المحتوى الرئيسى

ريم سيد حجاب: أنادي عليه كل صباح.. متى تعود؟!

04/26 18:04

 اكتشفنا مرضه بالصدفة في باريس.. وكان متفائلاً قبل موته

 كتب أولى قصائده ضد الاحتلال الانجليزي.. واعتقل في الستينيات

 كان يحب المرأة.. فتزوج سويسرية ولبنانية.. وأمي طبعًا

 علمني حرية التفكير والاختيار.. رغم أنني كنت طفلة عنيدة.

ـ الساحرة.. الآسرة.. الهادرة.. الساهرة.. الساترة.. السافرة.

ـ الزاهرة.. العاطرة.. الشاعرة.. النيرة.. الخيرة.. الطاهرة

ـ الساخرة.. القادرة.. الصابرة.. المنذرة.. الثائرة.. الظافرة

ـ في منتصف شهر أكتوبر عام 1969 عاد الشاب «سيد حجاب» إلى شقته، بعد ساعات قضاها علي أحد مقاهي وسط القاهرة، ترك الأصدقاء بعدما قرأ لهم أبياتًا من ديوانه الأول «صياد وجنية». الشارع معتم. ومدخل  البيت أنواره يكاد يري من خلالها السلم بصعوبة.

بدأ الصعود حتي وصل لشقته. جلس على أقرب مقعد ليستريح. بعد دقائق قام من مكانه واتجه لمطبخه المتواضع ـ فهو فلاح جاء من مدينة في ريف الدلتا شمال العاصمة قبل سنوات ـ وأراد أن يختم يومه، ويبدأ ليله  بكوب شاي دافيء. وضع «براد» الشاي علي النار وعاد للصالة وقبل جلوسه سمع صوت أقدام ثقيلة ومسرعة تصعد السلم ثم توقفت أمام باب شقته بعد لحظات بدأ يفزع من ضربات متلاحقة وبعنف على بابه. سأل: من بالباب؟ في البداية لم يأته رد إلا أن الضربات المتلاحقة مستمرة وبعدها جاءه الرد: «افتح  الباب. افتح الباب. وفي المرة الثالثة كانوا أمامه يسألون:  أنت سيد حجاب؟

ـ أنت إذن تسخر منا؟!

ـ سوف تشرب معنا فنجان قهوة وتعود بعد خمس دقائق.

ـ رد وهو يبتسم: لكنني لا أحب قهوتكم.. وحاليًا أعد فنجان شاي في مطبخي!

ـ عاوده الرد هذه المرة بعنف قائلاً:«احنا مش هنهزر»! اتفضل يا أستاذ.. يا شيوعي.

وبالفعل ذهب معهم بتهمة الانتماء الى الحزب الشيوعي المصري، ليتم اعتقاله وترحيله إلى سجن الواحات مع من تم اعتقالهم من اليسار في ذلك الزمان. والخمس دقائق التي وعدوه بالعودة بعدها أصبحت خمسة شهور قضاها وراء القضبان. عاد بعدها إلي بيته وإلي كوب الشاي الذي كان ينتظره.

ـ باحلم وافتح عنيا..علي جنة للانسانية.

ـ والناس سوا بيعيشوها.. بطيبة وبصفو ونية.

ـ أحلامي تصلب لي ضهري.. ويروق ويصفى لي دهري.. هكذا كتب الراحل سيد حجاب.. كتب للحلم، والانسانية،والمساواة، وصفاء الروح، وصفاء الدهر.. وتغني بتلك الكلمات  الفنان علي الحجار علي أنغام ياسر عبدالرحمن في العمل الدرامي المميز «المال والبنون» منذ سنوات مضت، والذي يقرأ هذه الكلمات ويستمع لها يكتشف بسهولة فلسفة هذا الشاعر في الحياة. ويعرف أنه جاء ليكتب لتعيش الانسانية في بهجة، وسعادة، وعدل، ومساواة.

في هذه الحلقة من سلسلة حوارات «أبي.. الذي لا يعرفه أحد» ذهبت إلى عالم سيد حجاب، الذي غادر عالمنا بجسده منذ أسابيع قليلة، لكن إبداعه سيعيش بيننا يبحث من خلاله عن معانٍ جديدة وحلم جديد للإنسانية.

اتصلت بابنته «ريم» ـ فنانة شابةـ واتفقنا على اللقاء في الموعد المتفق عليه بيننا وصلت الى شارع السودان بحي المهندسين بالقاهرة.. صعدت سلالم العمارة حتى وصلت إلي الدور الرابع وأمام الشقة رقم 7 وقفت وضغطت على جرس الباب. اتفضل يا أستاذ.

قالت ذلك وفي صوتها نبرة حزن واضحة. وفي عينيها صورة زوجها الذي عاشت معه الحلم والأمل والصعود والهبوط والانتصار والانكسار. في  هذه الشقة عاشت سنوات طويلة تساعده، وتسانده ويسمعها  كل ما يكتبه بعدما ينتهي منه، هكذا قالت لي السيدة «آمال بيومي» تعمل مخرجة تليفزيونية وهي الزوجة الثانية له وأم ابنته الوحيدة «ريم». وبعد دقائق من حديثي معها، جاءت الابنة «ريم» وحزنها ضعف حزن الأم. صوتها مخنوق بالكلام، وتحاول جاهدة إنقاذ ذهنها من الشرود. بعد الترحيب بي استأذنت الأم في الانصراف وهي تسألني قائلة: ماذا تريد من الشراب؟

 أومأت برأسها وهي تنصرف، في الوقت الذي دعتني  فيه «ريم» للجلوس في مكتب أبيها. وقد كان!

جاءت جلستي أمام صورة للراحل بليغ حمدي وهو يحتضن عوده، وبجواره صورة للأب وهو يمسك بيد طفلته التي كبرت وتجلس الآن أمامي .لاحظت «ريم» نظرتي لهما فقالت: هذه صورتي معه منذ سنوات مضت. كان يحب أن يأخذني ونخرج في نزهة سويًا، يمسك بيدي الصغيرة، ويحكي لي عن أحلامه الكبيرة. كنت أسمع له وأنا في حالة دهشة. قلت لها: ولما الدهشة؟ قالت: دهشتي كانت من أنه كان يتعامل معي رغم طفولتي ـ على أنني امرأة كبيرة صديقة له، يحكي لها، ويسمع منها، ويناقش أفكارها. وإن دل ذلك على شيء، فهو يدل على أنه كان يحترم عقل المرأة حتي وإن كانت طفلة، فمنذ طفولتي وهو يطلق لي حرية التفكير ويشجعني عليه، وحرية الرأي ويقف معجبًا بما أقوله، وما أتوقف أمامه، وما أعلنه حتي وان كان مختلفًا مع ما أقوله. وأتصور أنه استمد هذا الأسلوب من أبيه الذي كان يشجعه ـ أيضاً ـ وهو طفل صغير على أن يجالس الكبار من أهل مدينته من الصيادين وهم يجلسون آخر النهار يتسامرون، ويتكلمون ويتبارون في قول الشعر. قلت لها: إذن كان هو امتدادًا لأبيه في كتابة الشعر؟ قالت: نعم ، فلقد بدأ مشواره مع الشعر مبكرًا في عمر صغير وهو طفل. وفي عمر11 عامًا كان معروفا في الدائرة المحيطة به بـ«الشيخ سيد».

ربما تشبيهًا بالشيخ سيد درويش ـ ووقتها بدأ ينمو بداخله الحس الوطني، وبدأت أبيات الشعر تزاحم بداخله أفكار الطفولة. وتجاوبت بداخله قضية جلاء الاحتلال الانجليزي، وكان ـ يحكي لي وأنا طفلة صغيرة عن هذه الفترة ـ ويقول: كانت تخرج أمام أعيننا جنازات صامتة من أجل الشهداء، الذين يتساقطون برصاص المحتل في المظاهرات. وفي هذا الجو المشحون بالوطنية كنت أتواجد، وأهتف «الاستقلال التام أو الموت الزؤام» وبدأ في هذه السن كتابة الشعر وأولي قصائده كانت في رثاء الطفل الشهيد« نبيل منصور» الذي استشهد في مدينة بورسعيد عام1951 ،يومها أنشد يقول:

ـ كنا غزاة وأبطالاً صناديد

ـ صرنا لرجع الصدى في الغرب ترديداً

ـ لكننا سوف نعلو رغم أنفهم.

- ويكون يوم نشورنا في الكون منشودًا

يومها قرأ أبياته تلك على أبيه فوصفه وقتها قائلاً «ابني شاعر بالسليقة». وطلب منه أن يتعلم علم العروض، والقوافي، وساعده جدي في تعليم أوزان الشعر لمدة ثلاث سنوات. قلت: وهل كان أبوه يكتب الشعر؟

قالت: نعم.. ورث أبي الشعر وكتابته عن والده، الذي كان يحب كتابة الشعر. ويجلس معه وسط الصيادين.

كانت مدينة المطرية تشتهر بمهنة صيد الأسماك ـ وهم يتسابقون في إلقاء الشعر في أوقات فراغهم.

وبعد هذه المرحلة جاءت مرحلة المدرسة حيث أكمل رعاية موهبته مدرسو الرسم في مدرسة بلدته «شحاتة أفندي سليم» الذي علمه كيف ينمي موهبته، ويركز فيما يكتبه على أحلام وأوجاع وحب قريته وحب الناس فيها. وعند الأحلام والأوجاع وحب القرية والناس.. توقفت «ريم» قليلاً بعدما استأذنت الأم في أن تقدم لنا فنجان القهوة الذي طلبته قبل قليل.

ـ من انكسار الروح في دوح الوطن

ـ ييجي احتضار الشوق في سجن البدن

ـ من اختمار الحلم ييجي النهار

ـ يعود غريب الدار لـ «أهل وسكن».

كانت هذه الكلمات يتغني بها المطرب محمد الحلو كمقدمة لمسلسل ذائع الصيت في الدراما المصرية والعربية «ليالي الحلمية» وكانت معه شوارع وبيوت مصر، تعلو فيها كل مساء في منتصف الثمانينيات تلك الكلمات التي كتبها سيد حجاب والحان الموسيقار ميشيل المصري. عدت من هذه المرحلة الي حيث أجلس مع الابنة وبدأت أشعر بالحزن يضغط على الكلمات التي تخرج منها وهي تقول: كان يحرص على اعطائي فرصة التعبيرع بداخلي بكل حرية، وعندما اكتشف أنني أكتب شعر العامية، قال ليّ اكتبي واطلعي علي أشعار صلاح جاهين وفؤاد قاعود وفؤاد حداد وأمل دنقل ولا تقلدي أحد، وأنا فرحان لأنني أحب الشعر وكتابته وتذوق الفنون. وكان يعلمني الأشياء بصورة غير مباشرة، قلت لها: هل كان لديه الوقت الكافي لتعليمك ومتابعتك وأنت طفلة صغيرة؟ قالت: كانت أمي أكثر متابعة لي منذ الصغر، خاصة وأنا- بجانب الدراسة- كنت أهوى الأوبرا والتمثيل والفن بشكل عام، أما هو فكان يتابع أيضًا ويوجه ويعلم، وكان ديمقراطيًا في البيت، فلا أذكر ولو مرة واحدة صوته ارتفع، أو صرخ أو زعق فينا، ورغم أنني طفلة وحيدة وعنيدة وبفكر واختلف وأسأل.. إلا انه رغم هذا كان هادئًا يسمع ويناقش ويطرح وجهة نظره وإن لم أقبل بها.. كان يقول هذا رأيي وهذا اختيارك، وأنت حرة فيما تختارين.

- ولد في 23 سبتمبر عام 1940 ورحل في 25 يناير 2017، جاء مولده في مدينة تسمى «المطرية» في محافظة الدقهلية والتحق بكلية الهندسة جامعة الإسكندرية قسم العمارة، وبعد سنتين وبالتحديد في عام 1958 ترك الهندسة في الإسكندرية وجاء للقاهرة في كلية الهندسة أيضاً ليدرس التعدين، تزوج ثلاث مرات، وأنجب ابنة واحدة، أول دواوينه «صياد وجنية» عام 1964 وشارك الراحل عبدالرحمن الأبنودي في اعداد وتقديم برامج للإذاعة في بداية مشواره، ثم ساهم بكلمات أغانيه في صنع تاريخ للدراما المصرية، حيث كتب «تيترات» المقدمة والنهاية لأجمل وأفضل الأعمال الدرامية التي قدمت علي شاشة التليفزيون المصري ومنها «ليالي الحلمية.. المال والبنون.. أرابيسك.. بوابة الحلواني.. الشهد والدموع.. أوبرا عايدة».. وغيرها من الأعمال التي ارتبطت في وجدان المشاهد المصري والعربي.

عدت للابنة وسألتها: كيف تعرف على والدتك المخرجة التليفزيونية آمال بيومي؟ قالت: والدتي هي الزوجة الثانية له.. والتعارف بينهما جاء من خلال المسرح وبالتحديد في مسرح «العرائس»، حيث كانت تعرض مسرحية «أبوعلي». ثم توقفت عن الكلام قليلاً، وقالت: تزوج أبي في بداية حياته من السيدة الجميلة إيفلين بوريه وهي فنانة تشكيلية رائعة جاء إلي مصر من سويسرا في أوائل الستينيات مع والدها ووقتها تعرفت على أبي وتزوجا، وسافرت معه ذات يوم إلي محافظة الفيوم جنوب غرب القاهرة ووقعت في غرام المكان وقررت الإقامة فيها ولم تفكر للعودة إلي بلدها الأصلي سويسرا، وبعدما انفصلت عن أبي أقامت هناك ورشة لتعليم الأطفال صناعة الفخار وحولت القرية إلى مزار سياحي لعشاق الفخار، ثم في عام 1996 تزوج من زوجته الثالثة السيدة ميرفت الجسري وهي لبنانية جاءت إلى القاهرة والتقت به وحدث الزواج الذي امتد حتى رحيله، قلت: تتحدثين عن زيجاته دون غضب ولو حتى بدافع إنساني لكونه ترك البيت وذهب إلى بيت آخر؟ تضحك وتقول: أبي.. لم يترك بيتنا عندما تزوج بغير والدتي.. بالعكس كان يعيش معنا في كل تفاصيل حياتنا، الصورة المعلقة أمامك هذه حاليًا كان ينظر لي من خلالها ..مكتبه الذي نجلس بجواره حاليا كنت أراه كل مساء جالسًا عليه، صوته ملابسه.. ضحكته، أنفاسه، تنهيدته، كل ذلك طوال الوقت كان يحتضن هذا البيت، كان فنانًا وحساسًا ومرهف المشاعر وهذا كان ينعكس علي كل من يعرفه، فما بالك بأهل بيته وابنته، كان عندما ينتهي من كتابة أغنية أو قصيدة أجده يقول لي «اسمعي يا ريم».. ويقرأ ثم ينتظر رأيي. قلت لها: ما هي فلسفته في الحياة؟ قالت: الجدية في الحياة.. كان لا يضيع الوقت ويرى أن أمامه وقتًا قصيرًا لإنهاء مهمته، هو كان يشعر انه جاء للحياة في مهمة، مهمة من أجل الخير والحب والعدل والسعادة، كان يقول أنا أعيش من أجل العمل.. ويوم أن أتوقف عن العمل فهذا معناه أنني «مت»! وكان متفائلًا بالحياة ويرى ان المستقبل يحمل الأفضل، قلت: هل كانت له طقوس في الكتابة؟ قالت: «الهدوء هو أهم طقس في حياته، يقرأ في مكتبه بهدوء ويكتب في هدوء ويجلس معنا في هدوء وكأن الهدوء هو الأسلوب الذي كان يجعله يكتب وينتج أشعاره، لم يحب جمع الفلوس في حياته.. وكان يحب السفر والترحال ومعارض الفنون وكل ما له علاقة بالإبداع.. وكان ثوريًا بطبعه وكتاباته كانت كلها تدفع الثائر ليثور، والصامت ليتكلم والعاجز ليتحرك.. وقبل بداية الربيع العربي في عام 2011 كتب في عام 2009 قصيدة كانت تبشر بهذا الطوفان عنوانها «قبل الطوفان الجاي» وبعدها بشهور انفجر في الشوارع العربية (تونس، مصر، ليبيا، سوريا، اليمن) طوفان الربيع العربي كما يتنبأ به حيث قال:

- كل اللي لابدين فوقنا ومأبدين

- يا اللي انتو مش منا

- ولا انتو أصحاب فضل ولا منة

- بس انتو حاكمينا وشاكمينا وظالمينا

قلت لها: أيامه الأخيرة ورحلة مرضه.. كيف كانت؟ قالت: كان دائمًا لا يشعرنا بتعبه، فهو بطبعه لا يشكو وكانت لديه قدرة غريبة على تحمل آلام المرض دون أن يشعرنا بمرضه، في الصيف الماضي كان في زيارة إلى فرنسا، وهناك أجرى مجموعة من الفحوصات والتحاليل من باب الاطمئنان ليس أكثر، وبالصدفة وجد الطبيب يقول له: نريد فحوصات أكثر وتحاليل أخرى. وعندما سأل لماذا؟ قال له: الرئة عندك توقفت تمامًا، والأخرى تعمل بنصف طاقتها، ومن هناك بدأ رحلة العلاج.. وجلسات وراء أخرى.. وأدوية وراء أخرى، حدث تحسن بعض الشيء ثم عاد للقاهرة وأكمل العلاج تحت إشراف الطبيب الفرنسي، حيث كنا نرسل له نتائج العلاج، بعد فترة زاد المرض عليه وتم نقله إلى مستشفي المعادي العسكري وظل به ثلاثة أيام وكانت حالته عادية وكان يتحدث معنا حتى اليوم الأخير من حياته، وفي اليوم الموعود انقضيى أجله وهو على الصورة التي عرفته عليها وكأنه يريد أن يقول إنه مثلما جاء للحياة قويًا وواثقًا في قدرته وفي نفسه وفي حلمه فإنه سيموت مثلما جاء بنفس القوة والثقة والقدرة حتي على الحلم وهو يواجه الموت، وفي الساعة الموعودة.. مات ودفن بجوار شقيقه في مقابر مدينة نصر كما أوصى قبل وفاته.

عند الحديث عن أيامه الأخيرة ولحظات الموت بدأت دموع «ريم» تسبق كلامها فتوقفت عن مواصلة الكلام وتوقفت هي أيضًا.. ولملمتُ أوراقي وألقيت نظرة على صورته المعلقة أمامي في الحجرة وشعرت وقتها وكأن صوته يأتيني وأنا أغادر بيته يقول:

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل