محمود الكردوسى يكتب: 4 حكايات عن الدين والسلطة والدولة فى «بلد الزغاليل»
خلّى بالك: أنا من قرية بائسة فى منتصف صعيد مصر، سمّاها رجل بائس: «المدمر». ولا تسألنى: «يعنى إيه مدمر»، لأننى سأسألك: «يعنى إيه بؤس»!. اسمع الحكاية من «الوجه» إلى «القفا»، واترك «المدمر» لربٍ يحميها، لأن أقصى عمق تحت «خط فقر» العاصمة أن يخلع البنى آدم بُرقع الحياء، ويقف بـ«فوطة زفرة» فى إشارة مرور.. و«كل سنة وانت طيب يا باشا»!. وأعلى سقف لـ«تنمية المدمر» أن يخبز الناس عيشهم على صهد «بلاط» فرن، ويطبخوا سير أنبيائهم وأبطال مواويلهم على «كوانين» صغيرة، ويموت العدل بينهم ليعيشوا كراماً تحت رايته.
لا تقرصينى.. ولا عايز عسل منك
لو سألت الصعيدى: تحب ابنك لما يكبر يبقى إيه؟.
سينبعج ويشرئب ويملأ رئتيه بالهيليوم، ثم يحلّق مثل نسر جارح بين نجمتين: «ظابط»!. يريده ضابطاً وهو لا يعرف معنى أن تنام نجمتان أليفتان إلى جوار نسر جارح على كتف الولد!. يريده ضابطاً ويتشبث. يكافح ليكون له «نسره» الذى يحميه ويحادى عليه وهو يعزق ويروى ويحصد، و«نجومه» التى تضىء ليله الحالك الطويل: «يا سلطة لا تقرصينى ولا عايز عسل منك»!. يريده ضابطاً بأى تضحية: يمشى حافياً أحياناً ليوفر ثمن «المركوب». يلبس الجلابية على اللحم ويغسلها مرة واحدة فى الشهر ليحافظ عليها. يخبئ حوض فلفل أو بامية فى قمح الحكومة وقطنها لـ«يجمّد» للولد «قرشين». الولد مرّ من نفق ثانويته العامة بخمسين أو ستين فى المائة، والبلهارسيا نحتت فصاً من كبده، وتدّخر الفص الثانى لما بعد الأربعين!. يريده ضابطاً وهو هكذا، فما بالك إذا كان عمدة أو شيخ بلد أو «قعر كيلة»؟.
لماذا يعشق الصعيدى فكرة أن يكون ابنه ضابطاً إلى هذا الحد؟. سهلة: لأن ضابطاً من صلبه يعنى سلطة من صلبه، وتلك نصل ذو حدين: يواجه سلطة الدولة إذا غدرت أو تسلّطت عليه، ويعوّض غيابها إذا تجاهلته وأهملته. باختصار: إذا كانت مصر «أم الدنيا»، فلماذا لا يكون النجع «أبوالسلطة»؟
منذ متى وقع الصعيدى فى غرام فكرة الضابط؟. أظن أنه جمال عبدالناصر، ابن البوسطجى، ابن «بنى مر»، ابنة المائة كيلومتر الفاصلة بين «صعيد» شمالى يتطلع إلى فتات العاصمة، و«صعيد» جنوبى يستند على رفات الإله آمون.
منذ متى تحوّل الغرام إلى عبودية؟. أظن أنه «السادات»: من انقلاب مايو 71 إلى انتفاضة الجوع فى 77، ثم ضرب اليسار بجنازير اليمين، وضرب اليمين بهراوة الأمن، ثم تفصيل الأمن سترة واقية لـ«قلب» نظام الحكم.
زمان، كنت قاب قوسين أو أدنى من بدلة الضابط، لكننى «نفدت بجلدى». كان والدى بقالاً أميّاً، وفلاحاً بالأساس، وكان ضحية مثالية لتجاهل الصعيد وإهماله. كان مولعاً -كأى أب صعيدى- باثنتين: أن أكون «سلطة».. أو أكون «نجماً». وكنت مولعاً بالهندسة وأهيئ نفسى لدراستها. أرادنى ضابطاً فـ«باظت»: بلهارسيا قديمة وخوف ممزوج بكُره لكل ما فيه «سلطة». أرادنى مذيعاً فـ«باظت»: لا واسطة ولا شكلى حلو. مات وتركنى «صحفياً»، ما إن أرى ضابطاً حتى أتمتم: «قضا أخف من قضا».
سوهاج «نوّرت» مرتين فى أسبوع: كان ذلك قبل فاجعة «25 يناير» بسنوات قليلة.
مرة لأن جمال مبارك زارها، والثانية فى مناسبة حرق منازل ثلاث أسر بهائية!. سوهاج دخلت «حزام الميديا» بعد أن كانت سطراً فى حركة تعيين محافظين جدد أو فى جريمة قتل أو فى نكتة!. سوهاج أصبحت «مانشيت»: نار «الشورانية» نوّرت «نزلة القاضى».
كل محافظات الصعيد «كوم» وسوهاج «نجع»، ولا تنخدع: لا فضل لـ«كوم» على «نجع» إلا بـ«زيارة مسئول» أو «حريق طائفى». لكن سوهاج برزخ بين صعيدين. الأول يبدأ من قنا فى اتجاه الجنوب: عائم على بحر آثار وبنية صناعية ثقيلة. ثم، تدريجياً، تتحول سُمرة الوجه مع «سَمسمة» الملامح إلى شوكولاتة فرعونية يتخللها «عِرق» بداوة من أيام هجرات عرب نجد والحجاز. والثانى يبدأ من أسيوط فى اتجاه العاصمة: صعيد جامعى يتكلم بـ«نحوى» ممطوط، وسكته الحديدية مستقيمة. فيه «مُزز» مدن سافرات و«مُزز» ريف محجبات، وله فى كل دورى كرة قدم.. فريق.
سوهاج فى المنتصف: مائعة. لا طيّبة ولا شريرة. لا غنية ولا فقيرة. لا سمراء ولا بيضاء. فيها آثار، لكنها مطمورة. فيها مواهب، لكنها تتضور جوعاً. فيها مقوّمات تحديث، لكنها طاعنة فى تخلفها. فيها كل شىء ولا شىء، حتى إن «داليدا» لم تجد ما تغنيه لسوهاج سوى أنها «بلد الزغاليل»، وهذا ليس صحيحاً. الصحيح أنها بلد «زبل الزغاليل»، و«الزبل» هو براز الحمام بعد أن يجف كـ«فيشار» قاعات السينما، فيصبح سماداً للأرض.
من أيام الجامعة: أنا وغالبية أبناء سوهاج نخوض حرباً يومية طاحنة لنثبّت أقدامنا فى أسفلت العاصمة، ونلحق بفتات موائدها. سوهاج تتحول مع الوقت إلى حِمْل ثقيل على كواهل أبنائها، ثم إلى فولكلور، ثم يسافر الواحد منا إلى قريته فلا يعرفها. يسأل أخاه أو ابن عمه أو صديق طفولته: أين مكان الجرن؟. أين الحوش؟. أين نخيلنا وسنطنا ونبقتنا؟. أين البئر والعديد وقربة اللبن؟. يوم.. يومان.. ثلاثة.. ثم يعود إلى لغط العاصمة وضجيجها. يعود وهو يحجل كالغراب: لا قلّد مشى العصافير ولا استرد مشيته.
لا أعرف مساحة سوهاج على خريطة عشوائيات العاصمة، لكن السوهاجية متغلغلون فى كل نتوء: من «عرب حلوان» إلى عين شمس، ومن «يمين فيصل» إلى «يسار أبوزعبل»، ومن «بولاق أبوالعلا» إلى «دكرورها». تختلف الملامح والمطامح ومحافظ الفلوس.. لكن رائحة العرق واحدة. وفى قلب العاصمة -إنما على حافة نخبتها- هم «شاى ثقيل» و«نَفَس جوزة» على مقهى فى قصيدة نثر. كباية بيرة مع صحن ترمس وفول نابت فى بار معتم!. ولا أعرف لماذا «يخمس» السوهاجى مع السوهاجى فى سيجارة واحدة، ثم يتحولان فجأة إلى عدوين!. سوهاج فى النهاية هوية. ليست مخجلة، لكنها دائماً فى الجيب الخلفى للبنطلون.
من زاوية أهلها: زارها شخص مهم. مَن؟. ليس مهماً، ولا الزيارة مهمة. المهم أن يكلموه. أن يرفعوا أصواتهم بالشكوى: الجاموسة ماتت. الجاموسة فى سوهاج أغلى من مقعد الحكم. وبنك الائتمان يعطى باليمين ويسجن بالشمال. والعيال تحولوا من «عزوة» إلى حصى فى خرسانة العاصمة!.
ومن زاوية سكان العاصمة: «السلطة» ذهبت إلى عاصمة الفقر والنزوح فى عقر دارها. لماذا ذهبت الأولى.. وما الذى جرى فى الثانية!. لا شىء سوى: «نوّرتنا يا جمال بيه»!. ثم انطفأ النور فى «نزلة القاضى» واشتعلت النار فى بيوت «الشورانية».
وحرق بيوت أسر تحت شعار «لا إله إلا الله.. البهائيون أعداء الله»؟
غريبة!. عشت فى سوهاج أول ثمانية عشر عاماً من عمرى. منذ تركت البلد لألتحق بـ«إعلام القاهرة» وأنا أتأمل استقواء الظاهرة الدينية فى الصعيد وأتقصى جذورها، فأجدها قوة مفتعلة. قوة «رد فعل» على ما يعانيه أهل الصعيد من فقر وتجاهل وتهميش وسخرية. اندهشت لوجود بهائيين. اندهشت أكثر لأن أول رد فعل على إعلان بهائيتهم هو حرق بيوتهم. لا أنا بهائى ولا كستنائى، لكننى كصعيدى أقول إن «الدين» فى سوهاج يأتى ثالثاً بعد «العرف» و«الخرافة»، وأحياناً لا يأتى أبداً، وإليك آية:
مر رجل فى قريتنا يوماً أمام جامع، فسمع زعيقاً وشتائم تأتى من داخله. سأل أحد الواقفين، فقال إن اثنين من المصلين يتخانقان على «موقع» يتيح لمن يجلس فيه أن يلمس كعب رِجل الإمام برأسه أثناء السجود، فأثلث الرجل طلاقاً ألا «يركعها» بقية عمره: لا فى هذا الجامع ولا فى غيره!.
أبداً: كثرت خناقات الرجلين على «كعب رِجل الإمام»، حتى جاء يوم قرر فيه أحدهما أن يستقل بإمام آخر وجماعة أخرى، وظل الناس شهراً كاملاً يصلون فى جامع واحد بإمامين. تدخل الكبار وأصلحوا ما بين الرجلين: من يأتى أولاً يجلس وراء الإمام!.
أبداً: الإمام الذى تخانقا على «ورائه» رفض، وظل يرفض أن يعطى شقيقاته البنات نصيبهن فى تركة أبيهن حتى مات. هذه نقرة وتلك أخرى، والكلام فى حق البنت وإرثها سيفتح أبواب جهنم!.
كأننا متدينون بالفعل!. كأننا فوجئنا: الصعيد منح غالبية أصواته فى انتخابات «برلمان 2012»، ثم انتخابات الرئاسة، للتيار الدينى، ثم قال «نعم» لدستور رفضته «العاصمة» -مركز «الدولة» وليس «القاهرة»- واعتبرته نخبتها «تأميماً» لمستقبل مصر، وحجر أساس لمشروع «أخونة الدولة وأسلمة المجتمع».
للوهلة الأولى قلت وقال كثيرون ينتمون إلى الصعيد: نحن أبرياء من هذا الصعيد، ولن ندافع عنه بعد الآن (كأننا كنا نترك أشغالنا وندوس على أحلامنا لنفديه بالروح والدم.. كأننا كنا نمثله بحق!).
للوهلة الأولى قلنا (نحن العاقون بامتياز، المنبتون، المنفيون فى ملكوت أنفسنا): لا يشرفنا أن ننتمى إلى هذا العالم المتخلف، السادر فى جهله وغبائه وعناده. هذا العالم الذى تبين لنا -فجأة- أنه يستحق ما قيل ويقال فيه من «نكت» جارحة، مؤلمة، تقطع الشعرة بين الشىء ونقيضه: تسمى طيبة القلب «عبطاً» وسذاجة، والنخوة تطرفاً أعمى، ورباطة الجأش غفلة، والذكاء «فهلوة» فى غير موضع.
للوهلة الأولى قلنا: هذا ليس «صعيدنا»!.
الصعيد الذى ولدنا فيه والتأمت أجزاؤنا بلحاء سنطه، ونحت الله وجوهنا من طينته المراوغة، وتحمصت أجسامنا تحت شمسه، وتخمرت عقولنا ومشاعرنا وشهواتنا فى خزائنه الرطبة المعتمة، وخبأنا «بلهارسيته» اللعينة فى أكبادنا كل هذه السنين... ليس متديناً إلى هذا الحد!.
الصعيد الذى تعلمنا فيه أن «الكبير.. كبير» حتى بأخطائه، وأن للذكر حظ «كل» الإناث، وأن «الله» ضلع السلطة الثالث بعد «العرف» و«الخرافة»، وأن الشرف عملة بوجهين: الأرض والعرض... ليس متديناً إلى هذا الحد!.
الصعيد الذى قدم للشعر العربى وللإنسانية واحداً من أنقى وأشرس الأصوات الرافضة، الناقمة، «أمل دنقل» -هذا الذى رفع سقف العناد إلى «خصومة قلبى مع الله»، ورد اعتبار الشيطان.. «معبود الرياح.. من قال لا فى وجه من قالوا نعم»- ليس متديناً إلى هذا الحد!.
هناك مسحة «تدين» قديمة، واضحة وصادقة دون شك، لكنها ظلت حتى وقت قريب -ربما منتصف سبعينات القرن الماضى- جزءاً من «وجاهة» الصعيد، ودليلاً على رسوخ بنيته القبلية. هناك مسحة «تدين»، لكن «الدين» فى حد ذاته لم يكن بهذا القدر المفزع من التغول والشطط والديماجوجية.. فما الذى جرى؟.
كان لكل عائلة فى الصعيد، بصرف النظر عن حجمها وثقلها، «جامع» من حر مالها وبجهد أبنائها. وكان لكل جامع خطيب أو إمام: من القرية نفسها أو من أخرى مجاورة، لكنه حتى إذا كان غريباً يصبح (بالعِشرة وهيبة الوظيفة) عضواً فاعلاً فى العائلة صاحبة الجامع، وربما شريكاً فى صناعة قرارها. وخلافاً لظاهرة «جامع لكل عائلة» قدّم الصعيد سلسلة من المفكرين الإسلاميين والباحثين ورواد التنوير والعلماء الأجلاء، بعضهم شغل ويشغل الآن مناصب مهمة فى هرم السلطة عموماً، والمؤسسة الدينية الرسمية على نحو أخص. وقدّم فى مجال قراءة القرآن وتلاوته أصواتاً فخمة مثل محمد صديق المنشاوى وعبدالباسط عبدالصمد. ولا يمكن إغفال كم هائل من الطرق الصوفية، واحتفاء مبالغ فيه أحياناً بشيوخها وموالدها وطقوسها. لكن المفارقة أن هذا «الصعيد المتدين» هو نفسه الذى يضع «الدين» على الرف إذا تعارض مع العرف والخرافة: هو الذى يحرم المرأة من حقها فى تركة أبيها، وهو الذى يضطهد الأقباط فى أعماقه، ويعتبرهم «درجة ثالثة» بعد «العبيد»، وهو الذى يأبى أن تذهب المرأة إلى طبيب لأنه «حرام»، بينما لا يمانع فى جلوسها بين يدى دجال أو مشعوذ طمعاً فى وصفة تحل مشكلة عقمه أو عدم قدرتها على الإنجاب، وهو الذى يسمع كلام عمدته حتى إذا لم يكن يصلى، بينما لا يصدق ولا يستجيب لإمام الجامع حتى إذا تلا عليه القرآن بأكمله.
هذا هو «تدين» الصعيد: «ظاهرة اجتماعية» وليس «دينية». كان «إسلام» الصعيد وسطاً بين «معتدل» و«راديكالى».. فما الذى جرى؟. لماذا أصبح الصعيد فرس رهان لكل من يرفع راية الدين حتى إذا كان فاسداً أو نصاباً أو جاهلاً بأمور هذا الدين؟. كيف انهار نمط «العائلة» إلى حد أن «أنصاف القوالب» أصبحوا رموزاً سياسية واجتماعية واقتصادية نافذة، مسيطرة، يتطلع إليها أبناء العائلات العريقة بكثير من الغل والدهشة، لكنهم لا يجدون غضاضة -أو لعلهم مضطرون- للتعاطى معهم، ونفاقهم أحياناً؟. هل انقلب الميزان وقضى الأمر وأصبح الصعيد قاب قوسين أو أدنى من أن يكون «نطاقاً مؤمناً» إذا تم تقسيم مصر -وفقاً لما ذهب إليه مخرّف سلفى- إلى محافظات «مؤمنة» وأخرى «كافرة»؟.
للوهلة الأولى فوجئت وصُدمت كغيرى من «صعايدة العاصمة». ثم تبين لى أن المسألة أبسط مما نتخيل: المصريون يدفعون ثمن تهميش الصعيد، وتجاهل مشاكله وأزماته الطاحنة عقوداً طويلة. وبسبب هذا التهميش والتجاهل تحول الثأر من قصاص فردى تحكمه ضوابط وشروط اجتماعية متعارفة، إلى «جهاد» ضد سلطة الدولة ممثلة فى «نظام الحكم». وانحياز الصعيد للتيار الدينى، فى انتخابات برلمان الإخوان أو الاستفتاء على دستورهم، ليس استثناءً من ذلك. فالصعيد الذى قتل «السادات» فى 1981 وكاد يهدم النظام على رأس «مبارك» فى أوائل التسعينات، لم يكن يدافع عن «تدينه»، ولم يفعل ذلك بوصفه «جبهة معارضة» بالمفهوم السياسى. لكن المشكلة هذه المرة أنه لا ينتقم من سلطة الدولة، بل من «الدولة» نفسها.
لا تسأل بعد ذلك: ماذا جرى للصعيد؟. الصعيد، فى نظر غالبية أبنائه، أصبح غريباً عن مصر. والصعيدى لم يعد ذلك المخلوق الصلب، المعاند، المرفوع الرأس، حتى إذا لم يكن فى «سيّالة الجلابية» ثمن كيلو بصل.
الدولة تقتل الصعيد.. وتمشى فى جنازته
هل لا بد أن ينفجر الصعيد طائفياً ويحترق بـ«جاز وسخ» لتشعر الدولة بأنه تراجيديا موجعة ومستعصية؟. هل لا بد أن يكون كل الصعايدة قتلة ومطاريد ونازحين وأبطال نكت لتعترف الدولة بأنهم مواطنون من الدرجة الأولى؟. هل هذه «دولة» تشعر وتفكر، أم «عاصمة» لدولة لم يعد باقياً منها سوى مسخ بشع نسميه تأدباً «مصر»؟
عشت فى الصعيد ثمانية عشر عاماً، من 1958 إلى 1976، ولم أعرف لماذا خلقه الله هكذا: منبوذاً ونائياً وغليظاً ودراماتيكياً!. أنظر إليه فى خريطة مصر فأراه يتلوى كالحنش بين جبلين قاسيين، بينما تنبسط الدلتا كفستان خطوبة يستقر على ساحل. وعندما أتيت إلى القاهرة لأدرس واسترزق وأحلم تُهت وضعت، وأدركت بعد فوات الأوان أن الله لم يخلق الصعيد هكذا، بل هى «الدولة».. أو بالأحرى «مركزية الدولة». الدولة هى التى جعلت من الصعيد «معتقلاً» لأهله، فأصبح «النزوح» ولادة جديدة. الدولة هى التى تتحالف مع مطاريد الصعيد لتصفى حسابها مع مطاريد السياسة. الدولة هى التى تنفخ فى «قبلية» الصعيد وتسهر على نعراته المتخلفة لتكون أداتها فى حكمه وإخماد فتنه ونيرانه. الدولة هى التى ترسل ضباطها إلى مجاهل الصعيد لتميت قلوبهم وتعيدهم إلى عاصمتها وحوشاً. الدولة هى التى اخترعت أكذوبة «تنمية الصعيد»، ففتحت شهية الصعيدى لـ«تحديث» نفسه، فإذا هو كالغراب: لا تعلَّم «مشية» العصفور ولا عاد إلى «مشيته». الدولة -أخيراً- هى التى دسّت سيخ الإرهاب فى رماد الطائفية، فاشتعلت النار.
Comments