المحتوى الرئيسى

مآسى رصيف «السيدة»: الأمراض تنتشر من خلال التثبيت والانتهاكات الجنسية

05/14 10:31

حياة بائسة لم يكن لهم فيها حرية الاختيار، وظروف متشابهة أخرجتهم من ذلك البيت الذى شهد صرخاتهم الأولى فى الدنيا، قبل أن يلفظهم إلى مكان آخر لا سقف فيه ولا جدران، حيث شارع ضاق -رغم اتساعه- على من فيه، فيتجاذبون بعضهم إلى بعض كأفراد أسرة تفرّق شملها.

إذا ما أردت لقاء أحدهم، يجب أن تبدأ عملية بحثك فى واحد من أماكن تجمعهم، ومن بينها محيط مسجد السيدة زينب، حيث قررنا الذهاب ووجدنا العشرات من «أطفال الشوارع»، منهم من لم يتخطّ عامه العاشر بعد، ومنهم من بلغ منتصف عقده الثالث، بعد أن جاء طفلاً يحتمى برحاب «الست».

حكايات مجاورى «أم العواجز» «اللى زينا لما يتعب يقول يا رب.. والمستشفى آخر مكان نقدر نروحه.. وآخرتنا عربية تيجى تكشف علينا»

بشرة تميل إلى السمرة اكتسبها من شمس الصيف الحارقة، وشعر «ناعم» أعلى رأسه تدلى على جبينه، وملامح لم تظهر عليها قسوة الشارع بعد، وملابس -رغم اتساخها- لم تفقد تهذيبها، هكذا كان (أ. ف)، صاحب الـ14 عاماً، أحد أبرز أطفال الشوارع فى محيط مسجد السيدة زينب، رغم أنه لم ينتقل إلى هذا المكان إلا منذ 10 أيام فقط، بعد أن كان يقيم فى مكان آخر لأعوام.

انفصل والدا (أ. ف) عن بعضهما قبل أن يبلغ عامه العاشر، ليتزوج أبوه من أخرى قبل شهر واحد من الانفصال، وتتزوج الأم بآخر بمجرد انتهاء شهور عدتها، ليظل الطفل منبوذاً بين الاثنين، فلم يقبله زوج أمه ابناً، وكذلك لم تقبلة زوجة أبيه التى طردته من بيتها: «سايب البيت بقالى 3 سنين ونص، كان عندى وقتها بالظبط 10 سنين و6 شهور، وأول ما خرجت جيت على جامع الحسين وقعدت فيه، فضلت هناك فترة كبيرة، وبعد كده جيت السيدة».

بيع «المناديل» كان هو طريق جلب المال الذى اتبعه (أ. ف)، ليبدأ عمله من السابعة مساء كل يوم إلى ما بعد منتصف الليل: «ساعات ربنا يرزقنى وساعات لأ، وبخلى شغلى بالليل عشان الجو بالنهار بيكون حر، ولما بخلص شغل باجى أنام فى الساحة إللى جنب الجامع لحد ما يفتح».

يجمع الطفل من خلال عمله هذا بعض النقود التى يأخذها فى جيبه الصغير كل شهر أو أكثر، ويسلك طريق العودة إلى منطقة «الزاوية الحمراء»، حيث بيت أمه وزوجها، يقضى معهم بضعة أيام ليعود أدراجه إلى الشارع بعد ذلك مرة أخرى: «مبقتش تقول لى حاجة لا هى ولا جوزها لأنى بيكون معايا فلوس، لكن لو مش معايا فلوس بيرمونى فى الشارع».

أزمة صحية يعانى منها (أ. ف) وغيره من أطفال الشوارع، لاسيما أولئك الذين لا يملكون أوراق تحقيق الشخصية: «لما بتعب بقول يا رب اشفينى أو بروح أزور ستنا زينب لأن اللى زينا ملوش مكان يكشف فيه»، ليعبر عما يعتريه من شعور سلبى اختمر داخله نتيجة نظرة من حوله إليه، فيقول بنبرة رجل كبير علمه الشارع ما لم يتعلمه فى 4 أعوام فقط قضاها بين جدران المدرسة: «بص منظرى؟ ده منظر واحد يدخل مستشفى؟ ولما بروح مستشفى بيكونوا عايزين فلوس، ده غير إنى عندى كهربا زيادة على المخ، ورُحت أكتر من مستشفى وعيطت لهم، وبقيت أحس إن الواحد ممكن يصعب على الكافر وميصعبش عليهم».

الثياب المهذبة غير الممزقة، والحذاء «الجديد»، كانت أمور تثير دهشة من ينظر إلى (أ. ف) رغم أنه واحد من أطفال كثيرين حوله ليسوا بمثل هيئته، وإن كانت ملابسه لم تحتفظ بنظافتها لظروف معيشته، وهو ما يفسره الطفل قائلاً: «الكوتش والبنطلون دول واحدة هى اللى جايباهم لى، وكانوا جداد، ساعتها صعبت عليها عشان كده جابتهم لى، بس زى ما انت شايف بقوا عاملين إزاى من النوم فى الشارع»، ليختم الطفل حديثه، وهو ينظر بعينيه إلى أسفل قائلاً: «نفسى أمى وأبويا يحبونى وهما الاتنين يرجعوا لبعضهم وميطلبوش منى فلوس، والله العظيم ما هنزل الشارع ده تانى وهرجع المدرسة، بس هم مش عايزينى، هم عايزين الفلوس وبس».

فى الجهة المقابلة لمسجد السيدة زينب، كان طفل آخر أسمر، فى منتصف عقده الثانى، قد عبر الطريق لتوه ممسكاً فى يده طفلة أخرى لم تبلغ عامها العاشر بعد، ليتجها إلى كشك صغير، تجلس أمامه امرأة عجوز، فيضم يده إلى جيبه لتخرج قابضة على 50 قرشاً، كانت كافية لأن تشترى له «سيجارة»، يأخذها وقد تبدت على وجهه ابتسامة الظفر، ليتجه مرة أخرى إلى الجامع بعد أن حمل الطفلة على يديه، بشىء من الدعابة، ليعبر بها الطريق.

«جيت القاهرة هنا وأنا عندى 12 سنة، أول ما نزلت نزلت شبرا الخيمة، وقتها كنت ببيع شاى فى رمسيس والعتبة، وبعد كده جيت هنا السيدة»، يقولها الطفل (ط. ع)، بعد أن وضع سيجارته فى جيبه، ليوضح أن ضرب أمه له بعد أن مات والده، كان هو السبب الذى جعله يترك بيته فى السويس، ليظل عامين فى شوارع محافظته، يعود للبيت تارة، ويخرج منه تارة أخرى إلى أن استقر فى محيط «السيدة زينب»: «زمان وأنا صغير كنت بشوف عيال حرامية كتير، وكان نفسى أطلع ظابط عشان أمسكهم كلهم، بس خلاص مش عايز ده دلوقتى، وكمان خلاص مش عايز أرجع البيت تانى».

ليس لـ(ط. ع) عمل ثابت يقوم به مثل كثيرين غيره من أطفال الشوارع، حيث يظل ماكثاً فى جامع السيدة زينب، يأكل ويشرب مما يتبرع به «أهل الخير»، وذلك بعد أن حاول العمل، لكنه لم يتمكن من الاستمرار فيه: «فيه يومين رُحت فيهم أشتغل مع مقاول، كان عايزنا نفحت له مكان كبير كده، وكنا بناخد فى اليوم 70 جنيه، بس الشغلانة كانت صعبة عشان كده مكملتش فيها».

مثل غيره من أطفال الشوارع، يعانى (ط. ع) من بعض الأمراض التى يعرف كيف وأين يداويها، رغم تردد بعض الأطباء، حسب قوله، على مسجد السيدة، من حين إلى آخر لتقديم المساعدات الطبية لهم: «فيه عربية بتيجى هنا تكشف علينا كل فترة، غير دى مفيش حاجة بنعرف نكشف فيها، لأننا مش زى الناس الكبيرة اللى موجودين فى المكان، بيكون سهل عليهم يروحوا مستشفى أو حتى يجيبوا حد هنا، وأنا ساعات بيجيلى تشنجات، ولما بتجيلى مبكونش عارف أعمل إيه عشان مفيش مكان أروحه».

فى ساحة المسجد الخارجية، أخذ يجرى ذلك الطفل ذو الجسد الهزيل، ومن خلفه آخر، يكبره جسماً وعمراً، يسبه بألفاظ قبيحة ويضربه إذا طالته يداه، ويأتى بطفل آخر صغير، يعطيه عصا، يجرى بها خلف صاحب الجسد الهزيل إلى أن يخرج من المسجد فاراً من بطش أولئك الذين تكالبوا عليه فى الداخل: «بكون نايم وفى حالى ألاقى اللى جاى يفتش فى جيبى، ولو اتكلمت يطلع موس يحطه على رقبتى، ومقدرش أتكلم أو أقول لحد لأنهم ممكن يضربونى»، يقولها (أ. س)، أحد أطفال الشوارع المقيمين فى محيط مسجد السيدة زينب، بعد أن التقط أنفاسه من مسافة طويلة قطعها مهرولاً بعيداً عن المسجد.

يوضح (أ. س) أن معاملة أبيه له هى التى دفعته إلى ترك محافظته «سوهاج» والنزوح إلى القاهرة، حتى يستريح من ضرب أبيه له «عمال على بطال»: «أى حد كان بيضايقه كان بيضربنى أنا، ولما كنت أسأله إنتَ ليه بتضربنى يقول لى بفش غلى فيك، وممكن نكون قاعدين عادى خالص وأبص ألاقيه قام مرة واحدة يضرب فيا، وبعد كده يقول لى أنا مكنتش فى وعيى»، وسوء المعاملة لم يقتصر على الأب وحده، وإنما كان من زوجة أبيه التى أتى بها والده إلى البيت بعد شهور قليلة من وفاة والدته، لتموت هى الأخرى ويتزوج بثانية لم تختلف معاملتها له عمن سبقتها.

المرة الأولى التى جاء فيها (أ. س) إلى القاهرة، كان عمره وقتها لم يتخطّ 16 عاماً، ليعمل ليلاً فى مقهى بميدان رمسيس، فيعرف بعد شهرين أن والده يبحث عنه بعد أن وضع صوره فى الشوارع، ليعود من نفسه، ويقنع والده أنه سيبقى فى القاهرة يعمل ويعود إليه كل فترة يعطيه بعض المال: «بعد ما رجعت تانى قعدت شهر ونص من غير شغل، وكنت ساعات أشحت أو أمد أيدى وأحاول أسرق، بس اتمسكت كذا مرة وانضربت، لحد ما عرفت إن كيلو الكانز الفاضى بيتباع بـ7 جنيه ومن ساعتها وأنا شغال فيه»، رحلة طويلة يقطعها الطفل ابتداءً من منطقة السيدة زينب مروراً بـ«السيدة عائشة» ومنها إلى «منشأة ناصر» ليبيع فيها ما جمعه فى هذه المسافة، ثم يتجه بعد ذلك إلى منطقة «عباس العقاد» يكمل عمله هناك حتى قبيل الفجر، ليعود مرة أخرى: «لما برجع بيكونوا قافلين، بقعد على قهوة لحد الصبح وبعد كده أروح أبيع الحاجة وآجى أنام فى الجامع».

ومن الأطفال الصغار إلى الكبار، حيث العشرينى حسن ربيع، الذى خرج من بيته منذ أكثر من 13 عاماً، قضى منها 10 أعوام كاملة فى رحاب مسجد السيدة زينب، بعد أن قضى 3 أعوام فى الترحال بين الموالد المختلفة فى محافظات الجمهورية كلها: «حاولت أرجع البيت كذا مرة وفعلاً رجعت مرة وقعدت 6 شهور، ووالدى فى الفترة دى مكانش بيضربنى غير بكابلات الكهربا الكبيرة، وضهرى وقتها كان عامل زى ما يكون حد ربطنى وعذبنى، عشان كده مستحملتش ومشيت تانى».

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل