المحتوى الرئيسى

مُشركٌ مستجيرٌ بكم!! | المصري اليوم

05/15 00:14

أنقل حكاية أوردها حسين أحمد أمين فى سفرِه القيم «ألف حكاية وحكاية من الأدبِ العربى القديم»، وظنى أن الحكاية تشرح التعقيدات الشديدة التى ترتبط بالمسائل العقدية، وما يُمكن أن يُفضى إليه تناول هذه المسائل من نتائج خطيرة وغير متوقعة.

بطل الحكاية هو «واصل بن عطاء»، الرجلُ الذى يُنسَبُ إليه الفضل فى تكوين الحلقة الأولى من حلقات «المعتزلة»، وهى فرقة فلسفية التصق اسمُها بالتيار العقلى فى الإسلام.

تقول الحكاية: «كان الخوارج إذا أصابوا فى طريقهم مُسلماً على خلاف مُعتقَدِهم قتلوه لأنه عندهم كافر، وإذا أصابوا نصرانيا استوصوا به خيراً وقالوا: احفظوا ذمة نبيكم!، وقد حُكى أن واصل بن عطاء أقبل فى رفقة فأحسوا بالخوارج، فقال واصل لأهل الرفقة: إن هذا ليس من شأنكم، فاعتزلوا ودعونى وإياهم. وكانوا قد أوشكوا على الهلاك من الخوف، فقالوا له: شأنك (أى اصنع ما تراه).

فخرج واصل إلى الخوارج فقالوا له: ما أنت وأصحابك؟

قال: قومٌ مُشركون مستجيرون بكم ليسمعوا كلامَ الله ويفهموا حدوده.

قالوا: قد أجرناكم. (أى سنمنحكم الأمان والحِماية).

فجعلوا يعلمونه أحكامهم، ويقول واصل: قد قبِلتُ أنا ومن معى.

قالوا: فامضوا تصحبكم السلامة، فقد صِرتم إخواننا.

فقال: بل تُبلِغوننا مأمننا لأن الله تعالى يقول: «وإنْ أحدٌ من المُشركين استجارك فأجِره، حتى يسمعَ كلامَ الله، ثم أبلِغه مأمنه».

فنظر بعضُهم إلى بعض، ثم قالوا: هذا لكم. فساروا معهم بجمعهم حتى أبلغوهم المأمن»

انتهت القصةُ، وهى- على غرابتها- تشرح الطريقة الشاذة والملتوية التى يعمل بها العقلُ المُتطرف. هى أيضاً تكشفُ هذا العقل وتفضحه. هو عقلٌ نصى حرفى. يُمكن بسهولة التلاعُب به عبر توظيف النصوص كما فعل «واصل بن عطاء» الذى رأى أن آية «وإن أحدٌ من المُشركين استجارك...» ستحرج الخوارج أكثر من أى شىء يقوله فى الدفاع عن عقيدته الإسلامية كما يفهمها. العقلُ النصى قدرتُه على الاستنباط جد محدودة. بالتالى تسهل مفاجأته بتناقضات «نصية» لا يُمكنه التعامل معها.

مسائل الكفر والإيمان لها تاريخ طويل مع الأديان الإبراهيمية الثلاثة.المنظومة العقدية لهذه الأديان تقوم- بدرجات متفاوتة- على فكرة «الخلاص الحصرى» للمؤمنين بها. هذا ليس جديداً ولا ينبغى أن يُمثِّل مفاجأة لأحد. تاريخ هذه الأديان ملىء بالتكفير والتكفير المُضاد. بالتبديع (من البدعة) والتفسيق (من الفسوق) فى حالة الدين الإسلامى، والاتهام بالهرطقة وصولاً إلى الحرمان الكنسى فى حالة المسيحية. التيار الفقهى/ اللاهوتى العام فى الديانات الثلاث لا يكتفى بتكفير أصحاب الديانات الأخرى، وإنما يُكفِّر أصحاب الفرق الفكرية والمذاهب المختلفة بعضهم البعض أيضاً.

هذا تاريخٌ معروف. استمر قروناً طوال. أنتج تُراثاً ضخماً من المُجادلات الفقهية حول المسائل الإيمانية. الإنسان فى العصور الوسطى كان يشغله سؤال رئيسى: أين سأذهب بعد الموت؟ هل أكون من الفائزين بالجنة؟ كيف أنجو من عذاب النار؟. من رحم هذا التساؤل المحورى خرجت فلسفات كُبرى، وأنماط متعددة من التفكير الدينى. فى الإسلام، كما فى المسيحية، كانت هناك دوماً تساؤلات حول ما يُدخِل المرء الجنة: هل يكفى الإيمان وحده؟ أم يحتاج المرء إلى الأعمال الصالحات أيضاً؟. وما الذى يُدخِل المرء النار؟ أى نوع من الكبائر يُلقى بالإنسان فى جهنم؟ وهل هناك منزلة بين الجنة والنار؟

هذه التساؤلات أرقت البشر زمناً طويلاً. كم من صفحاتٍ سوِّدت، وكم من صحائف كُتبت، وكم من حواشٍ أُضيفت إلى نصوص، ثم حواشٍ تشرح الحواشى بهدف مناقشة هذه الأسئلة الخطيرة وما على شاكلتها.

لا مجال هنا للاستخفاف بهذا التراث الإنسانى الضخم. عقلنا المُعاصر مدينٌ فى تكوينه- على الأقل فى جانب مهم منه- إلى هذا الفكر الدينى. حياتنا الحاضرة هى حصيلة تلك التراكمات من التفكير الإنسانى فى تفسير الوحى الإلهى. ولن ينقطع التفكير فى هذه الأمور. العقيدة هى عِماد وجدان الفرد. هى القيمة الأهم فى حياته. قُدسيتها تتجاوز وجوده. إنها العروة الوثقى التى تربطه بماضيه، بأهله وأجداده. وهى ممتدة فى بقائها بعد رحيله عن الدنيا. العقيدة- فى أبسط تعريف لها- هى مجموعة من القيم العُليا التى يؤمن بها الفردُ إيماناً مُطلقاً لا يقبلُ التشكيك. بهذا المعنى، صعبٌ أن تجد إنساناً يعيش من دون عقيدة مُعينة، إلهية كانت أو أرضية. طبيعة الكائن البشرى تدفعه دفعاً إلى هذا النوع من الإيمان بشىء أكبر منه، بل وأكبر من الحياة ذاتها. من دون هذا الإيمان يشعر الإنسان بالضعف والوحشة والعزلة. يصير فريسة للعبثية واللاجدوى والقنوط من الحياة. الأهم، أن العيش فى مُجتمعات يُعزز هذا الميل إلى الإيمان. البشر الذين يؤمنون بذات القيم يستطيعون التعامل مع بعضهم البعض بصورة أفضل. يسود بينهم انسجامٌ نابع من إيمانهم المُشترك. يُصبح من الأسهل عليهم تنظيم حياتهم الاجتماعية وفقاً لـ «مدونة سلوك» مُستمدة من القيم العُليا التى يؤمنون بها.

على أن البشر قد توصلوا- بعد قرون من الدم والعذاب والقتل- إلى أن مناقشة أمور العقيدة يتعين أن تظل بعيدة عن كل ما يؤثر على إدارة شؤون المجتمع، أو استقراره. دخول الجنة أو النار مسألة لا يتعين أن يكون لها أى انعكاسات على عيش الفرد فى المُجتمع، أو على مكانته فى هذا المجتمع وشعوره بالانتماء الكامل له والمساواة الكاملة مع باقى أعضائه. هذا الفهمُ هو السبيل الوحيد للنجاة من «عالم القرون الوسطى» المُنشغل بتصنيف البشر إلى فسطاط الناجين، وفسطاط الهالكين، ومن هم فى منزلة بين المنزلتين.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل