المحتوى الرئيسى

الحنبلية: تراث حيوي لا يمكن اختزاله في "التطرّف"

04/22 17:17

أثار انعقاد مؤتمر غروزني في أغسطس من العام الماضي، بقصد تعريف من هم "أهم أهل السنّة" موجة واسعة من الاستياء على امتداد العالم الإسلامي.

من جهة، لأنه انعقد في العاصمة الشيشانية التي دمّرها الجيش الروسي قبل سنوات ليست بالبعيدة ثم أعاد بناءها، مقدّماً تجربة "غروزني"، في التدمير وإعادة البناء، كوصفة تطبيقية حيال الوضع في سوريا.

ومن جهة ثانية، لأن هذا المؤتمر الذي تميّز بحضور لشيخ الأزهر وأكثر من مئتي عالم من علماء المسلمين يخدم عملياً إقصاء المملكة العربية السعودية وعلماء الدين فيها عن تحديد "من هم أهل السنّة"، لا بل يجنح إلى إقصائهم من التعريف الذي أقرّه المؤتمر لهذا الإصطلاح.

فعلى الرغم من أن المؤتمر حافظ على تعداد المذاهب الفقهية الأربعة لأهل السنة، أي الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة في الفقه، إلا أنّه حصر العقيدة الدينية للسنة بالأشاعرة (نسبة للإمام أبي الحسن الأشعري) والماتريدية (نسبة إلى أبو منصور الماتريدي)، مقصياً بالتالي التيارات السلفية، وخصوصاً الوهابية.

من وراء هذا الإقصاء للوهابيين والسلفيين عموماً، كان المؤتمر الذي رعته روسيا، لتحديد من هم أهل السنّة، يغفل تاريخاً كاملاً من التراث الديني السنّي الذي لا ينسجم في العقائد مع الأشاعرة والماتريديين، ويتعامل بالتالي بشكل استبعادي أو تهميشي مع من عرفوا في التاريخ الإسلامي باسم "الحنابلة".

فالحنابلة ليسوا جماعة تنتمي إلى مذهب واحد في الفقه فقط، أي إلى مذهب ينظم أحوال العبادات أي الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والعمرة، وأحوال المعاملات أي البيع والإجارة والرهن والربا والوقف، والزواج والطلاق والمواريث والكفارات والأكل والشرب، بل هم أيضاً جماعة لها نسقها الاعتقادي، وهي تراه على أنّه النسق الاعتقادي الأقرب إلى إسلام السلف الصالح، والأبعد عن تسلّل البدع إليه، أو عن المغامرة في التطرّق لأمور حول الله وصفاته، والخلق والدنيا والآخرة، بعيداً عن القرآن والسنّة.

الحنابلة كتقليد اعتقادي وفقهي في آن واحد، قام أساساً على انتقاد الأشاعرة والماتريدية، واعتبارهم قد غاصوا في موضوعات ليس للمسلم الصالح أن يغوض بها، ولم يشفع لأبي حسن الأشعري ومن انتسب له في علم الكلام أو علم العقيدة (المقابل الإسلامي للاهوت عند المسيحيين) أنه عدّ نفسه من تلامذة الإمام أحمد ابن حنبل وعلى نهجه.

يشترك الحنابلة مع الأشاعرة في رفض مقولات المعتزلة في أنّ القرآن مخلوق، أي أنه كان غير موجود في الأزل ثم أوجده الله، لكنهم يرفضون تماماً ما يعتبرونه تحايل الأشاعرة، ذلك أن الأخيرين يعتبرون أن القرآن أزلي، غير مخلوق من حيث المعاني، لكنه مخلوق من حيث اللفظ، وهذا ما اعتبره بعض المجادلين الحنابلة أشنع من موقف المعتزلة، فهؤلاء على الأقل لا يقسمون القرآن إلى جوهرين مختلفين، واحد غير مخلوق والثاني مخلوق، في حين يقسمه الأشاعرة كذلك، الأمر الذي يدمر، باعتقاد هؤلاء المجادلين، تشكيك الأشاعرة عن قصد أو عن عبط، بكون القرآن الذي هو في المصاحف هو نفسه القرآن.

شارك غردعند الحديث عن أهل السنة، لا يمكن استبعاد أو تهميش من عرفوا في التاريخ الإسلامي باسم "الحنابلة"...

شارك غردمكانة الإمام أحمد ابن حنبل في التاريخ الديني الإسلامي تتجاوز حدود المدرسة التي انتسبت له بالإسم

ما لم يستوعبه مؤتمر غروزني أن "المذهب الحنبلي وحده الذي امتلك امتياز أن يكون في آن واحد مذهباً فقهياً وعقيدة للأمة" كما يقول جورج مقدسي أحد أهم الذين اشتغلوا من بعد استاذه الفرنسي هنري لاوست على التراث الحنبلي على الصعيد الأكاديمي.

كتاب مقدسي الصغير "الإسلام الحنبلي" الذي نشرت مؤخراً ترجمته إلى العربية مهم للغاية لتصحيح النظرة إلى المدرسة الحنبلية.

فهذه المدرسة لم تحظ في البدء باهتمام المستشرقين ثم المختصين بالإسلاميات في العصر الحديث، أولاً لأن الحنابلة هم أقل عدداً من الحنفيين والشافعيين والمالكيين على الصعيد الديموغرافي، وثانياً لأنه طغت نظرة معيّنة تميل إلى اعتبار الحنابلة جماعة متشدّدة على هامش النشاط العقلي في تاريخ الإسلام، في افتئات على مكتبة إسلامية كاملة في مختلف أنواع الفكر والمعرفة راكمها أعلام الحنابلة على امتداد القرون، والتي لا يمكن اختزالها بأية حال إلى هذا الجزء من الحنبلية التي شكلته الوهابية منذ القرن الثامن عشر.

مع ذلك، فلولا الوهابية والسلفية الحديثة، لما أعيد الاهتمام بالتراث الحنبلي. هذا ما يلاحظه مقدسي: "لولا الاهتمام الذي حملته الحركة السلفية في مصر للحنابلة، ولولا وهابية العربية السعودية، لهبطت الحنبلية ولفترة طويلة جداً من الزمن، إن لم يكن إلى الأبد، في وعي وفكر علماء ودارسي الإسلاميات، إلى مستوى المذاهب الموصوفة بأنها لا تستحق الذكر".

بيد أنّ مكانة الإمام أحمد ابن حنبل في التاريخ الديني الإسلامي تتجاوز حدود المدرسة التي انتسبت له بالإسم.

في ورعه وزهده، كما في إصراره بوجه سلطة الخلافة العباسية في أيام المأمون والمعتصم والواثق على أنّ القرآن هو كلام الله غير المخلوق، الأمر الذي عرّضه للاستجواب والسجن والضرب بالسياط لإجباره على تبديل قناعاته، نجح ابن حنبل، بالأخبار التي جرى تناقلها، ثم المبالغة بها، حول صموده أمام هذه المحنة، في أن يتحوّل إلى رمز محاط بهالة من البطولية والقداسة.

في نفس الوقت، لم يكن ابن حنبل محرّضاً على السلطة القائمة، ليس لأنه يقرّ بشرعيتها الدينية، بل على العكس، فهو ينفر من السلطة، أي سلطة، ولكنه يعتبر وجودها أفضل من الضرر الذي يتسببه انهيارها بالنسبة إلى المجتمع.

أوجب ابن حنبل طاعة السلطان، إلا في معصية الله. وفقاً لتعابير مايكل كوك في كتابه المرجع عن "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" كان الإمام أحمد "مستعداً لكي يعطي لقيصر ما لقيصر"، وطاعة السلطان، أي الخليفة العباسي في زمانه، كان يمارسها "بلا حماسة وبلا ود"، لأنه بقي محترساً من السلطة بشكل عام، ويعتبر أن وظيفة رجال الدين هي وظيفة وسيطة ومتعقلة ما بين أهواء الطبقة الحاكمة، وبين انفعالات العوامة.

فليس رجال الدين، من هذا المنظار، لا متنطحين لأن يحلوا بدل الطبقة الحاكمة، ولا أن يتقربوا منها ويتوددوا إليها في نفس الوقت، ولا أن يقودوا العوام في حركات تمردية.

بالعكس، عندما اعتقل ابن حنبل و"امتحن" وضرب، تشدّد حيال أنصاره، وطلب منهم الاستمرار في طاعة الحاكم من الناحية المدنية، لأن عدم طاعته محصورة فقط في رفض مجاراته في معتقد يريد فرضه على الناس، ويعتبره رجال الدين منافياً لما جاء في القرآن والسنّة.

ومع أنّ الحنابلة أقل عدداً من متبعي المذاهب الفقهية السنية الأخرى، إلا أن شعبية ابن حنبل واسعة عند كل أهل السنّة، كما أن شعبية ابن حنبل في بغداد نفسها أيام العباسيين كانت أعظم من شعبية الخلفاء.

الحشود التي تجمهرت وحاصرت السجن الذي اعتقل فيه كانت كبيرة جداً، وهذه الجماهيرية دفعت الخليفة المتوكل لاحقاً إلى الانقلاب على سابقيه، ورفض عقائد المعتزلة، وجرهم هم إلى المحنة، واعادة الاعتبار لابن حنبل، الذي بقي مع ذلك محترساً من التقرب إلى البلاط، ومتشدداً حيال تقرّب أي من اتباعه إليه.

أما الحدث الجماهيري الأبرز فكانت جنازة ابن حنبل نفسه، وجاءت تصديقاً لقوله "قولوا لأهل البدع بيننا وبينكم الجنازة". حتى جورج طرابيشي، القاسي جداً على الإمام أحمد في كتابه "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" يقرّ بأنها كانت "حدثاً خارقاً للمألوف في تاريخ بغداد".

نسبت لابن حنبل كرامات كثيرة، وبخلاف نظرة شائعة تقيم تضاداً بين الحنبلية والتصوّف، كان التداخل واسعاً ولافتاً بينهما، خصوصاً عند الصوفي الكبير والحنبلي في نفس الوقت عبد القادر الجيلاني الذي تنتسب إليه الطريقة القادرية، بل إن كتاب ابن حنبل في "الزهد" دخل المكتبة الصوفية كمصدر تأسيسي لها، ويعدّه نيمرود هورويتز في كتابه "أحمد بن حنبل وتشكل المذهب الحنبلي" من "أولى الكتابات الإسلامية المكرسة لحياة النماذج العليا للتقوى والورع"، معرّفاً الورع بأنه "الزهد المعتدل".

في هذا الكتاب تقصى الإمام احمد أخبار سلسلة من الأتقياء الزهاد منذ آدم، وأسماهم "الأبدال" من دون أن يحمّل هذه التسمية قدرات عجائبية، تغير مسار التاريخ أو تخرق عوائد الطبيعة، بل أعطاها مضامين أخلاقية في المقام الأول. حتى الحنابلة الذين يوصفون عموماً بالتشدّد، مثل ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، كانوا صوفيين في نفس الوقت.

إلا أن ابن حنبل رفض فكرة أن للإنسان قدرة على الوصول إلى المعارف الربانية مباشرة بالرياضات والمجاهدات، وأعطى أهمية للنص، وخصوصاً للأحاديث النبوية، فكان من الذين جمعوا أكبر مجموعة من الأحاديث في "المسند"، الذي يعتقد اليوم أنّه عمل استكمله ابنه وظلّ يتوسع لأجيال بعد وفاة ابن حنبل.

مثلت بغداد العباسية مركز الحنبلية لقرون، وعرفت المدينة منذ القرن الحادي عشر تاريخاً من التصادمات بين الحنابلة والشافعية، وصدامات أكثر دموية بين الحنابلة والشيعة.

بعد سقوط الخلافة العباسية باجتياح المغول، صارت دمشق مركز الفكر الحنبلي، لكن الجماعة عاشت فيها كأقلية وليس كقطب تعبوي للجماهير كما في بغداد. لم يعرف عن نور الدين زنكي الود تجاه الحنابلة، وكذلك صلاح الدين الأيوبي.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل