المحتوى الرئيسى

الرحلة إلى قرى الأطلس الصغير الوادعة "3"

05/11 09:37

"حللنا بالقرية الصغيرة التي ينحدر منها صاحبي، رفيق السفر الذي لم تُذهب سنوات غربته الطويلة بألمانيا فصاحة لسانَيه العربي والأمازيغي، لم ينزل من السيارة إلا بعد أن رسم لي على ظهر ورقة معالم الطريق الموصل إلى "مجاط" ثم "إفران"، ألحَّ عليًّ ألا أنعطف يميناً ولا يساراً حتى أبلغ قوساً عتيقاً لم يأل جهداً في شرح معالمه، ودَّعته، وقد بدا منزله الطيني على بُعد أمتار، عاود دعوتي لاصطحابه إلى هذا البيت العتيق؛ كي نشرب كأس أتاي، فاعتذرت؛ لأنني أوثر أن أبلغ إفران قبل غروب الشمس.

أكملت السير على الطريق المعبَّد الضيق ذي الحواف الحادة، مررت بطرق تتفرع يميناً ويساراً، فأدركت معنى إلحاح الرجل عليَّ ألا أنعطف بالسيارة حتى أبلغ القوس القديم.

كان يخشى أن تتفرق بي السبل المتفرعة المؤدية إلى مداشر شتى أتخيلها مبثوثة موزعة بين هذه الجبال الشاهقة.

وافيت القوس المذكور، فوجدته قديماً تآكل بفعل عاديات الزمن، جاوزته، ثم انعطفت شمالاً سيراً على النهج الذي اختطه صاحبي على ظهر الورق.

مررت بدواوير متجاورة حتى بلغت قرية تدعى "تيغرت"، توفقت قبالة صف من الدكاكين والحوانيت الصغيرة.

اشتريت من أحدهم قنينة ماء، فاجأني أن الثمن لا يزيد عن ثمنها بالمدن، فاستبشرت خيراً؛ لأن هؤلاء البسطاء لا يزيدون في أثمان السلع كما يفعل كثير ممن يعميهم الجشع والطمع، فينتهزون وجود محلاتهم على الطريق التي يمر منها المسافرون، فيضاعفون أثمان كل ما يعرضونه للبيع من سلع ومأكولات..ولا تسأل عن محطات الاستراحة على الطريق السيار، فقد يخيب ظنك.

تحدثت مع التاجر قليلاً، كان شاباً متوسط القامة، لا يزيد عمره على العشرين، يتحدث بطلاقة لم أعهدها فيمن غلبت عليهم لغة الأم.

سألته عن منطقة "مجاط"، فقال: كل هذا المجال الذي مررت منه يدعى مجاط، وتيغرت هذه أكبر قرى مجاط.

سألته عن باعة "البنزين"، فقال: يباع هنا البنزين المهرب كما يباع بكثير من مداشر سوس والصحراء. لكن أنصحك إذا كان بحوزتك مقدار ما يوصلك لأفران، أن تبتاع البنزين من هناك؛ إذ إن الثمن هنا يزيد بقليل.

تفهمت الموضوع؛ لأنني أعرف أن بُعد المسافة ومصاريف الشحن يبرران زيادة سعر اللتر الواحد. سألته غير راغب في التزود بالوقود، وإنما فاجأني وجود براميل متوسطة الحجم أمام أحد المحلات، خمنت أنها مخصصة للبنزين المهرب، مظهر لم أجد له أثراً في تافراوت التي تسيطر على سوق الوقود بها شركة معلومة.

سرحت ببصري على امتداد سهل خصيب، تكسوه خامات زرع كثيفة، استدرت شمالاً، فرأيت قطعاناً من الضأن والماعز ترعى، جال في خلدي أن تعلق قلبي برؤية مجاط يعود إلى قصة دفينة من تاريخ عائلتنا وعشيرتنا البدوية التي كانت إلى ما قبل حرب الصحراء تنتجع حيثما هطل المطر..

عادت إلى الطفو على سطح ذاكرتي حكايات أبي عن سر تسمية "أمجاجيط" بهذا الاسم، بينما تكمن في مكان ما من سجلات الذاكرة مرويات مقتضبة للضابط الفرنسي الذي يعود إليه الفضل في تعرفنا على شيء من تاريخ بلدتنا المغمورة "أسا" الموصولة في التفكير الصوفي الذي يمثله الإبريز بمجمع الصالحين أو ديوان الأولياء.

تحدث منصور فانسان مونتاي -رحمه الله- عن مجيء إداومستر من أمسترا ضواحي إفران الأطلس الصغير دون أن يذكر قصة ارتباط أمجاجيط بمنطقة مجاط.

قد تكون ذاكرتي الغربال قد خانت أو ضيعت بعض تفاصيل صاحب كتاب "تقييدات حول تكنة"، لكنني على مثل اليقين أن قصة أمجاجيط لم تخذل منها شيئاً، فلقد قال الراوي: إن جد أمجاجيط، وكان اسمه الحقيقي "أمحند"، قد ضاق ذرعاً من دفع الديات والمظالم التي تحكم بها أيت لربعين على أخيه الذي لا ينفك عن اقتراف جرائم، كان آخرها قتل عبد، طالب أولياء دمه بديته، فبخل الرجل الموسر الذي يمتلك قطيعاً، هو أغلى رأس المال وأعلاه حينذاك، فقرر أن يتغرب، أو لنقل بلسان الراوي: إزوك، يصير أمزواك، بمنزلة المبعد المغترب إن شئنا تقريب المعنى.

ساق قطيعه بعد أن حمل على الحمير خيمته وجميع متاعه، وألفى قبل أن يبرح مضارب قومه رجلاً، استطاب حديثه، وأسر إليه بما حمله على ترك قبيلته التي لم ينشأ أن أطلع الرجل تحت طلبه على أحوالها وتأهب فرسانها للقتال إذا نادى منادي الغزّي (الغارة).

لم يمضِ وقت طويل حتى تركه رفيقه الذي طلع في سفره كما يطلع الغريب في بعض الأحلام والأفلام، وعاد بعد فترة، وقد استقدم الفرسان الذين بعثوه على سبيل الاستطلاع قبل شن هجوم على حين غفلة من الخصوم.

أحاطوا بالرجل وأهله إحاطة السوار بالمعصم، فمُلئ منهم ذعراً. استأمنوه على نفسه وعياله، وتركوا له كل الحملان دون أمهاتها وما ملكت يمينه من الحمير التي تحمل متاعه، وأخبروه أنهم إنما يسلبونه رداً على سلب قومه قافلة لهم ذات إغارة.

وقع في حيص بيص، سار بأهله وما تبقى من قطيعه (اللاغو/ صغار الماعز..)، ومضى يحمل غصة على غصة حتى ألقى عصاه بمنطقة مجاط.

ضرب خباءه أو نصب خيمته، واستأنف حياة جديدة وسط هذا السهل الذي بدا لي حين وافيته عصراً خصيباً أخضر.. أما أبناؤه الذين خالطوا جيرانهم الجدد، وأضحوا يتكلمون بلسانهم، ويقلدون صنائعهم ويتعلمون حرفهم حذو القذة بالقذة، فقد صاروا من أعلم الناس وأمهرهم بإنباط الآبار وحفرها.

مضت السنون سراعاً، وبلغ الرجل من الكبر عتياً، فجمع أبناءه حوله، وقد صار منهم رب العائلة الذين يعيل صغاراً، فقال لهم: أي أولادي، إنما ناديتكم، وقد بلغت من الكبر عتياً، ولست أدري هل ينسأ الله في عمري أم يقبض روحي، وأردت ألا تعيشوا أغراباً بين هؤلاء القوم الكرام الذين أكرموا وفادتنا، لم يضايقونا، ولم يسلبونا مالاً، ولا أعانوا على سلبنا والاعتداء علينا، وما قصروا في حقنا، لقد أزمعت على موافاة أهلي بأساً؛ كي تعرفوا أصولكم ويؤوب الغصن إلى الشجرة التي تفرع عنها.

عاد الرجل وبنوه إلى العشيرة، فأضحوا على سنة البدو الذين يحتقرون الصنائع، يلمزونهم بـ: حهارين الحسيان أي "حفارو الآبار"، أما أنا، فقد ودعت التاجر خفيف الظل بتيغرت، بعد أن ألقيت نظرة وامق على السهل القشيب، وتمتمت: لمثل هذا المنظر البهي، حط جدي "الاسمي" الرحال هنا!

"تطابقت وصايا صاحبيّ اللذين التقيتهما بتافراوت وتيغرت على وجوب تحري الحذر أثناء المرور من منعرج جبلي حاد يقع على الطريق بين تيغرت وإفران، جاوزته حذراً، وقد أدركت معنى وصيتهما وإلحاحهما على وجوب الحذر، فالمنحدر يشرف على الهاوية، ولا وجود لحاجز، ولو من الحجر أو الزنك أو الإسمنت يفصل حاشية المنحرج الحاد عن الحافة التي لا تعني سوى جرف هار، يمكن أن ينهار بمن يسير فوقه.. تنفست الصعداء لما جاوزته إلى طريق واطئة لا عوج فيها ولا منعرج، تبسمت لما تذكرت أبيات ابن الرومي التي أتحفني بها رفيق العودة من تافراوت:

إن تطـل لحية عليك وتعـرض ** فـالمخـالي معروفـة للـحمـيـر

علق الله في عذاريك مخـلاة ** ولـكـنـهـا بـغـيـر شـعـيـر

لو رأى مثلها النبي لأجرى ** في لحى الناس سنة التقصير

قالها ساخراً لما ذكر سماحة تعامل يهود منطقته السابقين مقارنة مع بعض المسلمين الذين لا يتورعون عن تفجير أنفسهم وسط الأبرياء.

مررت بتنكرت، فجالت في خلدي أسماء أعلام؛ فقهاء وشعراء مروا من هنا، لا نعرف عنهم إلا سيرهم التي طارت شهرتها في الآفاق، منهم محمد الطاهر الإفراني الذي قارنت سابقاً بين مديحياته ونظائرها التي خلفها الشيخ محمد المامي، علامة تيرس الشهير.

وافيت إفران وقد خرج تلاميذ محمد المختار السوسي من المؤسسة عند تمام السادسة مساء، رأيت مشهداً لا يختلف عن انصراف تلاميذ المدن الكبرى إلى بيوتهم في نهاية حصة المساء.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل