المحتوى الرئيسى

الرحلة إلى قرى الأطلس الصغير الوادعة "1"

04/28 08:36

قال لي بصوت منشرح: اخفض سرعة السيارة، وانظر أعلى الجبل، على يسارك. التفت يساراً. سررت برؤية منازل "حديثة الطراز" على قنة الجبل أو قمته.

ذكرتني رؤيتها بقصر بديع توقفت عند أبوابه مشدوهاً مندهشاً من جمال هندسته التي زانتها أزاهير الأقحوان المزهرة من حوله، في مرتفع يثوي فوقه مثل هرم شامخ.

ذاك القصر لم يكن قصر أمير، وإنما فندق قناص ماهر للسياح الغربيين الذين تنتشر "عرباتهم الشبيهة بالمنازل المجهزة المتحركة" على امتداد السهل الذي تحفه الجبال من كل جانب، وتتوسطه مدينة من مدن الأطلس الصغير، لا شية فيها سوى أشعة الشمس اللاهبة عند الظهيرة، إنها "تافراوت"، جئتها عاشقاً رؤية الربيع الذي لم تفسد جماله وبهاءه لوثات دخان السيارات والمصانع التي جعلتني أفر من ضواحي الرباط.

في الطريق إلى تافراوت، انتابني انتشاء خادع بأن الطريق سالك، وليس وعراً ولا حزناً بربوة، ذلك أن شطره الأول معبد على نمط الطرق الحديثة التي تتسع لعربتين تسيران في اتجاه معاكس، لكن ضيق شطره الأخير أذهب ظن العناية بالطريق الذي نسبته، وهماً، لأبناء البلدة الذين تسنموا مراكز عليا في الدولة بعد الربيع العربي، فاضطررت مراراً للانتحاء بالسيارة جانب الطريق كيلا أصطدم بالعربات القادمة من الاتجاه المعاكس، خاصة تلك التي تمر مرّ السحاب سريعة، كأن أصحابها من طول ارتيادهم هذا الطريق الهش قد أمنوا على أنفسهم أخطاره المحدقة التي وجدت لها أثراً في منعرج يقع على ارتفاع شاهق؛ حيث اصطدمت اصطداماً خفيفاً، عربتان، لم يصب ركابهما بأذى، لكن سائقيهما، فضلا انتظار مجيء الدرك كي يسجل محضر الحادثة الطفيفة.

وافيت مدينة "تافراوت" الناعسة عند قدم الجبل السامق ظهراً، طالعتني بنايات حديثة، فخلت أن معظم أهل البلد على جانب من اليسر، أو لنقل على وعي بهندسة وتدبير الموارد، ولو شحت؛ كي تسعف في بناء منازل مناسبة للسكن في هذا الفضاء الذي يتنفس صيفاً أهله الصعداء من شدة الحر الذي لامست جلدي بعض سياطه الخفيفة مذكرة إياي ببلدتي الصحراوية (أسا) التي تنام عند قدم جبل باني.

أخذتني جولة بين شوارع المدينة التي زينت بعض واجهات منازلها أصص الأزهار خلافاً لكثير من مدننا التعيسة بكمّ الإسمنت والحديد الذي يزيدها في حرارة القيظ لهباً على لهب، وصرفت العين إلى محطات الوقود التي يعود نفعها للوزير الذي تمتلك عائلته الشركة التي لا أود تسميتها بخلاً على مروجي الإشهار بالمجان، أحصيت في هذا الفضاء الصغير خمس محطات تزود بالوقود، وألفيت عند ناصية شارع فسيح شاحنة صهريج ضخمة، تملكني العجب كيف تتلوى عبر الطريق الضيق كي تصل إلى هذه المدينة الوادعة التي قد تشكو ربها، لو نطقت من هذه الروائح المنبعثة من هذه المحطات التي ازدحمت وانحشرت في بقعة بين جبلين.

لا ينكر فضل المواصلات إلا جاهل، لكن فائض محطات البنزين المنتشرة، أقرفني، لم يغنني عن تذكر همة الأسلاف الذين كانوا يتنقلون عبر مضايق هذه المسالك مشياً على الأرجل أو على ظهور المطايا، والحمير الصبورة التي رأيت لأول مرة عند العودة قافلة منها تحمل متاع عائلة، وأبصرت الأم، وقد تخلفت قليلاً عن الركب المكون من ست دواب، لا بغل فيها، تمتطي حمارها الذي تبدو بردعته حديثة قشيبة.

سألني صاحبي كي يخبرني بمغزى مرور الركب وغيره من الراجلين بمحاذاة الطريق المعبد، لماذا، في نظرك، لا ينتبذون طريقاً آخر غير معبد لا يتهددهم فيه خطر حوادث السير؟ قلت: ربما عرفوا أن أقصر الطرق وأكثرها أماناً، هو هذا الطريق المعبد الذي لن يعترضهم فيه قطاع طرق أو لصوص مفترضون. قال: بل لأن هذا الطريق هو الطريق الذي مهدته أقدامهم وحوافر دوابهم منذ ما قبل شيوع وسائل النقل، كان الأجداد يعبرون من هنا، وهم على خطاهم سائرون.

لست أدري لماذا، كلما تذكرت هذا الطريق الذي سلكته متجهاً إلى إفران، تهجم علي مشاهد من رواية اليهودي المغربي "اشر كنافو" الذي أبهرني سرده لأحداث هجرة اليهود بإفران بعد مأساة ما سماه "محرقة إفران" التي لم أجد لها أثراً في وثائقنا الشحيحة ومصادرنا الغميسة، إذ لم أجد سوى شذرات توثق ما حدث إثر تمرد بوحلاسة في أوائل عهد مولاي سليمان، ذلك التمرد الذي أنهاه من سماهم "كنافو" الرجال الزرق، ومن هنا، ربما، تسمية آخر يهود وادنون "صراف مرداشي" (بردخاي) المتوفى عام 2017، فندقه الذي يتوسط شارع إفني بكليميم، فندق الرجال الزرق، بينما يقر المعسول من خلال وثائقه بأن التمرد أنهاه عبيد الله أوسالم، جد أهل بيروك ...

اتجهت شرقاً، أبصرت عربات السياح المجهزة تربض وسط النخيل الوارف الظليل، ألقيت نظرة خاطفة على لائحة كتب عليها بالفرنسية: camping، تلصصت من طرف خفي، فرأيت امرأة شقراء قرب سيارتها، تبدو قد بلغت من الكبر عتياً، تذكرت فندقاً بواحة تغمرت، لا يستأجر السياح غرفه، وجلهم ممن فات السبعين أو أوشك على التسعين، وإنما يكترون ساحته المسيجة كي ينعموا بالأمان داخل عرباتهم التي تحمل متاعهم، وفيها يأكلون ويشربون.. قال صديقي بتافروات: لا نجني من هؤلاء البخلاء سوى النفايات التي يضعونها بسلام في حاويات أزبالنا، حتى الماء يجلبونه من بلادهم!

دلفت إلى السوق، تفرست في وجوه قلة من الباعة الذين لم يغادروا محلاتهم لأخذ قسط من الراحة وقت الظهيرة، مررت بمحلين وضعا عصياً متقاطعة تمنع رمزاً الزائر من ولوج المحل الخالي من صاحبه. إمارة تنعم بالأمان المفقود في كثير من المدن المكتظة بالنشالين الذين لا تكاد تخرج محفظة نقودك حتى يخطفوها منك في لمح البصر!

ألقيت عصا التجوال في السوق الصغيرة عند باب محل إسكافي تقليدي، ألقيت السلام على صاحبه، فرد التحية، كان شاباً في مقتبل العمر، سألته عن ثمن نعال جلدية معروفة عند الأمازيغ، أجلت عيني أبحث عن نعل يشبه نعل جدتي الأحمر، ذاك النعل الذي لم يفارق مخيلتي، وصفت له غايتي، فهم المقصود، فأفتر ثغره عن بسمة صافية، وقال: "لا نصنع سوى نعال الرجال"، قلت: والأطفال؟ قال: هذه عينات من نعال الأطفال. اشتريت منها زوجين، ونعل رجل بعد مماكسة طفيفة.

لم أبرح محل التاجر اللطيف إلا بعد أن سألته عن الطريق المؤدية إلى إفران الأطلس الصغير وتيمولاي، فأجاب بلطف: لقد زرت إفران مع فريق كرة القدم منذ أيام، فأنا لاعب بالفريق المحلي هنا، وقد سلكنا طريق "تهلالة" هل تعرفها؟ قلت: لا، لكني بصرت بهذا الاسم مكتوباً على لائحة تشوير أثناء قدومي من تزنيت. خمنت أن الشاب لن يستطيع أن يدلني، وهو قابع بين جدران محله على الطريق الذي ينبغي أن أسلكه، فعاجلته بسؤال عن مطعم بلدي (يقدم وجبات شعبية). قال باختصار: من الأفضل أن تذهب إلى مطعم الزردة في الزقاق المجاور.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل