موائد ملكية زاخرة، ينتهي أكثر من نصفها في القمامة؛ ليذهب الرجل للمسجد وهو يتجشّأ في كل لحظة، ويؤدي الصلاة بتثاقل مفرط دون وعي أو استشعار لشاعرية لحظة الوقوف المهيبة أمام الله.

ثم إن الإعلام العربي لا يغفل أبداً عن هذا الجانب ويسعى لإرضاء جميع الأذواق ولسد جميع الثغرات، فهناك برامج يومية خاصة بالمطبخ، تحث النساء على ملء الموائد بوصفات رمضانية خاصة وحصرية، وفي آخر اليوم برامج طبية تعلمك كيفية التخلص من وزنك الزائد، وفي هذه الحالة يصح جداً أن نسمّيه "مرضان" وليس "رمضان".

وشركات الإنتاج طبعاً لا تهتم بالبطون فقط بل حتى العقول، وكما يقول جلال عامر: "لقد تحول رمضان من ثلاثين يوماً إلى ثلاثين حلقة"، إنتاج إعلامي كثيف بمستويات مختلفة ويهم جميع الشرائح.

والكارثة الكبرى أن المحتوى في غالب الأحيان يكون مائعاً، لا علاقة له بروحانية الشهر، فإذا كان الله يكبل الشياطين ويرميها في البحر، فالإعلام يصنع لنا شياطين جديدة تستهدف عقولنا وقلوبنا فننساق خلف اللذة، وحلقة بعد حلقة، ثم فراغاً بعد فراغ ولا ينتهي الشهر إلا وقد دخل الإنسان في دوامة من الحلقات المفرغة.

والإعلام ليس سوداوياً لهذه الدرجة فمن الضروري أن يعطي للدين حقَّه، فبمناسبة الشهر الكريم لا بد من تنظيم مسابقة في تجويد القرآن، وإنهاء اليوم بابتهالات ربانية هادئة، وكأنه الهدوء الذي يسبق عاصفة الميوعة، وهكذا ندخل في نمطية قاتلة تخاطب كل الزوايا الإنسانية لتنتج لنا بعدها كائناً مضطرباً ومنتشياً.

ولا نستغرب أن هناك فئة مهمة من الناس ينقلب الوقت لديهم رأساً على عقب، فتجد الصائم منهم يقضي اليوم كله في النوم العميق، ويستفيق بشكل متأخر ليؤدي الصلوات مجتمعة ويستعد لوجبة الفطور الدسمة، ثم ينصرف إلى المسجد ليصلي مثل كل الناس، وبعدها مباشرة يتحول إلى كائن ليلي يطارد الفتيات في الشارع ويقضي ليالي حمراء مع رفاق ورفيقات الدرب، أو يقضي الوقت في السهرات العمومية التي تنظمها الدولة وتحرص على تنظيمها في كل ليلة وفي كل مدينة، ويظل هكذا حتى الصباح، فالمدن لا تنام في رمضان.

والمفروض في الصيام أنه عملية تهدئة للنفس وطمأنة للروح والوجدان، لكننا نجد العكس تماماً في واقعنا، ففي الخارج الأجواء مكهربة ومضطربة، والكل قلق ومتشنج ومتوتر والكل يرجع الحالة المتوترة إلى الصيام، أمر غريب أن ننسب سلوكياتنا الشاذة إلى الصوم، ولا نكتفي بردات الفعل الشاذة تلك بل يتعدى تعبيرنا عن غضبنا أحياناً إلى حمل السلاح والتهديد به، وليست قليلة هي أخبار القتل التي نراها في التلفاز ونسمعها من خلال الراديو، وهي ظاهرة تسمى عندنا في المغرب "الترمضينة"، يتحول على أثرها الصائم إلى كائن عدواني يمكن أن يؤذي كل مَن يقترب منه.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل