المحتوى الرئيسى

بلاد الظلم أوطاني

05/14 08:48

نُولد صغاراً ضعافاً لا نقوى على برد وجوع هذه الدنيا، فيتلقفُنا الأهل بحنانهم وعطفهم، فيُختزل مفهوم الوطن بالنسبة لنا في حليب الأم وحضنها، وعطف الأب ورعايته المستميتة لنا.

وعندما نكبُر قليلاً، ونبدأ بالتحدث والتواصل مع الآخرين، تتوسع دائرة الوطن لتشمل الإخوة ثم بعض الأصدقاء والأقرباء، ثم ندخل المدرسة، ونبدأ بدراسة بعض المفاهيم الوطنية مثل (بلادنا الجميلة، العلم الفلسطيني، خريطة فلسطين، تاريخ الاحتلال، الشهداء والأسرى)، لا أعلم متى بالتحديد يتم غرس مفهوم الوطن (القومي) في عقولنا، ولكنه باكرٌ جداً، فَترانا منذ الصغر نتزين بأعلام فلسطين، ونلعب ألعاباً لا تليق بالصغار، مثل الحرب وجنازة الشهيد، ولقد كان الشهيد هو الدور الذي يتنافس عليه جميع الأطفال، فنحمله فوق الأكتاف، ونصيح بحناجرنا بصدقٍ كأننا لا نلعب: "بالروح بالدم نفديك يا شهيد.. بالروح بالدم نفديك يا شهيد"، لم نكُن نعلم حتى ما الروح، وما الدم بعد، ولكننا تربينا على هذه القيم منذ الصغر، فامتثلنا لها بصدقٍ مطلق.

في مرحلة الإعدادية حين حفظت القرآن الكريم، وبدأت بدراسة علوم الدين والبحث عن ذاتي وعن أسباب وجودنا، وكل هذه الأسئلة الوجودية المفتوحة التي تبدأ بأداة الاستفهام "لماذا" غالباً، فتركز مفهوم الوطن بالنسبة لي في الإسلام وفي الجنة (لأنها الوطن الأبدي)، فأنا مسلمٌ قبل أن أكون فلسطينياً أو عربياً وهكذا، ولكنني كبرت في وطن متروكٍ من قِبَل كل المسلمين والعرب، فبدأت بإعادة النظر في هويتي الإسلامية (القومية لا الدينية)، وأدركت أن أمة الإسلام قد ولَّت وأمامها الكثير لتعود كما كانت، خاصةً بعد ظهور بعض الجماعات الإرهابية التي تنسب نفسها إلى الإسلام، وهي لا تنتمي إلى الإسلام في شيء.

وحينما بدأت بكتابة الشعر في أول المرحلة الثانوية وجدتني لا أكتب إلا عن شيئين، أو عن وطنَين بالمعنى الأصح: أمي وفلسطين، فبدأت أعيد صياغة مفهوم الوطن في دماغي، وكنت أحمل هَمَّ هذا الوطن المظلوم في صدري وبين حروف أشعاري، كأنني من فرّط في هذه الأرض، أو مَن خذلها، وكلما سمعت نبأ استشهاد أو اعتقال أحدهم، شعرت أنني التالي، ليس خوفاً، ولكن تيقناً بامتلاكنا نفس المصير.

وكان مفهومي للوطن في فلسطين صحيحاً، لكنه غير كامل، فلقد كانت فلسطين بالنسبة لي هي تلك الـ27 ألف كم مربع التي درستها في منهاج جغرافية فلسطين في الصف الخامس الابتدائي، وبعض التضاريس والمعالم السياحية، ومناخها المعتدل صيفاً الدافئ شتاءً، كنت قومياً وليس وطنياً بالمعنى الأصح.

وفي صيف عام 2013 تركت فلسطين لدراسة الطب في مصر الشقيقة وتركت وطني جسداً وعقلاً، تركت عائلتي وأصدقائي، تركت كل شيء حتى ملابسي القديمة، كانت الغربة بالنسبة لي ولادةً جديدةً، ولكنها أصعب بكثير، بلا أُم تمسح على رأسك كل مساء، وتقول لك بكل حب وأمل صادق: "غداً أجمل بإذن الله"، وبلا ذكرياتٍ طيبة في هذا المكان تستسقي منها الأمل والسعادة، لم أجد حولي أي شيء ينتمي لوطني فلسطين، حتى الشمس والقمر في مصر مختلفانِ عن فلسطين، كانا أقل حجماً وتوهجاً بل وأكثر بؤساً، ولكني كنت أملك هذا الشيء المبهم في صدري، لم يتغير إطلاقاً بل ازداد توهجاً حينما انطفأ ما حوله من أنوارٍ خافتة ربما هو الوطن، لكني لم أكن قد أدركته بعد.

وكان يتردد عليّ ذلك السؤال: "أنت من وين؟" بسبب لكنتي، وغالباً كانت تستمر المحادثة لتشمل الاستفسار عن بعض الخلافات السياسية وتاريخ فلسطين الذي لم أكن قد فهمته بوضوحٍ بعد، شعرت بأنني سفير لبلادي خارج البلاد، ولكنني لم أكن أعرف عنها الكثير، فبالطبع المناهج الدراسية لا تُغني عن كتب التاريخ والروايات التي وجَب عليّ قراءتها حينذاك.

استمر مفهوم الوطن بالوضوح في دماغي، ولكنه كان وطناً بعيداً، أحلمُ به كل ليلة ثم أستيقظ لأكمل بقية يومي في هذه الغربة المرة، مما دعاني للبحث والتفكير بشأن هذه النقاط لمدةٍ طويلة جداً.

1 - إذا فرَضنا أن الوطن هو الأرض التي وُلدتَ فيها وتربيتَ عليها وخدمتًك بمؤسساتها وأفرادها، فهناك بعض الفلسطينيين الذين لم يطأوا تراب فلسطين بعد وقد شغفهم حب هذه البلاد لدرجة الموت حتى رغم امتلاك بعضهم لجنسية أخرى ما زال مصراً على فِلسطينيتِه، ومتمسكاً بلهجته وتقاليده وينقلها من جيلٍ إلى جيل، والكثير من رموز فلسطين لم يروا فلسطين!

2 - ولو كان الوطن هو البلد الذي أعطاك الأمان والدفء والحياة الكريمة فبعضنا لم ينَل من وراء بلده إلا العذاب وما زال متيماً بحب هذا البلد ويرفض الهجرة منه، فحب الوطن ليس علاقةً تقوم على مبدأ التكافل والإعطاء بمقدار الأخذ وهكذا.

3 - ولو كان الوطن هو وطن الأهل ببساطة، فماذا نفعل إذا كانَ كل من الأب والأم من وطنٍ مختلف! أم أننا سننتمي لوطن الأب فقط ويكأن الأم لا تمتلك تلك الوطنية اللازمة لتورثَها لأبنائها، أليس بكافٍ أننا ننسبُ أسماءنا لآبائنا فقط؟!

فلا بد أن الوطن أعظم بكثير من هذه التعريفات المنقوصة، وبالطبع لن أقوم بتعريفه حتى لا أقع في الخطأ.

وأخيراً حينما بدأت بالقراءة ومتابعة أخبار البلدان الأخرى ومآسيهم وما يتعرضون له من اضطهادٍ وقتلٍ، أدركت أنني كنت أنانياً أو عنصرياً حتى بعض الشيء، أتفاخرُ بأنني من بقعةٍ لا دخل لي في اختيارها إلا أن أبي وأمي قد كانا منها، وأنني ولدت وتربيت عليها، وسألت نفسي أكثر سؤالاً بسيطاً لحسم الجدال "لو لم تكن فلسطين محتلة كما هي هل كنت سأشعر بهذه الوطنية تجاهها كما أشعر الآن؟!" بالطبع لا، فأدركت أنني أحب وطني لأسبابٍ أعظم من كوني منه فقط أو كما أسلفت، فأنا لو لم أكن فلسطينياً لكنت سأكرس حياتي للدفاع عن فلسطين، ولا أتخيل حياتي بدونها، فالقضية الفلسطينية هي فلسطين وليس هاتين الحكومتين بكل رموزهما وسياساتهما المتضادة!

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل