المحتوى الرئيسى

وفى السفر سبع فوائد

04/21 22:01

ها قد شارفت رحلتى إلى الشارقة نهايتها، واختتمت اليوم فعاليات أيام الشارقة التراثية التى استمرت لمدة ثلاثة أسابيع تقريبا، سعدتُ وشرفتُ بالمشاركة فيها؛ مُحاضِرا ومُناقشا، مُشاهدا وسائحا، كاتبا وصحفيا، وأتيحت لى فرصة عظيمة للتعرف على تجربة حضارية وثقافية «عربية» أقل ما توصف به أنها «مشرفة» و«عظيمة».

كتبت عن بعض ما شاهدت وعشته فى الشارقة الأسبوعين الماضيين، ولن أعيد ما ذكرته هنا، لكنى أحاول تقطير خبرات ومشاهدات عظيمة فى هذه الأسطر القليلة. تشرفت بإلقاء محاضرة بعنوان «حكايات مكتبة الإسكندرية القديمة» على واحدة من أجمل السفن التراثية فى الشارقة (ترسو شامخة هادئة) أمام الساحة التراثية فى قلب الشارقة القديمة. كانت محاضرتى هى الأولى ضمن محور «المكتبات التاريخية فى العالم العربى»، وأعقبها محاضرتان أُخريان؛ واحدة ألقاها الناقد والأكاديمى العراقى د.صالح هويدى عن «دار الحكمة فى بغداد العراق»، والأخرى عن «مكتبة القرويين فى فاس بالمغرب» والتى ألقاها الباحث والكاتب المغربى الطاهر الطويل.

شكلت هذه المحاضرات الثلاث مادة معتبرة ضمن مواد وفعاليات أيام الشارقة التراثية، ووفق ما تم اقتراحه من الحضور والمناقشين ــ خلال الفعاليات ــ سيتم جمع هذه المحاضرات بين دفتى كتاب واحد يصدر عن معهد الشارقة للتراث بعنوان «محاضرات الموروث ــ المكتبات التاريخية فى العالم العربى»، بالإضافة إلى المناقشات والطروحات التى أثيرت خلال هذه المحاضرات.

وسعدت أيضا بحضور حفل إعلان الفائزين بجائزة «الشارقة الدولية للتراث الثقافى» فى نسختها الأولى، حيث تسلم تسعة فائزين من خمس دول عربية وأجنبية «جائزة الشارقة الدولية للتراث الثقافى» والتى يقدمها معهد الشارقة للتراث. الجائزة استحدثت العام الماضى بتوجيه من حاكم الشارقة بهدف تكريم الجهود الناجحة ودعم المبادرات الملهمة محليا وإقليميا ودوليا فى مجال حماية عناصر التراث الثقافى.

شرف الحفل الشيخ الدكتور سلطان القاسمى، حاكم الشارقة، وكرم بنفسه الفائزين وسط صفوة من المثقفين والكتاب والمعنيين بالتراث الثقافى عربا وأجانب. وكان من ضمن الفائزين والمكرمين أربعة مصريين؛ بجوار نظرائهم الرائعين من الإمارات والمغرب ودول أخرى؛ نماذج رائعة ومشرفة: عم صابر فنان الأراجوز الكبير، والباحث الدكتور سيد فارس، والباحث المرموق والإنسان الذى يسع قلبه العالم كله الدكتور محمد حسن عبدالحافظ عضو لجنة التحكيم والمدير الأكاديمى لمعهد الشارقة للتراث، والدكتور مصطفى جاد أستاذ الفولكلور والثقافة الشعبية المعروف بأكاديمية الفنون. كان شيئا رائعا ومفرحا وباعثا للأمل والفخر فى ختام فعاليات أيام الشارقة التراثية البهيجة.

أخيرا.. يقول نجيب محفوظ فى روايته الجميلة «رحلة ابن فطومة»: «ومهما نبا بى المكان فسوف يظل يقطر ألفة، ويُسدى ذكريات لا تُنسى، ويحفر أثره فى شغاف القلب»، وكأنه يصف حالى وأنا أغادر الشارقة، بعد تلك الأيام، وبعد خبرة عظيمة وتجربة رائعة جعلتنى أثق وأتأكد أن من قالوا «فى السفر سبع فوائد» لم يغادروا الحقيقة ولم يجافوها. وأما فوائد السفر السبع التى حصلتها فى هذه الرحلة، فتختلف قليلا أو كثيرا عما تواضع عليه المسافرون وسجله المغادرون:

منها أن الرغبة الأبدية فى الرحلة والارتحال لا تنضج إلا على نار الألم الهادئة؛ فراق الأحبة، البعد عن الديار، والرغبة فى الفرار الدائم من حال القرار والاستقرار.

ومنها ما ذكره نجيب محفوظ فى نصه الخالد «ملحمة الحرافيش»؛ يقول «إن الطرب طلاء قصير الأجل فوق موال الفراق»، وما عشته فى هذه الأيام كان «موالا» جميلا وعذبا، بناسه وأهله، بما تعرفت عليه وعقدته من صداقات، «موالا» له بداية ولا بد أن يكون له نهاية.

ومنها أنك فى النهايات غيرك فى البدايات؛ فما بين الوصول والمغادرة لم تكن الذى كنته، صرت محملا بمزيد من التساؤلات والتأملات حول ذلك الكائن الغريب المسمى «إنسان».

ومنها أن هذا الإنسان ــ لغز الحياة الأكبر ــ قلبه معلق بين الرضا والغضب، وبين اليأس والرجاء، وبين الإقبال والتوجس. بين الثقة فيك والخوف منك، وسبحان مقلب القلوب بين عشية وضحاها بيده ملكوت كل شىء وهو على كل شىء قدير.

ومنها أن الحفاوة بالغريب «طبع»؛ ولا يؤنسك ويبدد وحشتك ويشتت غربتك إلا من كانت محبتُك فى قلبه عامرة وفى نفسه غامرة. يراك بعين الصفا لا بعين الارتياب، وبعين الإحسان لا بعين الإنصاف، وتلك مرتبة لا يرقاها إلا صفوة ولا ينالها إلا مُكرمون و«عين الرضا عن كل عيب كليلة وعين السخط تبدى المساويا».

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل