المحتوى الرئيسى

فلا نامت "أعين اللي كان السبب"

05/14 08:48

من واقع تجربةٍ خلف الأسوار، لن أصِفها أنا بالمريرة فهناك الآلاف داخل السجون المصرية ذاقوا أنواعاً من المرارةِ لم أذُقها فهم الأجدر على تأليفِ الكتبِ ونسج الموسوعات عنها، لكنّ عاملاً مشتركاً بين كل من مر على تلك الأماكن مهما طال مكوثه بها أو لم يطُل، هو الحنين إلى الحرية، والرغبة في محو ذلك الجزء المظلم من شريط العمر قبل أن يفرض ظلامه بلا رحمة على بقية الأجزاء.

وما بين أبوابٍ فولاذية وأسوار خرسانية وأبراج، وبوابات وأسلاك، تقبعُ أجسادٌ لا تمتلك التحكم في عقولها ولا تقوى على إخضاعها لأدوات الأسرِ تلك، فتبقى الأجساد وتهفو العقول والأرواح بائسةً باحثةً عن مصائرها التي لا تعلم عنها سوى اللاشيء على الإطلاق!

أطفال وشيوخ وشباب ونساء، تعانقهم جدران الموت البطيء يومياً، عناقاً كألفِ عام، ساعته أقرب لساعةٍ من يوم التغابن، ضحايا مأساةٍ يعيشها الوطن وصراعٍ يبدو أن أطرافه باتوا يستمتعون به ولكلٍّ أسبابه ومكاسبه، دون النظر إلى مَن يُزج بهم من خلفهم أو إلى مَن يعبرون على أرواحهم وأحلامهم وأعمارهم داخل السجون وخارجها.

ومما بات لي جلياً أن من أفرزته تلك الشهور الطويلة من الصراعات ما هم إلا مغيَّبون، منهم من أعمته الدماء فاتخذ من الهوجاء واللاعقل منهاجاً، ومنهم من أعماه الجاه فبطش وتجبر، وبينهم ساذج، يعتقد بـ"مرسي راجع"، وبعضهم يُدين بـ"عايزينه للآخر"، وعلى الحافة الهشة بين الحياة والعدم، وطننا الذي لا نعرف كيف نستقر إليه.

ومما يصعب على عقلي استيعابه حتى الآن أن من ارتضى لنا خريطة الفشل والعذاب التي نذوب فيها حالياً، غير قادرٍ على وضع رؤية للخروج من المأزق ولو بخسارةٍ مؤقتة، رغم ما أراه أن مكسب الجميع الآن يكمُن في الاستقرار وإخراج كل من هو مظلوم في السجون، ووضع حد لما تتعرض له أرواح بريئة من إزهاقٍ وإنهاكٍ يومي، فلم يخطئ بيغوفيتش حين قال: "إن اتفاقاً غير منصف خيرٌ من استمرار الحرب".

لم تطاوعني يداي أن أختم حديثي دون التطرق إلى هؤلاء الذين يعيشون في عوالمٍ موازية وفي كبائن مُعلقة خارج الغلاف الجوي آمنين، يطُلون علينا من نوافذ قميئة، يبدعون فيما يؤجج النار ويشعل لهيب الصراع دون الالتفات لمن تتفحم أعمارهم في محرقة الواقع المُعاش، رغم أن جزءاً من مفاتيح المرحلة بأياديهم المرتعشة، المترفعة كبراً عن الاعتراف بالفشل الساحق.

وإكراماً لمن يجلسون الآن داخل زنزانتهم المظلمة، كادت نظراتهم لبابها أن تثقبه، لزاماً عليَّ أن أختم كما بدأت، بهم وعنهم أكتب، ضحايا الحماقة والفشل، أصحاب الفخامة الحقيقية والسمو غير الزائف، لكمُ الله، فلا نامت أعين "اللي كان السبب".

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل