المحتوى الرئيسى

د. محمد جمال يكتب: الأسماء كلها | ساسة بوست

04/24 16:41

منذ 5 دقائق، 24 أبريل,2017

وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)

• لا أحد يعلم على وجه اليقين ماهية الأسماء التي علمها الله لسيدنا لآدم، ولكن ربما من المنطقي أن تتعلق تلك الأسماء بالأشياء أو الشخصيات التي تنتمي إلى عالمه الأرضي، وربما أيضًا بالأفكار والقيم والمفاهيم والمعاني التي سيمتلئ بها عقله الواعي.

• هل كانت الأسماء كلها للأشياء وللمخلوقات التي سيقابلها آدم على الأرض؟ أم كانت أسماء تخص ذريته الذين سيأتون من بعده؟ وإذا كانت أخص الصفات المميزة للإنسان هي إحساسه بالمعنويات والإيمان بها، فهل كانت الأسماء هي للقيم المطلقة كالحق والخير والجمال؟ أم كانت رموزًا مجردة لمعان وأفكار ومفاهيم كالعدل والظلم والحرية والحب والخوف؟

• ولا أحد يعلم أيضًا الكيفية التي تم بها عرض تلك المسميات على الملائكة قبل أن يدعوها آدم بأسمائها، ربما وفي مشهد مهيب اصطفت الدواب والوحوش وحطت الطيور على رؤوس الأشجار، ربما تتابعت صور للصحاري والجبال والأمطار والأنهار، ربما وُلِد الظلام ليظهر القمر والنجوم والبرق فيما قال آدم إنها سماء.

• خارج المكان، هناك في الملأ الأعلى، وخارج الزمان، وحيث لا يوجد ما يحجب المستقبل، هل أصحاب الأسماء الذين «عرضهم» الله هم أناس من ذرية آدم سيكون لهم الشأن العظيم في توجيه تاريخ البشرية؟ هل كان من بين «هؤلاء» أعلام الهداية كنوح وآل إبراهيم وآل عمران؟ وهل كان من بين «هؤلاء» المفسدون في الأرض وسفاكو الدماء كفرعون وأمثاله؟

• ليس مقدرًا لنا أن نحصل على كل الإجابات، لكن الأكيد هو أنه قبل أن يتسلم آدم مقاليد الخلافة أودع الله فيه مقدرة خاصة به وبذريته، وهي القدرة على التعلم وإطلاق الأسماء وإدراك ما وراء الأسماء من المعاني، كانت الإجابة الصحيحة المبنية على الإدراك صورة رمزية هي أول عمل للعقل الإنساني، تسلم آدم بعد ذلك مقاليد الخلافة، وتوارث أبناؤه الذين سيطروا فيما بعد على الأرض- تلك القدرة المغروسة في تركيبة عقول وأرواح كل البشر- بينما كان للملائكة طبيعة مختلفة ووظائف أخرى.

• كل ما نراه، كل ما نسمعه، كل ما نشعر به، كل ما يوحي بالميل أو الألم أو الخوف، كان لا بد من انتشاله من بحر الفوضى اللامبالية وإعطائه حضورًا محددًا بداخل العقل البشري، وهذه أول درجة من درجات المعرفة، مجرد معرفة أولية تحتاج للتجربة، نحتاج بعد ذلك لتنظيم المعرفة التجريبية تبعًا لقواعد الفكر لتنمو بصورة مركبة لتصبح علمًا.

• التسمية هي أولى خطوات المعرفة الإنسانية: التعميم يقتضي ملاحظة الملامح العامة التي تجمع بين آلاف الأشياء ومن ثم منحها اسمًا مشتركًا، والتخصيص يتطلب الغوص عميقًا لاكتشاف الفروق الدقيقة ومنح أسماء مميزة لأجزاء بدت من الوهلة الأولى شيئًا واحدًا، مقياس المعرفة الدقيق هو القدرة على منح الأسماء، سواء للتعميم أو للتخصيص، القدرة على التسمية وإضافة مصطلحات جديدة مؤشر دقيق على المستوى الثقافي والحضاري والأخلاقي للشعوب.

• الاسم هو صورة ذهنية للمسمى في عقول الناس، الاسم هو نقطة التقاء، واللغة هي منهج واع للتواصل مستند إلى فهم ومرجعية مشتركة للحياة ولمعاني الأسماء، المجتمعات التي لم تتفق حول تسمية مفاهيم كالشرعية والثورة والعدل والكرامة والحرية لن تتقدم، وستظل تدور حول نفسها في دوامات مستمرة من خلافات لا تنتهي.

• علم الله آدم الأسماء كلها، ولكن من الذي يعلمنا؟ وممن نستمد المفاهيم والقيم؟ أدركت الملائكة أن إطلاق أي اسم أو وصف يجب أن يسبقه علم مسبق، فاعترفت بعدم علمها وامتنعت عن التسمية تأدبًا، فمن أين جئنا بجرأة تسمية ما لا ليس لنا به علم؟ ولِمَ أصبح إطلاق الأسماء الطريق السهل للراحة من عناء التفكير ووخز الضمير؟

لا تذهب الليالي والأيام حتى تشرب فيها طائفة من

أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها.

• ما أخطرَ الأسماء عندما يتم التلاعب بها!

• عندما تتعارض النصوص مع المصالح فالتأويل هو الحل، وعند الهروب من المسئولية القانونية والأخلاقية للجرائم والهزائم فلا مفر من التلاعب بالأسماء وتغيير المعاني: الرشوة مجرد هدية، الزنا تجارب عاطفية، التدين تزمت، التفلت تقدم، الهزيمة ليست هزيمة ولكنها نكسة، والاعتداء الصارخ ليس إلا مجرد تهديد لعملية السلام.

• خلافًا للواقع قد تفرض الأسماء كذبًا على الضعيف، وبالقوة سترتدي الأسماء ثوب الواقع، الاحتلال هو استعمار، فلسطين ستصبح إسرائيل، المقاومة إرهاب، الثورة مؤامرة، والانقلاب ثورة شعبية.

• للأسماء القدرة على تكوين عوالم وهمية، وللفاشية قاموس في منتهى البلاغة، بها يرتدي القوي ما شاء من أسماء البطولة، وبها يُفرض الاسم على الضعيف من أجل سلبه كل الحقوق ثم ذبحه باسم القانون، وكم من الضحايا لا ذنب لهم إلا أسماء أُلقيت عليهم وأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.

• لأن الطريق إلى الحقيقة أصبح مغلقًا بفعل التباس المسميات، الآن، تقصي الحقيقة يستدعي التخلي عن الكثير من الأسماء التي قد تبدو للأسف بديهية.

• النظرة السطحية مريحة جدًّا للعقل وللضمير، ولأنه من المربك التفتيش في أعماق الأسماء، فإننا نمر مرور الكرام، دون أي انفعال، بالاعتياد والتكرار والتسطيح فقدت كثير من الأسماء كالتعذيب والقتل معناها، بفقدان المعاني لم نعد قادرين على تخيل معاناة الآخرين وعذابهم، بفقدان المعاني عجزنا عن فهم الأسماء، بفقدان المعاني لم نعد من ذرية آدم الإنسان.

• ما لا يطلق عليه اسم لا يمكن التعامل معه، والمشاعر المكبوتة تتقيح كالجروح، إذا انتبهنا إليها وجلبناها إلى نور الإدراك، إذا أطلقنا عليها اسمًا، فهناك أمل أن نتجاوزها وتنتهي، وما نعيشه الآن، إلى أن نسميه، فسيبقى غامضًا مبهمًا، مجرد واقع مقلق ومحير ومقدمة لمستقبل مخيف، أن نستشعر فداحة ما يحدث، أن نتألم للبشاعة، يجب أولًا أن نجد لما يحدث اسمًا.

• ألفريد دوبلن الأديب الألماني خاطب شعبه المهزوم عام 1945 قائلًا:

عليكم أن تقبعوا بين الأنقاض لوقت طويل وتدعوها تؤثر فيكم، وعليكم أن تحسوا بالألم والمصيبة.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل