المحتوى الرئيسى

الحرب العالمية الأخيرة

05/12 09:52

أما بعد.. قد كتبتُ يوماً لعزيز قومٍ بأن لي في وصله حُجّة، ما ردّني وردّ "إن الوصال في حُكم الملوك تشريف وفي حُكم صاحبة الجلالة فرض".

كُنت أعلم أنّ العالم يشيخ ويقترب موته، لكنّي بطريقةٍ ما كُنت أرى شباب العالم منحوتاً على جسده، وكل خريف العالم خان بعضه، وأزهر ربيعاً على خدّيّه، وأما عن عينيه فنافذتان تطلّ منهما على العالم فلا ترى بؤسه، طيف من الجنة وحسب.

شُّدَّت الأوراق مني فتبعثرت، فأبيّتُ أن أنحني أمام ظُلم العالم، وتركتها مُبعثرة ومضيت، وحسبت أن ما تُبعثره الأيادي تُرتِّبه القلوب.

قد كادت القلوب تنفجر من بين الضلوع حين زادها الوجع، وهزّ رُكنها صوت التفجيرات، وأصاب شبابها الشيّب من كثرة الأحمال.

فعُدّت أكتب لعزيز قومٍ أنّ "الوصل وصل القلوب والقلوب زادها الوجع، والأيادي بعيدة، وكتفي تحتمل من الأعباء ما أنهكها، فسامحني وابحث عن كتفِ امرأة ما زالت بريعانها ما شيّبتها الحروب".

ردّني هُنا وردّ: "لو كانت امرأة مِمَّن لم تغتَلها أصوات التفجيرات كل ليلة، وتبيت بين أحضان الجثث، وصباحها عطره الدم، وكل ساعة يمر فيها الخوف والانتظار وترقُّب النّهاية ما أحببتها، وما تمنيّت أن يحمل رأسي كتفها، ولو أنّ الحرب شيّبتكِ، فليت الحرب تمر بكل النساء ليزورهن الشيّب، فيحملن بعضاً من الجمال الذي نُلتِه، دَعي الحرب مشتعلة، والعالم يحتضر، واترُكي لي باباً للوصل، فإنّي وإن جار البُعد بيننا لأقمته وعدلته، وأكلت السُّبل أكلاً حتى إذ تلاقينا ارتويت، بواحتي بئر، ولكن ما حاجتي للبئر ومِلكي امرأة إذا ارتويت منها كأني شرِبتُ أنهاراً ".

تلعثمت ويكأن حروف الأبجدية تسرّبت من بين شفتي، وتزاحمت في حلقي، فلا أنا من رتّبتها، ولا أنا من تركتها في حلقي، فكتبت إليه بشوقٍ "كُنت أخشى أن تكون على مقربة منّي لترى كيف أنّ عيّني كانتا تهفوان إلى طلّة منك، فتعلم أنّي كاذبة، ولكن بطريقةٍ أُخري كنت آمل أن تعترض مطلبي، وها قد فعلّت، واليوم أكتب إليّك لأُقرّ أنّ الأحمال يتلاشى ثقلها حين تسنِد رأسك على كتفي، وأن الطّريق الأعرج مغفور ذنبه ما دامت أهدتني رفيقاً مستقيماً، وأنّ ما لم تكُن خُطاك معي يضيع جمال كُل طريق، باب الوصل مفتوح لأجلك، ولو أنك لا تصلني ما رجوت من عالم أرذلٍ وصالاً، ولسددت كل أبوابي وأبواب المدينة ".

كُنت أعتقد أن القلب جُرحه لا يُدمى، وكل امرأة لا تعرف للمقاومة سُبُلاً ضعيفة، ولكنّ حين مَلَكَني عزيز قومٍ علِمت أن الجراح تُدمَى بالزمَن، ووصل كل ذي ودٍ وكرم، وتيقنّت أنّ كل امرأة لا تعرف سُبلاً للمقاومة ضعيفة، بل هي أضعف القوم وأرذلهم، وإن كانت بنت عشرين.

وعلِمت أيضاً أن عزيز القوم لم يكُن سُلطاناً ولا ملكاً ولا حتى سيّد قبيلة، هو عزيزهم؛ لأنّ قلبي عزّه عن دونه، وما عزّ قلبي إلا نبيل.

أما قبل.. إن الذين كتبوا علينا الحرب قد ظنّوا أنهم بالبرّ الآمن، فوددت لو أنّي أكتب إليهم لأُخبرهم أن النار لا تُشعِل بحراً، ولا تحرق غريقاً، نحن بالبحر جدّفنا، ومن ارتقى منّا سبح حتى غرق، فما خفنا من البلل، وما خفنا من حريق والبحر واسع.

النّار لو مسّت منّا فيكفينا أنها أكلت نفسها حتى تأكُلنا.

قد كُنت أظن أنه حين يحتضر العالم ما بقي غير بضع فرص لنُلملم ما تبقى لنا، كي نهرب، ولكنّي أدركت أنه حين يحتضر العالم لا هروب، وما علينا أن نُلملم شيئاً فأبقيّت كل أمري على حاله.

قد زارني ظنّ أنه ما قبل النهاية لا نستطيع أن نشعر سوى بترقّب الموت، ولكنّي حين اقتربت النهاية أدركت أن بإمكاني أن أُحب، وأن أرى في البؤس شيئاً من الجنة، وأن أرى الشباب في وجه مرّت به الحروب فشابت ما شيّبته.

ما زال هناك أمل، وما زال هناك فرصة أن نُحب، وما زال العالم يشيخ ويقترب من النهاية، ولكن ما زلت أنت الشباب ومنك البداية.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل