المحتوى الرئيسى

عمر ثروت يكتب: صحيح الثورة | ساسة بوست

04/24 20:38

منذ 1 دقيقة، 24 أبريل,2017

على مدى السنوات الأخيرة، كلمة ثورة، عدت من أكثر الكلمات التي سمعناها كلما اقتربنا من الأحوال العامة في مصر خصوصًا، والوطن العربي عمومًا.

من خصائص مصطلحات العلوم الإنسانية، وعلم الاجتماع السياسي، من أهم فروع تلك العلوم، أنها نسبية طبقًا للمرجعية الفكرية – أو بالأحرى الأيديولوجية– التي تمثل المنظور والإطار اللذين يحددان معناها. ومن هذا المنطلق دائمًا ما تحتاج المصطلحات لعملية ضبط، فضبط المصطلح قبيل استخدامه يسهل عملية فهمه واستيعابه من قبل المتلقي.

مثلًا مصطلح حرية عند الماركسي يختلف في معناه تمامًا عند الليبرالي، فالحرية عند الماركسي في مضمونها التحرر من استغلال طبقة – البرجوازية– وفي الملكية العامة للثروة أزهى تجليًا للحرية، أما عند الليبرالي، فتقريبًا العكس، تتجلى الحرية في الملكية الخاصة وحرية التعبير عن الرأي.

ومثال آخر عن مصطلح أمة عند من يعتنق أيديولوجيا الإسلام السياسي تعني مباشرة الأمة الإسلامية، أما بالنسبة للقومي العربي فهي الأمة العربية، والأمة الإسلامية بالنسبة له عالم إسلامي.

وهذا لم يحدث إطلاقًا مع مصطلح «ثورة»، فلقد نُسب تقريبًا لكل الجهات الفاعلة في الشأن العام، الانتهازي والوصولي، الاحتجاجي الغاضب، حتى أنصار الوجود الذي أفرز الأزمة ادعوا الثورية.

وبهذا تداخل المفهوم الجمعي عن الثورة مع مرادفات لا تعبر حقيقة عن مفهوم الثورة، فإسقاط النخبة الحاكمة سمي ثورة، والتظاهرات الاحتجاجية أطلق عليها ثورة، وحمل السلاح ونشر الدمار قيل عنهما ثورة.

ومع تدهور الأحوال العامة، باتت كلمة ثورة مرادفًا للدمار ووقف الحال، وترسب في قاع الوعي الجمعي أنها أذى وشر، فالثورة أصبحت جريمة، والثورية أصبحت تهمة في محكمة الرأي العام.

ولم لا؟ فمعظم من تمسحوا بالثورة والثورية أساءوا التصرف، بل تجنوا على أسمى ما في العمل الإنساني، وهو الثورة.

فالحرب والثورة هما من أرقى وأسمى الأعمال السياسية والاجتماعية، لأنهما أخطر ما في العمل العام، فالمجتمع (والدولة) الذي يقوم بحرب أو يشعل ثورة، يسير على شفا الهاوية، فممكن لهذه الحرب أو تلك الثورة أن ينهيا وجود المجتمع (والدولة) أصلًا، بأن ينقسم المجتمع لأكثر من مجتمع، وتتجزأ الدولة لأكثر من واحدة، ولهذا، على مدار التاريخ، تُكتب أسماء زعماء الثورات الناجحة وقادة الحروب المنتصرة بحروف من نور؛ لأن النجاح في الثورة – بإعادة بناء المجتمع وتجديد حيوته– أو الانتصار في حرب هما مرادف صريح للمجد.

وطالما أن ضبط مصطلح «ثورة» يعد الخطوة الأهم في تناول مسألة الثورة، يكون الأولى تشريح المجتمع/ الدولة حتى يتسنى لنا فهم ديناميك الثورة وآثارها.

أي مجتمع إنساني لا يتحرك عشوائيًّا، بل يتحرك بنظام، مهما بدا حاله فوضويًّا أو فاسدًا، فطالما له قوام ويتحرك في دوائر الحركة اليومية، إذن فهناك نظام، أما الانفجارات الاجتماعية التي يذوب فيها قوام المجتمع، ويتحول لحالة من السيولة سواء في صورة تمرد شعبي أو اقتتال أهلي، يكون النظام في هذه الحالة قد دخل في أزمة، إما أن يستوعبها وإما أن تهدد وجوده.

وأي نظام في الدنيا لا بد أن يرتكز على قوى لها مصلحة في استمرار هذا النظام، هذه القوى من مصلحتها إدارة النظام وصيانة قنواته كي يعمل بكفاءة؛ لأن بقاء هذه القوى مرتبط ببقاء النظام، ومصالحها تعتمد على استمرارية حركته.

والنظام (نظام المجتمع) هنا ليس نظام الحكم (regime) كما هو دارج، بل النظام الاجتماعي السياسي (sociopolitical order)، وهو النظام الاجتماعي (خريطة القوى الاجتماعية، الأبعاد الطبقية، قواعد الحراك الاجتماعي، معايير الوجاهة الاجتماعية، المفاهيم والقيم الاجتماعية) وأثرها وتأثرها في المجال السياسي، بمعنى أنه مثلًا، حين تحاول الطبقة الاجتماعية الأغنى التي تمتلك الثروة أن تسيطر على أدوات الإعلام، ثم توظفها لتمتلك النفوذ السياسي، الذي بدوره يساعدها على تأمين مصالحها، هذا هو تأثير وأثر النظام الاجتماعي في الأحوال العامة (المجال السياسي)، ولذلك من المستحيل فصل الشق السياسي من النظام الاجتماعي؛ لأن حركة قوى المجتمع في المجال السياسي مسألة حتمية، فلا يمكن فصل ما هو اجتماعي عن ما هو سياسي، ولذلك فالنظام الأشمل هو النظام الاجتماعي السياسي.

وفي مصر، النظام الاجتماعي السياسي القائم شهادة ميلاده كانت في مارس ١٩٧٤م، وخطوطه العامة واضحة، فهو نظام نخبوي يرتكز على أغنى ١٠٪‏ من المصريين، هذه النخبة على قمة الهرم الاجتماعي هي التي تزدهر مع حركة النظام، كما أنها تملك نصيب الأسد من الثروة، وتسيطر على مفاتيح النفوذ والهيمنة على المجتمع والدولة، من وسائل الإنتاج الصناعية والزراعية إلى مفاصل التجارة الداخلية والخارجية، ومن مؤسسات إعلامية وتعليمية وصحية، إلى الإنتاج الفني والثقافي، وغيرها من الأدوات.

وكلما تحرك هذا النظام الاجتماعي السياسي ازدهرت معه هذه النخبة الاجتماعية، فبعد أن كان نصيبها من الثروة الثلثين في عام ٢٠٠٠ (٦١٪‏) زاد إلى (٧٣،٣٪‏ في عام ٢٠١٤).

في المقابل، يُفقر ويُجرف هذا النظام الاجتماعي السياسي أغلبية الشعب المصري (٩٠٪‏) التي يتناقص نصيبها من الثروة المصرية من الثلث سنة ٢٠٠٠ إلى الربع في ٢٠١٤، وسيستمر مسلسل التجريف والإفقار لصالح النخبة الأغنى حتى يملكوا أغلبية الشعب دمًا ولحمًا، عبيدًا وسبايا، إلا إذا كان لأغلبية الشعب قول آخر.

إذن في المحصلة، فإن استمرار النظام الاجتماعي السياسي في صالح النخبة الاجتماعية (القوى الاجتماعية الحاكمة) ويعمل ضد مصالح أغلبية المجتمع المحكومة.

إذن هو مجتمع له نظام اجتماعي سياسي ومن هنا تُبنى عليه الدولة، وتتشكل مؤسساتها وأجهزتها، وتتبين ملامح دستورها وقوانينها. والدولة التي تُبنى على هيئة النظام الاجتماعي السياسي، فهي حقًّا دولة القوى الاجتماعية الحاكمة، التي يشملها نفوذ هذه القوى وتتأثر بأدوات هيمنتها.

وفي مصر، ومنذ عام ١٩٧٤ تحولت الدولة إلى دولة النخبة، والنخبة هنا هي الـ ١٠٪‏ الأغنى من شعب مصر، وتركيبها يضم نُخب مختلف المجالات (النخبة العسكرية، النخبة القضائية، النخبة الفنية، النخبة الرياضية، نخبة المال والأعمال، النخبة الدينية… إلخ).

إذن هو مجتمع له نظام اجتماعي سياسي قامت عليه دولة تُحكم بنظام حكم، وهنا يأتي دور نظام الحكم، الذي يكون أداة في يد القوى الاجتماعية الحاكمة لإدارة الدولة وتسيير أمورها، ولا يمكن أن تكون السلطة محايدة حتى لو أراد أفرادها، فهامش حركتها محدد بحدود النظام الاجتماعي السياسي، وموجه من قبل أدوات النفوذ والهيمنة للقوى الاجتماعية الحاكمة، وفي حالة حياد الحكم، أو ميله في اتجاه بعيد عن مصالح القوى الاجتماعية الحاكمة، تستخدم هذه القوى سلطانها في تقويمه أو إسقاطه.

وفي مصر، السلطة منذ عام ١٩٥٢ في يد النخبة العسكرية في معادلة (العسكريين/ المثقفين)، ومع ميلاد النظام الاجتماعي السياسي القائم بعد حرب أكتوبر ٧٣، استمرت السلطة في يد النخبة العسكرية، ولكن في معادلة مختلفة وهي (العسكريون/ رجال المال/ رجال الأمن)، وقد جرى صراع مكتوم على السلطة قبل يناير ٢٠١١ بين النخبة العسكرية ونخبة المال والأعمال على السيطرة على مفاصل صناعة القرار السياسي/ الاقتصادي، وبعد كسب النخبة العسكرية للجولة جرى صراع طاحن بعد يناير ٢٠١١ عند محاولة إحلال جماعة الإخوان نفسها محل النخبة العسكرية، وقد كان صراعًا على السلطة في الأساس، انتهى بتوطيد أركان حكم النخبة العسكرية.

وبعد تشريح المجتمع/ الدولة يتسنى لنا اكتشاف ديناميك الثورة، أي كيف تحدث العملية الثورية.

الثورة من منظورنا هي عملية التغيير الجذري في البنى الطبقية والثقافية للمجتمع، بمعنى التغيير الجذري في المجتمع وأفكاره ومفاهيمه وخريطته الطبقية، وهذا التغيير الجذري سينعكس على الدولة ومؤسساتها كي تعبر عن الواقع الاجتماعي السياسي الجديد.

يعني إسقاط السلطة ليس مرادفًا للثورة، فكم من حكومات وحكام تناوبوا على حكم مصر في السنوات الماضية (منذ يناير ٢٠١١)، كلٌّ منهم ينتمي لمعسكر فكري واجتماعي وسياسي مختلف عن الآخر، فنخبة جمال مبارك مختلفة عن النخبة العسكرية، وجماعة الإخوان مختلفة عن النخبة العسكرية، كلهم مختلفون عن بعضهم البعض في البنى الفكرية والسياسية، لكنهم اشتركوا في عدم تغييرهم للواقع الاجتماعي السياسي، وكأن التغيير يطال قمة الهرم (السلطة) ولا يمس جسم الهرم (المجتمع) من قريبٍ أو بعيد.

وهذا يعني أيضًا أن التظاهر والاحتجاج لا يعنيان الثورة – بل وحتى قد لا يؤديان إليها أصلًا– فالملايين تظاهروا في يناير ٢٠١١ ويونيو ٢٠١٣، ولم يتغير في الواقع الاجتماعي السياسي شيئًا، بل زاد تغول الظلم الاجتماعي وتوحش الاستبداد – بالثروة والسلطة– وتهجم الفساد.

ويبقى السؤال الأهم هو كيف تحدث الثورة؟ أو بمعنى أدق ما هو ديناميك الثورة؟

لُب الثورة هو «الثورة الاجتماعية»، والتي هي التغيير الجذري في البنى الثقافية والطبقية للمجتمع، ومن ثم تبدأ عجلة الثورة الشاملة في الدوران؛ لأن بنية الدولة وهيئة مؤسساتها ستتغيران طبقًا للواقع الجديد.

وبالتالي دون الثورة الاجتماعية يساوي دون الثورة، أو يساوي إصلاحًا على أبعد تقدير؛ لأن الثورة هي الانتقال من معادلة اجتماعية سياسية فقدت حيويتها وتعطلت قدراتها على العبور لمستقبل أفضل إلى معادلة جديدة بها الحيوية والطاقة لبلوغ المستقبل القوي، وهذا ما ليس في طاقة الحكم – أي حكم– أن يغيره منفردًا؛ لأن السلطة مهما كانت لا بد لها من ركائز اجتماعية سياسية تسندها، وقوائم قوى تدعمها، وإذا كانت هذه الركائز خاملة وفاسدة وغير فعالة (نسبة لمستقبل المجتمع ككل)، فمن المستحيل أن يسير المجتمع بخطى ثابتة نحو المستقبل الأفضل.

وهذا ما يفسر لماذا لم يحدث التغيير الاجتماعي السياسي في مصر على الرغم من تعاقب سلطات مختلفة المشارب الفكرية والسياسية؛ لأن التغيير طال كرسي السلطة ولم يقترب من البنى الطبقية والثقافية للمجتمع، بمعنى أن ما جرى كان صراعًا على الحكم ولم يكن صراعًا لثورة اجتماعية، ولهذا لم تحدث الثورة، أو فشلت، أو سُرقت، أو التُهمت التهامًا.

والثورة الاجتماعية تدور حول الصراع الذي يفضي إلى الإحلال، إحلال قوى اجتماعية محل قوى اجتماعية، ومن ثم إحلال نظام اجتماعي سياسي جديد محل نظام اجتماعي سياسي قائم.

وإذا كان النظام الاجتماعي السياسي القائم في مصر يرتكز على نخبة (١٠٪‏) على قمة الهرم الاجتماعي، تزدهر في ظله ويرتبط بقاؤها كطبقة حاكمة باستمراريته، في المقابل يتم تجريف أغلبية الشعب (المحكوم) وإفقاره في ظل نفس هذا النظام.

إذن يحدث التغيير الجذري (الثوري) عند إحلال نظام اجتماعي سياسي جديد تزدهر في ظله أغلبية الشعب، وتعود ثماره بالنفع على تنميتها وبنائها، أما لو كان ما جرى هو عملية تعديل (إصلاح) في توزيع الثمار بحيث يوزع قدر للأغلبية المسحوقة، كي يُحافظ على الاستقرار الكلي للنظام، بدرء مخاطر الانفجار الشعبي، ففي هذه الحالة لا يعد الأمر ثورة اجتماعية لأن بنية النظام كما هي، فالقوى الاجتماعية ما زال موقعها الحاكم كما هو، وما زالت هي المستفيدة من حركة النظام، بل ومحركة له.

ولهذا فالثورة الاجتماعية تتحقق بالتغيير الجذري في بنية النظام الاجتماعي السياسي، أي عبر إحلاله بنظام جديد، وبما أن أي نظام لا بد له أن يرتكز على قوى، كما يرتكز النظام القائم على القوى الاجتماعية التي تمثل النخبة، فالنظام الجديد كي يكون جديدًا لا بد له من الارتكاز على قوى اجتماعية جديدة (بالقطع لا بد لها أن تكون من الـ ٩٠٪‏ من الشعب).

وبهذا يكون جرى الإحلال، نظام اجتماعي سياسي جديد مرتكز على قوى اجتماعية بازغة محل نظام اجتماعي سياسي قائم يرتكز على القوى الاجتماعية المهيمنة.

وكي تقوم الثورة الاجتماعية في مصر حقًّا، لا بد للقوى الاجتماعية البازغة أن تعبر عن جموع الـ ٩٠٪‏ من الشعب، التي تُفقر وتُجرف من قبل النظام الاجتماعي السياسي القائم، ليس شريحة معينة منها فقط، سواء على أساس سياسي أو ديني أو فئوي أو حتى طبقي، وهذا حتى يتم بناء وتنمية أغلبية الشعب، كي تتزايد فرص تفجير طاقات إبداعية وإنتاجية هائلة، تؤهل مصر العربية للنهوض في زمن قياسي.

أما عن الإحلال، فلكي تتضح الصورة أكثر، يجب توضيح أبعاد ميكانيكا الإحلال التي تؤدي لديناميك الثورة.

فقوى النخبة لها السلطان والنفوذ لامتلاكها أدوات الفعل والتأثير، وبهذه الأدوات ترسخ وجودها كطبقة حاكمة، وتجني ثمار حركة النظام فتزدهر.

هذه الأدوات هي التي تؤهلها للتأثير في السلطة وفي المجتمع، بل الدولة بأسرها، وهي الثروة في الأساس – التي تمتلك قوى النخبة (الأغنى ١٠٪‏) نصيب الأسد منها (ثلاثة أرباع الثروة الوطنية)، هذه الثروة تترجم في استحواذ قوى النخبة الاجتماعية على مفاتيح الاقتصاد والسياسة والثقافة، سواء باستحواذها على نصيب الأسد في الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو الخدمات، أو بامتلاكها مؤسسات الإنتاج الفني والثقافي، أو بهيمنتها على الإعلام، ناهينا عن الإسكان والتعليم والصحة والنقل.

ولأن النظام الأشمل هو نظام اجتماعي سياسي، فأثر امتلاك هذه الأدوات في السياسة كبير، وتأثيره خطير، سواء في التأثير على السلطة، أو القدرة على النفاذ إلى المجالس المنتخبة، أو إمكانية إنشاء الأحزاب السياسية.

ومن هنا تظهر أهمية الإحلال، بل مركزيته في العملية الثورية، ويتحقق الإحلال بتفكيك سيطرة قوى النخبة (الأغنى ١٠٪‏) من أدوات النفوذ والتأثير السالف ذكرها، وفك قبضة الطبقة الحاكمة من الإمساك بخيوط الهيمنة على المجتمع والدولة.

ويلي ذلك تمكين قوى الشعب (الـ ٩٠٪‏ الأغلبية) من أدوات الفعل والتأثير، بمعنى أن يحتكم الناس على الثروات، وأن يجنوا ثمار التنمية الاقتصادية، ويزدهروا بها، وتدور دوائر الفن والإعلام حول بناء وعيهم والانشغال بقضاياهم، ويكون المجتمع السياسي منهم، يتحرك لبناء مستقبلهم.

وهذا لن يتحقق إلا بشرطين، الشرط الأول هو أن تكون الدولة هي المالك الفعلي لكافة هذه القطاعات، والأهم أن تكون هي صاحبة نصيب الأسد من الثروة، حتى يزدهر أبناء الشعب بثمار التنمية ويتاح بناء الفرد، فهذه الحالة هي التي ستؤهل الدولة لبناء الإسكان الذي يليق بمواطن درجة أولى، وتوفر لأولاده التعليم ذا الجودة العالية، وتعالجه هو وأهله في مستشفيات على مستوى من الكفاءة، وتوفر له وسائل النقل العامة التي تليق بمواطن حر في دولة تعبر عنه، ويتغذى ثقافيًّا على الفن الراقي، وتُناقش قضاياه في إعلامه، وهكذا دواليك.

الشرط الثاني وهو الأهم، أن تكون السلطة منتخبة من الشعب، وأن يكون مركز الثقل في علاقة الحاكم والمحكوم يقع عند الثاني، كي يكون للمحكوم الحق في إسقاط السلطة الحاكمة إذا انحرفت عن مسار الحكم الرشيد، أو إذا لم تتحل بالكفاءة في إدارة ثروات الشعب.

ولكن هل هذا يتأتى بالتنادي على أبناء الأغلبية كي يستردوا ثرواتهم؟ وطالما أن الدولة هي أداة الشعب في استعادة مقدراته، هل يتم ذلك على يد بيروقراطية دولة النخبة الذين يحتلون مفاصل الجهاز الإداري؟ الإجابة هي لا عن كلا السؤالين، ومرة أخرى نؤكد أن الثورة الاجتماعية ليست بقرار ممن في السلطة، بل هي عملية ديناميكية واسعة.

إذا كنا نتحدث عن أغلبية شعبية مسحوقة من حركة النظام الاجتماعي السياسي القائم، وأن الثورة الاجتماعية يجب أن تمثل انقلابًا في توزيع الثروة وامتلاك أدوات الفعل والتأثير لصالح هذه الأغلبية، يمكن أن نجزم في استحالة حدوث هذا دون قيادة صارمة، وإلا كانت الفوضى العارمة، وقيادة هذه الكتل الجماهيرية الهائلة لن تكون بزعيم فرد، فلا يمكن أن يحكم حركة جماهير واسعة فرد مهما بلغ من مكانة، كما أن عصر الزعيم الفرد ولى، والأهم هو استحالة إحكام حركة الإحلال، فالذي يمكن له أن يقود الجماهير ويعبئ طاقتها ويضبط حركتها هو التنظيم السياسي، هذا هو الكيان القادر على ضبط إيقاع حركة جماهيرية واسعة، والأهم هو إحكام عملية الإحلال.

لأن دولة النخبة تركيبها يعبر عنها، تركيبها نخبوي، وكما وضحنا أن تغيير الواقع الاجتماعي السياسي جذريًّا لا بد أن ينعكس على الدولة ومؤسساتها كي تعبر عن الواقع الجديد.

وهذا يتأتى بتسكين عناصر التنظيم السياسي في الجهاز الإداري للدولة، حتى يتسنى لهم استرداد مقدرات الشعب وإدارتها لصالح عموم الجماهير.

ألا تعد هذه ديكتاتورية مقنعة؟

إجابة هذا السؤال مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتركيب التنظيم السياسي ومنهج تشكيله، وتكوينه الأيديولوجي والفكري، فالتنظيم السياسي في الأساس هو منظومة عمل جماعي، مهما كان اسمه حزبًا أو حركةً أو جبهة، فعند عزم الأغلبية المسحوقة في مصر أن تتحرك باتجاه تغيير الواقع الاجتماعي السياسي جذريًّا، يتقدم منها تلقائيًّا عناصر راغبة في استقطاع نصيب من الجهد والوقت لممارسة العمل السياسي، من الصعب جدًّا أن نجد مجتمعًا تفاعل بأكمله مع العمل العام، غالبًا ما تكون دائرة الفعل (الممارسة السياسية المستمرة) ودائرة الدعم (بالانتخاب أو التظاهر أو المشاركة في الفعاليات) ودائرة العزوف (عدم التفاعل أو المشاركة السياسية)، وتتغير الأحجام النسبية لهذه الدوائر طبقًا للمناخ العام.

فالتنظيم السياسي في حالتنا المرجوة، يجب أن تتكون عناصره من الذين تقدموا من صفوف الجماهير المسحوقة عازمين تغيير الواقع الاجتماعي السياسي، من كل الفئات ومن كل الأعمار. ويعمل هذا التنظيم على بناء كوادره القادرة على القيادة، بناءً فكريًّا وتنظيميًّا، حتى يتسنى لهم التسلح بالكفاءة عند تسلمهم أي مهمة.

وكلمة السر هي أن يكون التنظيم السياسي من الجماهير ويعبر عنها، موصول بها ومرتبط عضويًّا بقضاياها، أن تكون أبوابه مفتوحة لمن يريد أن يشارك في العمل السياسي، وأن يكون نظامه الداخلي ديمقراطي لآخر المدى، وأن تكون منظومة صنع القرار فيه جماعية، هنا يتسنى للتنظيم السياسي قيادة الجماهير، وأن ينال ثقتهم، لكونه تنظيمهم.

وحتى يتغير النظام الاجتماعي السياسي فعلًا، ولا يكون إحلال عصبة محل عصبة أخرى، يجب أن تتغير البنى الطبقية والثقافية للمجتمع، وهذا يأتي عند تمكين قوى اجتماعية بازغة محل قوى اجتماعية قائمة، كل منها لديه طقوسه الاجتماعية ونظرته المختلفة للدولة وللمجتمع.

فعلى سبيل المثال، قوى النخبة الحاكمة هي طبقة متغربة في تركيبها (متأمركة)، في نمطها الاستهلاكي وطقوسها الاجتماعية ولسانها، ومن هنا تُفسر دورانها في فلك الغرب وتعايشها مع إسرائيل، ولذلك لم نجدها عبأت أدواتها للتخلص من التبعية للغرب، أو للانخراط في الصراع العربي الصهيوني، فهي متغربة في أسلوب حياتها، علمانية في نظرتها، تابعة للغرب في سياساتها.

ولذلك نرى أن الحلم الأمريكي تم استيراده إلى مصر، بنمط حياة يحاكي الحياة الأمريكية، السيارة الخاصة والفيلا الفارهة، والتكنولوجيا الترفيهية، والأزياء الفاخرة، والاستهلاك الباذخ، والطقوس الاجتماعية، واللسان، والفردية، والقيم المتغربة، هذه هي مقومات الانضمام للنخبة، هذه هي الوجاهة الاجتماعية في ظل النظام الاجتماعي السياسي القائم.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل