المحتوى الرئيسى

سامح الصقار يكتب: صحوة من سكرة العشق | ساسة بوست

04/29 11:27

منذ 4 دقائق، 29 أبريل,2017

الحبُّ وقودُ الإقبالِ على الحياة، وبدونه تشعر أنك مجمّد في فجوة بين أبعاد الزمن؛ فلا أنت قادر على معايشة تفاصيل الحياة ولا الوصول إلى الموت؛ فهو المعنى الحقيقي لوجودنا على ظهر الأرض وإن إنسانا بلا قلب يتحرك بالحب لباطن الأرض خير له من ظاهرها، ومع ما يسببه لنا من جراحات غائرة أو خوف دائم من احتمالية الفراق؛ فإن أول لحظة قرب تمحو كل ما شهدته من همٍّ وعناء؛ فالحب ماء الحياة، وبدونه تذبل الروح، وهو قوت النفوس بعد جوعها، وهو طمأنينة القلب بعد طول اضطراب.

بك أيها الحب تشرق الوجوه، وتبتسم الشفاه، وتتألق العيون. الحب قاض في محكمة الدنيا، يحكم للأحباب ولو جار، ويفصل في القضايا لمصلحة المحبين ولو ظلم.

ولأن الحب أصناف وأنواع شتى فدعونا -هذه المرة- نكتب عن أشرف الأنواع فنتوجه بمشاعرنا إلى أشرف محبوب فسبحانه هو من أبدع الحب وسن قوانينه في الوجود .. فينبغي أن يكون حب الله هو الأصل وما عداه فرع، وألا يعلو على حبه حب لأنه – سبحانه – عزيز، وإذا حققت هذا الحب ابتداء ووقعت منك بعض الهفوات، فأبشر؛ فإنَّ الماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، وستطهر خطاياك، وإن استعظمتها في نفسك؛ لأنك مقبل بقلبك على أكرم ملك.

أحب الصحابة المنهج الإلهي فولهوه، وأحبوا القرآن وحامله فناصروه، والوحي ومنزله فعظموه، وتقطعوا على رؤوس الرماح طلبًا للرضا في أيام الغزو، وهجروا الطعام، والشراب، والشهوات في هواجر مكة، والمدينة، وتجافوا عن المضاجع في ثلث الليل الغابر، وأنفقوا طلبًا لمرضاة الحبيب.

ومن المحبين من هجر الحب المحرم واتصل بالحب الشرعي الطاهر العفيف، فانتقل من عالم الزور، ودنيا الهيام، وسكرة الغرام، ومقام الآثام، إلى جنة الصدق، وروضة المعرفة، وبستان اليقين، وباحة الإيمان: فهذا ابن أبي مرثد هام – قبل أن يسلم – بفتاة وعشقها وسكب عمره في كأس هواها، وأفرغ روحه في كوب نجواها، وفرغ شبابه على تراب مغناها، فلما هداه الله وغسل قلبه من أدران الهوان وأوصار المعصية، أفاق – والله – من رقده الغفلة، ومن سنة الجهالة، ومن سكرة الغي، على صوت بلال، فارتجف جسمه، وتهذبت روحه، وأعلن في إباء، وصاح في استعلاء: أتوب إليك يا رب، وأقبل على المصحف، وهب إلى المسجد، واستعان بالصبر والصلاة، وأدمن الذكر، وسجل رائعته في ديوان الخلود وسفر النجاة ودفتر المجد:

أأبقى غويًا في الضلالة ساردًا … كفى بالمرء بالإسلام والشيب ناهيا

إن صاحب القلب الغافل مسلوب الإرادة؛ فلا يعمل عقله في رؤية الحقائق، ولا يدرك قلبه نور البصائر إلا إذا تحرر من قيود الهوى، فهاهو لبيد بن ربيعة الشاعر المشهور ، هام بالغزل ومات بالمقل، وانغمس في الشعر وحده، يعيش للقافية، ويضحي للقصيدة، ولكنه عرف الله عن طريق الصادق الأمين – صلى الله عليه وسلم – فتاب من حياة العبث والضياع، ورجع إلى المحراب، وأقبل على التلاوة، وأنشد:

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي … حتى أكتسب من الإسلام سربالا

ونذر لله ألا ينظم ولو بيتًا واحدًا، فإن فعل أعتق رقبة، وقال: كفتني سورة البقرة عن الشعر.

وهذا إبراهيم بن أدهم عاشق الملك، وهاوي الإمارة، والمولود في الرئاسة، فكر ذات يوم فقال: كان أجدادي وآبائي ملوكًا فأين هم الآن؟ هل تحس منهم أحد أو تسمع لهم ركزًا؟!  وتذكر قول الشاعر:

وسلاطينهم سل الطين عنهم … والرؤوس العظام صارت عظامًا!

فأعلن توبته، وفر من قصره، وخلع ثياب الملك، وهرب من الترف والجاه والنعيم إلى قرة وراحة الأرواح، فكان يسكن الخراب، ويمرغ أنفه بالتراب، ويأكل الشعير، وينام على الرصيف، ويقول نحن في عيش لو علم به الملوك لقاتلونا عليه بالسيوف:

أمطري لؤلؤًا سماء سرنديب … وفيضي آبار تكريت تبرا

أنا إن عشت لست أعدم خبزًا … وإذا مت لست اعدم قبرا!

وهذا عمر ابن عبد العزيز ابن النعمة والحشمة، وارث الدور والقصور، أرغد الناس في شبابه عيشًا، وأكثرهم ترفًا، وأزكاهم عطرًا، لكن نفسه تاقت إلى الجنة فزهد في الفاني، ورغب في الباقي، واقبل على الله تعالى، وصدق مع ربه فعدل في الرعية، وأخلص في العبودية، وقاد الأمة الإسلامية خير قيادة، مع ورع متين، وعلم راسخ، وخشوع صادق:

جزاك ربي عن الإسلام مكرمة … وزادك الله من أفضاله كرما

الحب على المحبين فرض، وبه قامت السماوات والأرض ولم يدخل جنة الحب، لن ينال القرب، بالحب عبد الرب، وترك الذنب، وهان الخطب واحتمل الكرب، عقل بلا حب لا يفكر، وعين بلا حب لا تبصر، وسماء بلا حب لا تمطر، وروض بلا حب لا يزهر، وسفينة بلا حب لا تبحر.

بالحب تتآلف المجرة، وبالحب تدوم المسرة، بالحب ترتسم على الثغر البسمة، وتنطلق من الفجر النسمة، وتشدو الطيور بالنغمة، أرض بلا حب صحراء، حديقة بلا حب جرداء، ومقلة بلا حب عمياء، وأذن بلا حب صماء!

الحب هو بساط القربى بين الأحباب وهو سياج المودة بين الأصحاب:

شكا ألم الفراق الناس قبلي … وروع بالنوى حي وميت

وأما مثل ما ضمت ضلوعي … فإني ما سمعت ولا رأيت!

بالحب ترضع الأم وليدها، وتروم الناقة وحيدها، بالحب يقع الوفاق، وبالحب يعم السلام، والمودة والوئام.

بالحب يفهم الطلاب كلام المعلم، وبالحب يسير الجيش وراء القائد ويتقدم، وبالحب تذعن الرعية، ويعمل بالأحكام الشرعية، وتصان الحرمات، وتقدس القربات.

بيت لا يقوم على الحب مهدوم، وجيش لا يحمل الحب مهزوم، لكن أعظم الحب وأجله ما جاءت به الملة، أجمل كلمة في الحب قول الرب: يحبهُم ويحبونَه. فلا تطلب حبًا دونه!

أحب امرؤ القيس فتاة، وأحب أبو جهل العزى ومناة، وأحب قارون الذهب، وأحب الرئاسة أبو لهب؛ فأفلسوا جميعًا؛ لأنهم أخطأوا خطأً شنيعًا . أما حب بلال بن رباح فهو البر والصلاح؛ سحب على الرمضاء، فنادى رب الأرض والسماء، وانبعث من قلبه: أحدٌ أحد، لأن في القلب إيمانا كجبل أحُد.

إذا كان حب الهائمين من الورى … بليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا

فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي … سرى قلبه شوقا إلى العالم الأعلى؟!

الحب لا يعترف بالألوان ولا بالأوطان، والدليل بلال وسلمان؛ بلال أبيض القلب أسود البشرة، فصار بالحب مع البررة، وأبو لهب بالبغض ليس من أهل البيت، وسلمان نال بالحب جائزة: سلمان منّا أهل البيت!

دعني من حب مجنون ليلى، ومحبوب سلمى، ومعشوق عفرا، فلطالما لطخت بأشعارهم الطروس، وضاقت بأخبارهم النفوس، وخدعت بقصائدهم الأجيال واتبع غوايتهم الشباب، وحدثني عن أنباء الأنبياء، وهم من أجل حب الرب يهجرونه الأباء والأبناء؛ فإبراهيم يتبرأ من أبيه، ونوح من بنيه، وامرأة فرعون تلغي بنفسها عقد النكاح؛ لأن البقاء مع الكافر سفاح، ويوسف يفضل السجن على الفحشاء.

هذا هو عالم الحب بتضحياته، بأفراحه وأتراحه، وهو حب يصلك برضوان من رضاه مطلب، وعفوه مكسب.

والله ما نظرت عيني لغيركم … يا واهب الحب والأشواق والمهج

وأقبل عليه وقل مع القائل:

       والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت إلا و حبّـك مقـرون بأنفاسـي ولا خلـــــــــــــــــــــــــوتُ إلى قـــــــــــــوم أحدّثهــم إلا و أنت حديثي بين جلاســي ولا ذكــــــــــــــــــــرتك محــــــــزوناً و لا فَرِحا إلا و أنت بقلبي بين وسواســـي       ولا هممت بشرب الماء من عطش إلا رَأَيْتُ خيالاً منك في الكـــأس

 * تكلّم هامسًا عندما تتكلّم عن الحبّ.

* الحبّ تجربة حيّة، لا يعانيها إلا من عاشها.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل