المحتوى الرئيسى

نيسان يا أقسى الشهور

04/19 21:41

فاجأ الشاعر والكاتب البريطانى الكبير تى إس إليوت قارئيه بقصيدته المشهورة «الأرض الخراب» حين وصف الربيع وشهر نيسان/أبريل تحديدا بأنه «أقسى الشهور»، وذلك بعكس تصور الكثيرين من الكتاب والفنانين والناس عموما عن الربيع، والذى غالبا ما يرمز إلى الحياة والقيامة من الموت، والجمال والألوان بعد برد الشتاء وبياض ثلجه.

فى القصيدة المشهورة، يقارن الشاعر تفتح زهور الليلاس من الأرض الميتة (بعد الشتاء وبفضل الشمس) بتفتح جروح الذكريات والرغبات بعد السبات، وهو بذلك يركز على صعوبة أن تجتاحنا مشاعر وموجات حنين لطالما اعتقدنا أننا قد دفناها بعيدا حتى نتمكن من متابعة حياتنا اليومية.

تذكرت شعر إليوت مع قسوة هذا الشهر على مصر وسوريا، ومع تشرب الأرض فى كليهما بالدم عوضا عن المطر. ومع كثرة صور الموت التى أطلت عليّ عبر شاشات الكمبيوتر والهاتف الذكى، ظهرت لى هنا وهناك صور لزهور شقائق النعمان، وهى زهور برية تعلن عن قدوم الربيع فى منطقة الشام عموما، ولكنها ارتبطت فى وعى السوريين بالموت أكثر من ارتباطها بالربيع، إذ يقال إن زهرة شقائق النعمان قد نبتت على قبر أحد ملوك الحيرة بعد أن قتل فى معركة رفض فيها تسليم نساء العرب إلى جيوش الفرس.

لم تستوقفنى قصيدة إليوت من قبل، اللهم إلا حين كنت أقرؤها أحيانا مصادفة، فأتمعن فى جمال الكلمات التى اختارها، دون أن أفكر فعليا برمزية استحضار الربيع للذكريات الموجعة. لكننى حين أمضيت يوم شم النسيم، وهو من أجمل الأعياد فى العالم على الإطلاق، وذلك بسبب احتفال جميع المصريين على اختلافهم واختلافاتهم به، وجدت نفسى أتساءل أين أنا وأبحث فى وجوه أصدقائى عن وجوه أقاربى.

جلسنا فى حديقة خلابة تحت شجرة التوت، فرأيت نفسى أتمرجح مع أطفال الجيران ونحن نغنى «هز التوتة يا توات، تحت التوتة صف بنات». ما الذى أعادنى إلى يوم العيد مع جيران لا أتذكر حتى أسماءهم، فقد افترقت طرقنا منذ تلك الأيام أصلا. ثم رأيت نفسى ألقن أطفالى بعض الجمل التى كان الأولاد يتقاذفونها فى طفولتى وهم يدفعون آخرين جالسين فى الأرجوحة بكل قوتهم فيشتد صراخهم.

فى الربيع تتفتح الزهور وتتفتح معها الذكريات. تتلون الأرض فتعود إليها الحياة حاملة ضحكات بعيدة. تبدأ سلال الفواكه بالوصول من الحقل إلى مطبخنا، لم نشترها من السوق ولم تمر على الثلاجات، هى هدية من أقارب وأصدقاء يزرعونها فى أرضهم. نفتح الشبابيك فتدخل نسمات تعيد للروح بعضا من العذوبة. لو نسيت الشباك مفتوحا فى أول الليل، أقوم فى منتصفه لأغلقه. وبما أننى قمت من السرير، ترانى أمر على أسرة الأطفال الثلاثة لأشد الغطاء عليهم، فى حركة لا أعلم إن كان تلقائية، أم نتيجة تكرارها فى المشاهد الدرامية والمسلسلات التى شاهدتها بشغف فى طفولتى.

يرى البعض فى قصيدة تى إس إليوت حالة اكتئاب تقليدية، حيث يفضل الشخص المكتئب أن يختفى تحت اللحاف ولا يظهر أبدا أمام الآخرين. وذلك أسهل طبعا فى الشتاء، مع الشمس الخجولة وحاجة الناس للدفء والغطاء أصلا. أما الربيع، حين نخلع عن كتفينا المعطف الثقيل ونتحول من الصوف إلى القطن، ومن الألوان الشتائية الداكنة إلى الأصفر والأخضر والبرتقالى، يصبح الاختباء أصعب. طبعا التفسير فيه الكثير من رمزية الاستيقاظ، أو أننا نصبح فجأة مجبرين على الاستيقاظ، على المشى تحت الشمس وعلى الظهور فى الضوء. تبدأ الشمس بالتودد للوجه، لأجزاء الجسد المكشوفة، فتكتسب الوجنتان حمرة خفيفة. النسيم ينعش ويخدر أيضا، أم هى الشمس من تخدر؟

نيسان يا أقسى الشهور فعلا، يا لئيم، يا محرك الشوق ويا مسببا للارتباك. أريد أن أفرح بك وأستقبلك، كما فعلت سعاد حسنى فى أغنية «الدنيا ربيع والجو البديع»، إلا أننى سرعان ما أشتاق لسنوات ذهبت ووجوها بهتت وفاكهة لم أعد آكلها من على الشجر. أريد أن أتمرجح مكان أطفالى، وأن أرمى حذائى فأمشى حافية القدمين على عشب رطب يدغدغنى. نيسان يا شهر الجمال وشهر الزهور، شهر الألوان والاحتفالات، يا شهر المعمول وقرع أجراس الكنائس، فى زمن لم نكن فيه نشكك بهوية الكنيسة فهى قد كانت جزءا من المدينة وجزءا من البلد وهى كانت، وهذا هو الأساسى، جزءا من نسيج قلوبنا وأرواحنا. لِمَ نتهافت اليوم بالشكل المبالغ فيه لإظهار تسامح لم يعد أصلا موجودا. كنا نزور المحتفلين أو نهاتفهم دون ابتذال ودون شوشرة. ها نحن اليوم نزيد من الضوضاء دون أن نزيد من التسامح وقبول الآخر.

نيسان يا أقسى الشهور ويا أجملها، يا أكثر الشهور تناقضا ويا أكثرها تنوعا. أحبك بقدر انزعاجى من تدخلك فى مشاعرى، ترفع عنها الغطاء دون استئذان، فأشعر وكأن الأرجوحة قد توقفت بى وهى فى الهواء. ها أنا ذا عالقة أعلى الأرجوحة بينما الشمس تمد لى لسانها بمكر. أنزلونى من هنا، لست جاهزة بعد للكشف عن قلبى للشمس، والكل يرانى إن بكيت، فأنا مع الأصدقاء أحتفل بيوم شم النسيم وبالربيع.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل