المحتوى الرئيسى

إذا لم تستطع أن تُنير عقولهم.. فلا تدعهم يطفئوا عقلك

04/20 22:20

لست صاحب حقوق ملكية هذا التشبيه، ولكن يستهويني دائماً الاستشهاد به، مع إضافة بعض الاستفاضة.

ذلك الرجل الكهل الثمل في تلك الحانة المتواضعة، تراه أحياناً في الأفلام يحدِّث نفسه بتلك الهلاوس والتخاريف التي اختلقها مفعول الخمر في رأسه المحلق بعيداً، بعيداً جداً.

في البدء، لا يستمع له أحد، ثم يقترب منه شخص، اثنان، ثلاثة، حتى تلتف حوله مجموعة لا بأس بها، عشرة أفراد ربما، أثار اهتمامهم وتشويقهم كلام الكهل فصار تسليتهم الرئيسية، طبعاً لا أحتاج أن أخبرك أنهم جميعاً مخمورون مثله.

ربما يبدو مثال الحانة غريباً بعض الشيء عن بلادنا، عموماً تستطيع أن تستبدل بها "غرزة حشيش"، يرتادها حفنة من "المساطيل"، ولكن ليس هذا هو المهم.

المهم أن انتشار البريد الإلكتروني في التسعينات جعل العشرة المتجاوبين مع الثمل والمسطول ألفاً، ومع رواج منتديات الإنترنت في بداية القرن الحالي صار الألف مائة ألف.

وها هي الآن وسائل التواصل الاجتماعي تمكِّن هؤلاء المساطيل من الوصول لملايين المغيبين الذين ينشرون الهلاوس وكأنها مبلغ الحكمة والخبر اليقين.

لا تحتسي ما يحتسون، ولا تدعهم يطفئوا عقلك.

لم أتقاضَ من شركة "هوندا" يناً يابانياً واحداً لكي أحكي هذه القصة، ولكنني وجدتها أنفع من تخاريف كهل الحانة وهلاوس مسطول الغرزة، فشل سويشيرو هوندا في المدرسة، فتركها وهو ابن خمسة عشر عاماً، ليلتحق بورشة سيارات، قضى عامه الأول بالمهنة في رعاية الوليد الجديد لصاحب العمل.

ما بين قيامه بتغيير الحفاضات وتحضير الرضعات كان يتسلل للورشة، يلاحظ ويستكشف ويتعلم.

قضى سويشيرو الخمسة عشر عاماً الثانية من حياته في العمل ميكانيكياً للسيارات متنقلاً بين عدة ورش، كانت كافية ليؤسس شركته الخاصة في سن الثلاثين.

مجرد كشك خشبي يبني فيه سويشيرو المحركات ثم يقوم بتركيبها على دراجات سكان أهل الحي، ولكنه كان انتصاراً قيماً على مستوى الذات، أجبره الجيش الياباني على بناء المحركات لآلياته أثناء الحرب العالمية الثانية، قبل أن يقصف الحلفاء مصنعه ليسوّوه بالأرض، فقد الرجل في سن الأربعين كل شيء إلا نوراً في عقله.

بعد الحرب، بدأ من جديد، هذه المرة بصناعة ابتكار لم يسبقه إليه أحد، ألا وهو الدراجات المميكنة (الموتوسيكلات)، التي صارت في أواخر الأربعينات صيحة ذائعة الصيت في اليابان كلها.

كان هذا هو إنجاز الخمسة عشر عاماً الثالثة، انتصار على مستوى وطن بقدر اليابان.

بعد الموتوسيكلات صنع سويشيرو السيارات، كانت عقليته مختلفة تماماً عن الفكر المهيمن على سوق السيارات في اليابان، أعاقوه وعرقلوا انتشاره، حاولوا أن يطفئوه، فغزا أميركا.

غزا أميركا بما يعرف تقنياً بـ"محرك الاحتراق المركب" CVCC.. دون الإغراق في تفاصيل فنية، هو محرك أكثر فاعلية، أوفر في استهلاك الوقود، أقل في الإضرار بالبيئة، ومتوافق مع القوانين الأميركية.

بإنجاز الخمسة عشر عاماً الرابعة حقق سويشيرو نجاحات عالمية في عقر القوة الأعظم لعالم السيارات، صارت هوندا السيارة المفضلة لملايين الأميركيين، وسارعت كبرى الشركات الأميركية للتعاقد على المحرك الجديد، باستثناء شركة واحدة، هي جنرال موتورز، صرح مديرها التنفيذي:

"هذا التصميم جيد للعب الأطفال، ربما يعمل في دراجة بخارية صغيرة، لكن بالطبع لا يوجد مجال له مع محركاتنا الضخمة".

اشترى أحدث موديل لأكبر سيارات جنرال موتورز آنذاك: شيفروليه امبالا، وشحنها لمصنعه في اليابان، قام مهندسوه بعمل اللازم واستبدلوا بمحركها محرك هوندا الجديد، ثم شحنوها إلى مقر جنرال موتورز من جديد للاختبار، ونجحت التجربة بامتياز وجدارة.. تذكَّر أن المتحدي هنا رجل عمره 70 عاماً.

حتى في الخمسة عشر عاماً الأخيرة من حياته لم يسمح هوندا لنور عقله أن ينطفئ، لم يحقق حلمه بالصعود للصدارة فظلَّ ثالثاً خلف تويوتا ونيسان، ولكنه سبق الآخرين في بناء أول مصنع للسيارات اليابانية بالولايات المتحدة، أصرَّ على منهج جديد في الإدارة ينمِّي الفريق ويطوِّره من خلال تعظيم إمكانات الفرد ومكافأته وإشباع طموحاته، بعكس السائد في سوق العمل الياباني من ذوبان الفرد وانزوائه لحساب الفريق بدون أي تقدير شخصي.

وفي سن الثمانين أصرَّ سويشيرو أن يضع بنفسه لمساته الأخيرة على كل مصنع سيارات يحمل اسمه في اليابان، فقاد سيارته وزار 700 مصنع في طوافٍ دام 600 يوم على التواصل.

لا أريد أن أطيل عليك كثيراً بقصص أخرى شبيهة، تستطيع أن تبحث بنفسك مثلاً في قصة سير جيمس دايسون، الذي تفوَّق في رياضة الماراثون بالمدرسة، ولكنه لم يصبح بطلاً في العدو: "لم تكن لدي مؤهلات الرياضيين، ولكنني كنت أملك المثابرة"، وقد صدق، أصبح جيمس دايسون مخترعاً.

ورغم إنجازه لاختراعات عديدة فإنه ظل مديوناً حتى مشارف الخمسين من عمره، يزرع أكله في حديقة بيته، ويحيك مع زوجته ملابسهما بسبب عجزه المادي عن شراء احتياجاته الأساسية، اختراع واحد فقط جعل منه الآن مليارديراً تساوي ثروته 4.5 مليار دولار.. مكانس السيكلون الكهربائية.

هل تصدق أنه اخترعها بعد 5127 محاولة فاشلة؟!!

نعم، 5127 محاولة فاشلة، وتحقق النجاح في المحاولة رقم 5128، هل يضئ عقلك نورٌ للمثابرة في تكرار تجربة الشيء نفسه 5128 مرة قبل أن ترى حلمك واقعاً على الأرض؟!!

هل لديك القدرة على تخيُّل هذا أصلاً؟!!

طبعاً، هيّن على من امتلك هذا القدر من المثابرة أن يخوض حرباً ضروساً لتسويق منتجه وسط وحوش بيع أكياس المكانس بأرباح تساوي 100 مليون جنيه إسترليني سنوياً (اختراع دايسون يستغني عن تلك الأكياس).

والآن، بعد أن وصل لسن السبعين، وجنى كل تلك الثروة، هل توقف دايسون؟ هل انطفأ؟

في 2014، أعلن دايسون عن اختراعه الجديد، الكنَّاس الآلي الذي يستخدم تكنولوجيا المسح 360 درجة عبر تطبيقات الآيفون والأندرويد، وفي 2016 يؤسس بثلث ثروته مدرسة تحمل اسمه لتخريج شباب المخترعين والمصممين الجدد. لم يكذب أبداً من قال إن نصف العبقرية مثابرة.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل