المحتوى الرئيسى

«كما سمعنا كذلك رأينا» | المصري اليوم

04/23 02:26

تحدثنا فى مقالة سابقة بعنوان «قلاقل.. غلاء!!» عن «البابا يعقوب» البطريرك الخمسين فى بطاركة «الإسكندرية» (٨١٩- ٨٣٠م)، الذى عاصر زمانًا صعبًا من حُروب وقلاقل مرت بـ«مِصر» وشعبها، وبصفة خاصة تلك الحقبة التى اشتدت فيها الحرب بين الأندلسيِّين والمِصريِّين فى «الإسكندرية»، وكان عند بداية جُلوسه على السُّدة المَرقسية أنه كتب مقالة ضد الهراطقة يحرمهم فيها، وكان دائم الاهتمام بتعليم شعبه وتثبيتهم على التعاليم الأرثوذكسية السليمة التى تسلمتها الكنيسة الأولى من السيد المسيح والآباء الرسل وآباء الكنيسة الأولين وأقرتها مجامع الكنيسة الثلاثة. وكانت تربِطه بـ«كنيسة أنطاكية» رُبُط المحبة والمودة.

وفى تلك الحقبة أيضًا احتكر «الجَرَوى» القمح حتى صار غلاء عظيم وارتفع سعره ارتفاعًا شديدًا فى «مِصر» و«الإسكندرية» وهو ما سبّب هلاك أناس كثيرين من الشعب. وكان بعد أن قُتل «الجَرَوى» فى الحرب أن تولى ابنه «على» منصب أبيه، لكنه لم يسلك مثله فمنع الظلم عن الناس واستراح كثيرون، فعم رخاء عظيم على البلاد وهدأت قليلاً أيام الضيقة.

كان «البابا يعقوب» دائم الاهتمام بشعبه ومنه أبناؤه الرهبان، فبعد عودة الحياة الرهبانية كسابق عهدها فى «برّية شِيهِيت» (وادى النطرون)، بعد ما تعرضت له من خراب فى أيام «البابا مَرقس الثانى»، اهتم ببناء الصوامع (مساكن الرهبان) والكنائس هناك. وبعد حين، رأى الأب البطريرك أن كنيسة «القديس أنبا شنودة» الذى قام ببنائها سابقًا لا تتسع لعدد الرهبان المتزايد فشرع فى بناء كنيسة باسم «القديس مكاريوس».

أيضًا تعددت زيارات «البابا يعقوب» لشعبه فى الصَّعيد، مفتقدًا أبناءه، ومثبتهم على التعاليم القويمة. وقد وهب الله البابا البطريرك مواهب جزيلة بسبب صلاحه وبره، حتى إنه أجرى على يديه كثيرًا من معجزات الشفاء فى أيامه شهِد عنها كثيرون فى زمانه، ومنها ما حدث مع «مقار النبراوى» الأَرخُن الذى كان إنسانًا خيّرًا لا يرد سائل يَطرُق بابه ويقدم عطايا كثيرة للمحتاجين: فقد حدث أنه رغِب فى رؤية البابا البطريرك فدعاه إلى منزله ليباركه فلبى «البابا يعقوب» دعوته وحضر إليه، فسُرّ «مقار» سُرورًا عظيمًا وأقام وليمة كبيرة وقدم صدقات كثيرة، وبينما الجميع يشملهم السرور، مرِض ابن «مقار» ومات! فاضطرب الجميع إلا «البابا يعقوب» إذ طلب من الأَرخُن «مقار» أن يُحضر الصبى إليه، ثم صلى من أجله حتى عادت إليه الحياة ورده إلى أبيه!! فما كان من الأب إلا أنه أكثر من عمل الخير وتقديم الصدقات للمحتاجين، وبنى فى مدينة «أورشليم» (القدس) كنيسة للأرثوذكس وهى تُعرف باسم «المجدلانية».

فاحت سيرة ذلك الأب البطريرك العطرة إلى البلاد الأخرى، حتى إن بطريرك أنطاكية «دِيونِيسيوس»- الملقب بحكيم القرن التاسع- رغِب فى لقائه ورؤيته ولم يمنعه سوى الحروب التى شهدتها «مِصر» قرابة أربعة عشَر عامًا، لكنه أخيرًا تمكن من الحضور فى أيام «عبدالله بن طاهر» (٢١١- ٢١٢هـ) (٨٢٦- ٨٢٧م) حاكم «مِصر»، ليشكو إليه تصرفات أخيه الظالمة فى «أديسا»- التى تُعرف أيضًا باسم مدينة «الرها» التى تقع ما بين النهرين فى الجزء الشَّمالى من «نهر الفرات»- فأرسل «عبدالله» خطابًا يحذر فيه أخاه من التعدى على الكنائس، طالبًا منه أن يعامل المَسيحيِّين معاملة حسنة عادلة، وفى هذا تذكر المؤرخة «إيريس حبيب المِصرى» فتقول: «... إذ قد سلّمه (ابن طاهر) خطابًا إلى أخيه ينصحه فيه بعدم التعرض للكنائس، ويحُثه على حسن معاملة المَسيحيِّين فى جميع أنحاء البلاد الأنطاكيّة، ثم بيّن له كيف أنه هو قد أطلق للقِبط الحرية فى بناء كنائسهم والتصرف فى شُؤونهم الإدارية والقانونية حسبما يتفق ومبادئهم الدينية». وقد عُرف عن «عبدالله بن طاهر» عدله، وفى هذا يذكر المؤرخ «ساويرس بن المقفع» عنه: «وكان: رجلاً خيّرًا، رحومًا فى دينه، محبًا للعدل، مبغضًا للظلم، ومن أجل ذلك أخضع الله له كل عاصٍ، وأذل أمة الأندلسيِّين التى بـ(الإسكندرية)، وأقام بـ(مِصر) أيامًا حتى استقامت له الأمور»، وبذلك استتب السلام والخير وروح العدل من «عبدالله بن طاهر» إلى وُلاة آخرين، فعم السلام البلاد إلى حين.

وقد زار البطريرك الأنطاكى «مِصر» مرتين: الأولى حين التقى حاكم مِصر «عبدالله بن طاهر»، والثانية حين زار «البابا يعقوب»، وفى أثناء وُجوده فى «مِصر» استقبله الأقباط وعلى رأسهم «البابا يعقوب» فى مكان سكناه- وقد قيل إنه نزل بمدينة «صان» (الشرقية)- استقبالاً حافلاً. وعاد البطريرك الأنطاكى بعد زيارته وهو يتحدث عن «البابا يعقوب» وأقباط مِصر: «وجدتُ بطريركهم وأساقفتهم: أتقياء، ورِعين، متواضعين، يحبون الله ويخافونه من كل قلوبهم، وقد أكرموا مثوانا وأظهروا لنا كل بشاشة ولطف مدة وجودنا فى (مِصر) مما نشكرهم عليه شكرًا مستفيضًا»، كما تحدث أيضًا عن قداسة «البابا يعقوب» وهيبته وعفافه حتى قال عنه: «كما سمِعنا كذلك رأينا. أنا أومن أنى شاهدت إنسانًا له عند الله منزلة أن يشفع فى كورة (مِصر)».

كان من عادة «البابا يعقوب» أنه إذا أراد أن يقِيم أساقفة فى الكنيسة أنه يصلى طوال الليل ويصوم طويلاً منقطعًا عن الطعام والشراب حتى يُظهر له الله أعمالهم واستحقاقهم، وفى زمن توليه رئاسة الكنيسة تنيح أحد أساقفة الصَّعيد، فأرسل إليه أهل المدينة إنسانًا ليقِيمه أسقفًا، إلا أن ذلك الرجل خاف من البابا البطريرك ألا يقِيمه أسقفًا فطلب وساطة جابى الضرائب!! وكان يُدعى «إيليا بن يزيد»، فقدم له مالاً ليأمر البطريرك برسامته!!! فرفض البابا البطريرك مخالفة القوانين الكنسية. ولكن الأساقفة تدخلوا لدى البابا لسيامته خوفًا من حدوث ضيق وشدة على الكنيسة، فما كان من أمر ذلك الإنسان إلا أن مات قبل أن يصل إلى كرسيه فى إيبارشيته. كما كان البابا يهتم بتَذكارات الآباء الذين سبقوه مبتدئًا من «مار مَرقس الرسول» حتى «البابا مَرقس» أبيه الروحى.

وعند اقتراب انتقال «البابا يعقوب» من هذا العالم، مرِض قليلاً وضعفت قوته، وفى أمشير عام 546 ش/ فبراير 830م تنيح البابا البطريرك تاركًا أتعاب هذا العالم، بعد أن اعتلى الكرسى المَرقسى عشْر سنين وثمانية أشهر، وقد خلفه على كرسى «مار مرقس الرسول»، «البابا سيمون».

هو الحادى والخمسون فى بطاركة «الإسكندرية». كان راهبًا شماسًا وتلميذًا «للبابا يعقوب»، مقيمًا بقلاية البطريرك. وقد تربى منذ صباه مع «البابا مَرقس الثانى» واستمر مع خليفته «البابا يعقوب». وكان مشهودًا له بمحبته للجميع، وغيرته على الإيمان السليم. فما إن انتقل «البابا يعقوب» بمدة قليلة حتى اختير عوضًا عنه ورسمه الآباء الأساقفة بطريركًا. لكنه لم يمكث طويلاً إذ تنيح بعد عدة أشهر، وذكر بعض المؤرخين أنها سبعة أشهر، فى حين قال آخرون إنها خمسة أشهر ونصف الشهر تقريبًا. وكان يعانى مرض «النقرس» متألمًا منه بشدة حتى انتقل من هذا العالم. وقد أجمع المؤرخون على أن زمن رئاسته كان هدوءًا وسلامًا. ولكن لم تكن نياحته إلا بداية حقبة من الاضطرابات والقلاقل فى الكنيسة استمرت عامين، حتى خلفه «البابا يوساب» على «كرسى الإسكندرية» ليصبح البطريرك الثانى والخمسين فى بطاركتها. و... وعن «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى...!

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل