المحتوى الرئيسى

د. منى زيتون تكتب: نساء للمتعة ونساء للمنزل‏ | ساسة بوست

05/11 16:26

منذ 8 دقائق، 11 مايو,2017

كانت التربية في أغلب الحضارات القديمة كالحضارة الصينية متعصبة من جهة النوع؛ فلم تنل المرأة حظها من التعليم مقارنة بالرجال، وتم إهمال تعليمها بشكل واضح. وربما كان المصريون القدماء هم أكثر شعوب الأرض القديمة التي اهتمت بتعليم المرأة، وكان يلتحق بالمدارس والجامعات التي يُشرف عليها الكهنة البنون والبنات على السواء. بالتالي نالت المصرية القديمة حقها من التعليم مثل الرجل لتركيز المجتمع المصري القديم على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات.

أما اليونان القديمة فيمكنني القول أنها قد أسست للتمييز في التعليم بين النساء أنفسهن؛ حيث تم السماح بتعليم قسم من النساء ومنع تعليم قسم آخر على أساس الهدف من التربية. هذا التقسيم انتقل بعد ذلك إلى شعوب وثقافات أخرى؛ باعتبار أن الثقافة الإغريقية تعد أم الثقافات الأوروبية المعاصرة، كما تأثرت بتلك الثقافة الحضارة الإسلامية في أوج زهوها بدءًا من العصر العباسي، ولا زلنا نلمس أثر هذا الفكر التمييزي في تعليم النساء في عصرنا الحاضر.

كان هناك نمطان للتربية في اليونان القديمة وهما: نمط التربية في أثينا، ونمط التربية في إسبرطة؛ فبينما كانت المرأة في أثينا تحتل مكانة وضيعة، وكان التعليم في المدارس يقتصر على الذكور فقط، اهتم الإسبرطيون بتعليم المرأة لكونها أم المحارب.

العجيب أن المجتمع الأثيني الذي حرم المرأة من التعليم كان الأكثر ديمقراطية من نظيره الإسبرطي في كل مجالات المقارنة بينهما عدا تعليم المرأة؛ ففي أثينا مثلًا سُمح بتعليم الأجانب، كما أُتيحت نوعيات مختلفة من التعليم أمام الراغبين في التعلم، فكان يتم تدريس مختلف فروع العلم والفلسفة والرياضيات والفن والموسيقى. أما إسبرطة فكان التعليم فيها ذا نمط عسكري ولم يُسمح للأجانب بنيل أي قسط من التعليم، ولكن نمط التربية العسكري في إسبرطة سمح بتعليم النساء واحترمهن!، فهل الدولة ذات الطابع العسكري أو المتزمت أكثر احترامًا للمرأة من الدولة ذات الطابع الديمقراطي؟، سؤال يستحق أن ننظر فيه بتعمق وألا نتعجل الرد، وليس هنا مقامه.

لكن؛ هل حُرمت كل النساء في أثينا من التعليم؟

كان المنزل هو مملكة المرأة الأثينية الحرة ذات الحسب والنسب، وكان لا يُسمح لها بالتعليم بتاتًا، وبالتالي لم يعتبر المجتمع الأثيني هؤلاء النساء قادرات على تنشئة الأطفال.

بينما الأُسر غير المحترمة فكان يُنظر لبناتهن على أنهن نساء للمتعة، فكُنّ يتعلمن كما كان يُسمح لهن أن يعملن كراقصات أو موسيقيات.

ويمكنني القول أن هذه هي نقطة البداية في التصور الذي استشرى عبر الزمان في كثير من الثقافات أن من تتعلم لا تصلح زوجة، وبقدر ما تتعلم بقدر ما تفقد صلاحيتها. وحتى مطلع القرن العشرين كانت المعلمات في كل بلاد العالم شرقًا وغربًا يُمنعن من الزواج، وكان يُنظر إلى المعلمة باعتبارها راهبة تهب حياتها لتعليم أبناء غيرها، وتُفصل من عملها إن تزوجت لأنها لا يمكن أن تكون ناجحة في الزواج إلا إن كانت فاشلة ومقصرة في مهنتها. بل وحتى لو لم تعمل المرأة فيكفي أن تتعلم كي لا تكون زوجة جيدة طيّعة، ولا زالت لهذا التصور آثاره الباقية التي لم يمحها الزمن رغم تغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي أجبرت الرجل على تقبل تعلم وعمل المرأة.

على العكس، كان نمط التربية في إسبرطة عسكريًا حتى إن بعض الشباب كانوا يموتون أثناء التدريبات، وترى النظم العسكرية -وإلى يومنا هذا- أن المرأة يمكن أن تتلقى نفس تدريبات الرجال لكن بدرجة أقل من الصعوبة؛ فالمرأة بالنسبة للعسكريين ليست للمنزل ولا للمتعة، بل هي أم المحارب، وينبغي أن تكون قوية كي تُنشئ أبناءً أقوياء.

كانت نتيجة تلك الرؤية الإسبرطية المعاكسة –ظاهريًا- للرؤية الأثينية للمرأة أن المرأة يجب أن تتجرد من أنوثتها تمامًا حتى أنها تلبس ملابس مشابهة لملابس الرجال.

ورغم الفرق الظاهري بين النمط الأثيني والنمط الإسبرطي في التربية إلا أن كليهما ينطويان على احتقار لطبيعة المرأة كما خلقها الله، فالمرأة الأثينية الحرة الجاهلة والمرأة الإسبرطية الخشنة المسترجلة كلتاهما ليسا النموذج الأمثل الذي ينبغي أن تكون عليه المرأة.

أما النموذج اليوناني الثالث وهو نموذج المرأة المتعلمة المتخذة للمتعة وغير الصالحة أن تكون زوجة وأمًا، فسيظل هو الأكثر انحطاطًا في نظرة الرجل للمرأة في تاريخ البشرية.

هذا النموذج الأخير، نموذج المتعلمة المتخذة للمتعة، انتشر عبر الثقافات حتى وصل لثقافتنا الإسلامية، في العصر العباسي، مع انفتاح العرب على الثقافات الأخرى، ثم أنه قد تطور بعد ذلك، فصارت تلك النوعية من النساء، اللاتي عُرِفن بالجواري، صالحات في نظر الرجال للسكن والزواج!

لم تعد النماذج التي تجذب الرجال في المرأة هن الصحابيات والفقيهات والعالمات، ولم يعد أمل الرجل في العصر العباسي أن يظفر بزوجة حسيبة نسيبة لتكون أم أولاده، بل طغت صورة الجارية على الفكر الذكوري حتى لم يعد العربي يتحرج أن تكون أمه جارية، وكيف يكون ذلك وأربعة وثلاثين خليفة من خلفاء بني العباس أمهاتهم جواري، بينما ثلاث خلفاء من خلفاء بني العباس فقط أمهاتهم حرائر؟، مما يعد تغيرًا صارخًا للخارطة الطبقية للمجتمع الإسلامي؛ فلم يكن الأمويون يستخلفون أبناء الإماء على الإطلاق، ولم يكن أي من الخلفاء الراشدين من أبناء الجواري، بل كان العربي يفتخر بنسبه من جهة الأم وأخواله قدر افتخاره بنسبه من جهة أبيه، وكان يعزل عن سريّته مخافة أن تحمل منه.

فعلى عكس كل ما يلوكه متفذلكو عصرنا كان المجتمع الإسلامي هو أكثر مجتمع أُعطيت فيه الفرصة للعبيد والجواري للانعتاق من أسر العبودية والوصول إلى مراتب عليا لا يمكن أن يصلوا إليها في أي مجتمع آخر، وهل يمكن لأي مؤرخ أن ينسى دولة المماليك التي كان حكامها كلهم من العبيد؟

لكن هذا كان بدءًا من العصر العباسي، أما قبله، فلا ينس المؤرخون أن يُذكِّرونا أن أحد أبناء عمومة الإمام زيد بن عليّ بن الحسين بن علي عليه السلام، الذي تُنتسب إليه الزيدية، قد قلّل من شأنه ولمزه بأنه ابن جارية سندية، ليردّ عليه زيد بأن الأمهات لم يتسبّبن يومًا في الحط من شأن الرجال، والمرء يُنسب لأبيه، وقد كان إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ابنًا لجارية. ولكن الحادثة ذاتها تفهمنا كيف أنه مهما علا نسب العربي من أبيه فإن رِق أمه كان مما يُلمز به، وتفهمنا كذلك قدر التغير الجذري الذي حدث للرجال العرب بعد ذلك.

وعودة إلى الجواري في العصر العباسي، لنجد أن رغبتهن في الوصول إلى السلطة وإيصال من يرغبن قد وصل إلى حد اللجوء إلى الاغتيالات السياسية إن لزم الأمر مع اختلاف الوسائل التي استخدمنها كالخنق ودس السم عوضًا عن القتل بالسيف، بل ولم يقتصر الأمر على تحكم الجواري أمهات ومحظيات الخلفاء في شؤون الدولة، بل حدث أن وليت بعض النساء بعض الشؤون كالعدل، وبرعن فيما تولينه كما ذكر المؤرخون.

فكيف كانت تربى الجواري إذن ليكون لهن كل هذا التأثير؟

كان النخاسون (تجار الجواري) يأتون بالمعلمين في مختلف الميادين لتربية جواريهم، وكان ثمن الجارية يعلو بقدر ما تعلمت من الشعر والفصاحة والبلاغة والعزف والغناء وتلاوة القرآن ورواية الأحاديث والخط، إضافة إلى المعرفة بتاريخ وأدب ونوادر العرب. كما كُنّ يُربين على تعلم المهارة في فنون الغزل.

ولا شك أن الجارية التي كانت ترتقي في سلم الحريم لتكون جارية الخليفة المحببة الأثيرة كانت ماهرة مهارة غير عادية في كل ما يمكن أن يؤهلها؛ فالجمال والشباب وحدهما لا يكفيان لسلب لُب الرجال، فكان لا بد من التعليم والثقافة والذي يسهم حظ الجارية من الذكاء في اكتسابها القدر الوافر منهما.

على العكس لم تتح للحرائر تلك الفرص الكبيرة من التثقيف والتعليم، وكأنه كان يُخشى عليهن من التعليم، وبالتالي لم يكن هناك مجال للمقارنة بين أثر الجارية على سيدها وأثر زوجته الحرة الخاملة العقل.

ومما يبدو عجيبًا –فقط للوهلة الأولى- أنه حتى لو أُتيح للحرة تلك التربية التي تهذبها وتثقفها لا تكون علاقتها بالرجل وتأثيرها عليه مثل تأثير الجارية، لكن لو حلّلنا الأمر نفسيًا يمكنني القول أن الرجل يعجبه الذكاء والثقافة من المرأة الحرة، ولكنه يشعره بالتأخر عنها والغيرة منها، ولكن عندما تكون المرأة جارية مملوكة له لا يطارده ذلك الإحساس بتفوقها عليه.

والأعجب هو أن الرجل حين أهان المرأة ونظر لها نظرة دونية باعتبارها جارية قد سمح لها دون أن يشعر أن تتحكم فيه!

أما الأسوأ والأهم فهو أنه في العصر الحديث، وبعد إلغاء الرق، وبديلًا عنه، انتشر الانحلال والإباحية الجنسية، خاصة لدى الغرب، وكان لهذا أثره الكبير في تشوش نظرة الرجل إلى المرأة الزوجة، وإلى العلاقة الزوجية إجمالًا. وطال هذا التشوش الشرق والغرب على السواء.

طالما كان الرجل يميز بين العلاقة الزوجية، والتي ينظر إليها باعتبارها علاقة مقدسة، وبين علاقات اللهو. لكن عندما حلّ الانحلال محل الرق، وصارت امرأة حرة تعطيه ما تعطي الجواري والغواني، أثّر هذا على علاقته بالحرائر، فلم تعد نسبة كبيرة من الرجال تنظر للعلاقة الزوجية تلك النظرة للعلاقة الإلهية المقدسة التي كانت تُنظر إليها قديمًا. نلمس هذا في كثير من الأمور، لعل أبسطها استسهال كثير من أشباه الرجال مسبّة النساء في أعراضهن، أو مسبّة بعضهم بعضًا بأمهاتهم، وكأنهم ليسوا هم أنفسهم وليدي مثل تلك العلاقة التي فقدت قدسيتها في أنظارهم!؛ لذا أقول أن الإباحية الجنسية قد خلقت تأثيرًا سلبيًا على نظرة الرجل للمرأة أكبر من الأثر الذي خلّفه الرق عليها.

يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، في كتابه «قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة»: ‏«المجتمع الوضيع هو الذى يفهم الزواج على أنه عقد انتفاع بجسد، أو يعرفه بأنه امتلاك بضع بثمن، أو يراه شِركة بين ‏رجل تحول إلى ضابط برتبة مشير لديه امرأة برتبة خفير! أين الودّ والتراحم والشرف والوفاء؟!» ‏وأقول: وهذا هو مجتمعنا ببساطة، وهذه ثقافته التافهة.

وهناك أمر يخلط فيه كثيرون، فيتصورون أن وضع المرأة في الجاهلية كان بائسًا تمامًا، ولعل السبب الرئيسي في ذلك هو ما عُرف من انتشار وأد البنات لدى عرب الجاهلية؛ لذا فالصورة بحاجة إلى جلاء وتوضيح.

لقد كانت الحُرة الشريفة دومًا مثار احترام العربي، ومثار فخره، وكان الزواج علاقة محترمة إلى الدرجة التي لم تكن المرأة تستشعر فيها الحرج أن تتكرر زيجاتها، فتتزوج مرارًا بعد انقضاء عدتها لطلاق أو ترمل. بل وكان مما يرويه المؤرخون أحيانًا، بعد تفرق إمارات المسلمين وتشرذمها، وقوع المصاهرة بين أميرين بأن طلب أحدهما الزواج من أم الآخر.

كان الزواج علاقة مقدسة بكل معنى الكلمة، وكان التخوف ووأد البنات في الجاهلية يحدث مخافة العار الذي تجلبه العلاقات غير الشرعية، وفقط غير الشرعية.

تدهور نظرة كثير من الرجال إلى المرأة عمومًا:

إن المُدقق يكتشف أن المرأة لم تعش قط عصرًا أُهينت فيه ونُظرت إليها نظرة احتقار كالعصر الذي نحياه، رغم كل الزخارف والبهارج التي تُغلف عصرنا، وتلك هي المفارقة القصوى.

والأمر لا يقتصر عند من يجاهرون بأن المرأة بالنسبة لهم متاع لا أكثر، بل إن أغلب الرجال، حتى المثقفين منهم، يدّعون الاحترام للمرأة المثقفة الذكية، ولكنهم لا يختلفون جوهريًا عن رجال أثينا القدماء ورجال العصر العباسي في نظرتهم القاصرة للمرأة.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل