المحتوى الرئيسى

في الحروب وروائع الشطرنج الجندي: ضحية أم قائد عظيم؟!

04/29 11:01

الجنود ونعني بهم هنا الرتبة العسكرية الأدنى، الذين لا يحملون سوى رتبة الجندي، وهم لا شك نواة الجيوش، يشكلون فيه القاعدة العريضة والجزء الأصيل، ومنهم مَن يخدم بأدوار قتالية، ومنهم مَن يُكلف بأدوار غير قتالية، بهدف الدفاع عن وطنهم وحماية أرضه ومصالحه من أطماع الأعداء، والتعامل كقوة ردع لأساليب المتربصين والطامعين، الخبيثة والملتوية، والتي تطورت مع دهاليز السياسة وتكتيكات الحروب ودهائها.

والدول العريقة والجيوش الأصيلة هي التي تسمو بقياداتها العسكرية الصغيرة منها قبل الكبيرة، فيكون الجندي محور اهتمامها في بنيتها العسكرية والإنسانية والاجتماعية، والأهم أنها تقوم على تطويره وتحديثه؛ ليكون جندياً معاصراً، راقياً في مظهره متحضراً، مزوداً بأحدث المعدات وأدوات التكنولوجيا، وهو عكس ما ترتكبه الدول التي تسير في ركب التخلف، فيكون الجندي تابعاً، متواضعاً، متخلفاً، منزوع القوة والهيبة والكيان.

والجندي أيضاً في روائع "الشطرنج"، وهي الرياضة الذهنية التي أحبها منذ نعومة أظفاري، هو صورة مماثلة في رقعة متقاطعة وميدان افتراضي مصغر من ميدان قتالي كبير يقوده أذكياء أو هواة، أو مغامرون يتمتعون بالحنكة والخبرة، أو يفتقدون لمهارة المناورات، فيكونون طعماً سائغاً لاختراقات الأعداء ودهائهم وخبثهم وغلبتهم.

وكثيراً ما أتساءل: كيف يكون "الجندي" أو "البيدق" عندما يصول ويجول في الميدان هو أشجع ربما من كل القادة الذين يحاربون معه؟ ولمن لا يعرف أسرار "الشطرنج" الجميلة، فالجندي هو الوحيد في لعبة "الشطرنج" وربما في حروب الشجعان البواسل، الذي كُتب عليه أن يتقدم في الوغى ولا يتقهقر، حتى لو مات دفاعاً عن أرضه أو عرضه أو قائده، بينما كل القادة والضباط والفرسان يحق لهم أن يتراجعوا، دون خجل، بمبرر حماية عروشهم، أو متطلبات الاستراتيجية أو إعادة التمركزات اللوجستية، أو الهروب من الهزيمة أو تلقي الضربات، أو البحث عن انتصار، يكون أو لا يكون!

والجندي أو "بيدق" الشطرنج تتمثل قوته في نقطة واحدة وهي الأقل قوة بين البقية فـ"الرخ" أو "القلعة" يمثل 5 نقاط، و"الفيل" يمثل 3 نقاط و"الفارس" أو "الحصان" 3 نقاط، والوزير الأول أو قائد المعركة الحقيقي 9 نقاط، أما "الملك" فهو خارج التصنيف؛ لأنه بهزيمته أو استسلامه، تنتهي المعركة، وإن كان مصيره أفضل فتنتهي المعركة بالتعادل.

وخلال المعركة يصول الجنود المقاتلون ويجولون، فكل جيش يريد أن يستبسل ليضع ملك الآخر تحت التهديد بالأسر أو إنهاك قواته أو الهزيمة أو الاستسلام لتحقيق الانتصار، ولهذه الغاية تستخدم قطع "الشطرنج" وعددها 16 لكل جيش افتراضي منها 8 بيادق وقلعة وفيل وحصان والوزير الأول والملك لمهاجمة وأسر قطع الخصم، وفي نفس الوقت للدفاع عن بعضها البعض.

والمفارقات أن الجنود الصغار هم أكثر المقاتلين انتشاراً؛ لكثرة عددهم، وتبدو شجاعتهم وبسالتهم منقطعة النظير، فيتقدمون ولا يتقهقرون، فلا خيار لهم إلا الفوز أو الهزيمة، أو الموت، وكأنه كتب عليهم أن يكونوا ضحية بلا ثمن في معارك شريفة وذكية ونزيهة، أو معارك لا ناقة لهم فيها ولا جمل.

والجنود لا يتأخرون عن واجباتهم بتقديم الدعم والمساندة العاجلة، وإن خذلهم الآخرون، فيدافعون باستماتة عن ملكهم ويشكلون طوق حماية له ولعرينه بشكل مبالغ فيه فتقع "المأساة" بأنهم، بحسن نية أو بسوء تخطيط أو أسباب أخرى، قد تسببوا في "خنق" ملكهم فلا يجد ملاذاً للهروب، ولا مفر من الاستسلام، فنتساءل لماذا بالغوا في حماية ملكهم، هل هي إطاعة الأوامر بطريقة أشبه بالعبودية، أم أنهم أكثر ذكاءً من ملكهم أو قائدهم فيرغبون في السخرية منه والانتقام فيتظاهرون بأنهم يحمونه، لكنه هو غير قادر على النجاة بنفسه.

ولكن الأهم في روائع "الشطرنج" أن الجندي المقاتل الشجاع الذي يتمكن من الوصول إلى "عرين" الملك العدو، تكون جائزته أن يصبح فوراً قائداً عظيماً يتقلد أعلى الرتب العسكرية، فيتحول في معركة عصيبة مثيرة من جندي قوته نقطة واحدة إلى قائد ميدان في المعركة بقوة 9 نقاط.

وهذه هي اللحظة التي يسجلها ويكتبها التاريخ في المعارك الحقيقية والافتراضية، أن ذلك الجندي صغير الرتبة هو من جلب الانتصار العظيم لأمة تعلق أمل شعبها وكرامتها بمدى جسارته، وربما يكون هو الجندي الوحيد الذي تبقى في الميدان.

وإذا كان التاريخ قد سجل في الحروب صفحات انتصار لقادة عسكريين، فقد كتب أيضاً قصصاً من الشجاعة والبسالة لجنود صغار لا يعرفون التراجع، عكس بعض قادتهم الذين يفضلون الاستسلام مع أول حصار يتعرضون له فيلجأون للمفاوضات، حرصاً على حياتهم وعروشهم وكراسيهم.

وهذا التاريخ العسكري الشجاع تسجله روائع "الشطرنج"، كميادين افتراضية للمعارك الحقيقة، بل أحياناً تكون نهاية الملك الخصم ونهاية عرشه وزوال ملكه وكرسيه بيد جندي صغير الرتبة، فيكتب التاريخ للجندي ما لا يكتب للملك.

ومن عمق التاريخ وحتى العصر الحديث، عرفنا أن الدهاء والذكاء والمناورة والخدعة، وليس الغدر والخسة ونقض العهود، جزء أصيل من استراتيجية فنون الحروب المدججة بعشرات الآلاف من الجنود، فيتحقق النصر ربما دون إراقة دماء أو بأقل قوة من الجنود وبأقل تكلفة وعتاد، ولذا كان التعبير الأشهر "الحرب خدعة" حقاً أصيلاً في الحروب، يعرف بها قادته، وما أكثرهم وما أكثر حكاياتهم في الحروب.

وفي روائع "الشطرنج" تكون الخدعة جزءاً أصيلاً من الحرب الافتراضية، يتحقق بها الانتصار والفوز وتثير الإعجاب ويسجلها تاريخ الأذكياء، ولهذا تكون أحياناً التضحية ربما بأكبر عدد من الجنود ليوهم القائد الداهية، منافسه بعدم أهميتهم وقيمتهم، أو حتى التخلص من بعض القادة كخطة إيهام وخدعة وتضليل، في سبيل تنفيذ خدعة محكمة التنفيذ تحقق الغلبة والنصر جبراً على المنافس، فيكون له ما أراد، بل يكون الانتصار أحياناً اللجوء لخدعة الوقت، عندما يتعمد قائد الحرب الافتراضية إنهاك المنافس بالتفكير في مناورات هامشية.

بل من الغرائب في حروب "الشطرنج" أن الجندي نفسه يُقدم على ممارسة الخداع والمناورة في الحرب، مبرراً لنفسه أن قادته يقدمون أحياناً على الانتحار السياسي قبل العسكري فلماذا لا يجرب هو على الأقل خدعة قد تنطوي على جندي مثله في جيش أعدائه؟ فيحاول المرور أو العبور بالتجاوز، ولكن مصيره في هذه الحالة مرهون بذكاء المحارب المنافس، فقد تنطوي عليه الخدعة ويتركه يتجاوز، ولكن في الغالب يلقى حتفه ومصيره المحتوم بـ"الموت خدعة".

وحتى السينما العالمية أرادت أن تسمو بقيمة الجندي، كما شاهدناه وشاهده الملايين آنذاك، في الفيلم الأميركي، "إنقاذ الجندي رايان" للمخرج ستيفن سبيلبرغ، وهو من إنتاج عام 1998، وتدور أحداث الفيلم حول عملية إنقاذ تقوم بها مجموعة مهام قتالية صغيرة أثناء الحرب العالمية الثانية بين دول "الحلفاء" ودول "المحور" عام 1944 للعثور على المجند "رايان" لإعادته إلى الوطن بعد مقتل 3 من أشقائه في نفس الحرب؛ ليكون تكريماً للأم من أجل أن يعيش معها أحد أبنائها حتى لو كان على حساب الدفاع عن الوطن، بينما وجدنا في دول مات أكثر من شقيق في حرب واحدة، ولم تبالِ بالأموات أو بالأحياء، كما أن الغاية من الفيلم لصناع القرار الأقوياء تعكس الحرص على مكانة الجندي وهيبته ومكانته حتى لو كان ذا رتبة صغيرة، مقارنة بدول أخرى تتعمد اللامبالاة وهي ترى الجندي مهاناً في مهام غير واجبه العسكري، ولا تتحرك لتغير واقع مخجل ومعيب، وهو واقع عكسته، بسذاجة مفرطة، كاميرات سينمانا "العريقة"، حتى بات الجندي مثاراً للسخرية والشفقة والوجع والألم.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل