المحتوى الرئيسى

أحدٌ لا يتعظ

04/17 22:32

دفعنى توماس فريدمان الصحفى المعروف فى الولايات المتحدة فى مقاله الذى نشره أخيرا تحت عنوان «لماذا يحارب ترامب داعش فى سوريا؟» إلى كتابة هذه السطور فى دهشة لما كتبه واحتجاجا على استمرار هذا الإرهاب الذى لا دين له ولا ملة فى أرضنا وفى المنطقة وفى العالم أجمع.

وأستسمح القارئ ابتداء فى إعطاء نبذة سريعة لمضمون مقال فريدمان وتسليط الضوء على ما احتواه من تناقضات لا أساس لها. فإن فريدمان يتساءل لماذا يرغب الرئيس الأمريكى ترامب فى محاربة داعش فى سوريا. فإنه إذ يتفهم محاربته لداعش فى العراق، يرى ضرورة أن يترك داعش لتصبح مسمارا فى نعش الرئيس الأسد وإيران وروسيا، وهو المثلث الذى ــ وفقا لفريدمان ــ له أطماع غير مشروعة ويرغب فى بسط نفوذه على المنطقة. ويستطرد فريدمان قائلا ألم تنجح الولايات المتحدة من قبل فى مهمة مشابهة عندما قامت بتشجيع ودعم المجاهدين فى استنفاذ دماء الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان؟

أثارنى هذا القول لما أعاده إلى الذاكرة من أسباب كان لها نصيبها فى المأساة التى تعيشها منطقتنا فى الوقت الحالى. ويعيد ذلك إلى أذهاننا ولاية الرئيس الأمريكى ريجان فى الثمانينيات من العقد الماضى وما قام به من تشبيه الطالبان آنذاك بالمجاهدين والمناضلين من أجل الحرية والاستقلال ومقارنتهم بالشعب الأمريكى عندما هب ضد الاستعمار الإنجليزى فى القرن الثامن عشر فى حرب التحرير للحصول على استقلاله. وما لها من مقارنة! ويبدو أن الكاتب الأمريكى قرر التغاضى تماما عن رؤية العواقب الوخيمة التى آلت إلى العالم والمنطقة من جراء صعود الطالبان وتمكين الإدارة الأمريكية لهم ضد السوفييت. ويمكن وصف تحليل فريدمان بترك داعش لتنحت فى نعش الرئيس السورى بأنه على قدر كبير من السذاجة السياسية وعدم الاتعاظ بدروس الماضى. فهل لدى فريدمان أى معلومات، قد لا نعرفها، تضمن نجاح الولايات المتحدة ــ فيما أخفقت فيه فى السابق إخفاقا ذريعا ــ فى احتواء داعش لاحقا، أم أن هذا القول لا يعدو أن يكون سوى إعادة اختراع العجلة من جديد تكرارا لمأساة ما زلنا نعيش عواقبها الأليمة؟

غنى عن البيان أن ما قام به ريجان وإدارته من توصيف مهمة الطالبان بمهمة مقدسة للفوز على الشيوعيين الكفار وما أطلق عليه بإمبراطورية الشر، كان بمثابة بداية النهاية. فأحد لا ينازع تواجد الحركة الوهابية والإخوان المسلمين منذ عقود سابقة، كل منهما يتعايش بطريقته الخاصة فى المنطقة وفى الدول التى قامت بإيوائهم. بيد أن الدعم العسكرى السخى من قبل إدارة ريجان أيقظ الوحش الكاسر فى هذه الجماعات وخلق لديها زخما جديدا بقدرتها على كتابة التاريخ. وأصبحت هذه الجماعات، بما قامت به من تعبئة المسلمين للجهاد، على قناعة تامة بأنها قامت بهزيمة الاتحاد السوفيتى وكسر شوكته فى أفغانستان، فلم لا يلقنون الولايات المتحدة درسا؟، وكان هجوم الحادى عشر من سبتمبر، ثم لم لا يثيرون بطشا فى الأرض ويدمرون الدول والثقافات ويقتلون الأبرياء؟

يذهب فريدمان فى مقاله إلى التفرقة بين معسكرين لداعش، فقد أطلق على المعسكر الأول «داعش الافتراضى»، وهو المعسكر الذى يقوم بنشر الأيديولوجية الداعشية على صعيد العالم مستغلا آليات التواصل الإلكترونية لتعبئة وتجنيد الموالين له فى أوروبا وأمريكا والعالم الإسلامى. أما المعسكر الثانى فهو ما أسماه فريدمان «بداعش الإقليمية» والتى تعكس أطماعها التوسعية فى إنشاء نواة لدولة إسلامية على الأراضى السورية. ولم يكتف فريدمان بهذا القدر من الخطأ وكأن المعسكرين منفصلين تماما عن بعضهما ولا يغذى أحدهما الآخر، فذهب إلى الإدلاء بدلوه فى أن السياسة الأمريكية يجب أن تنقض على المعسكر الأول، ولا ناقة لها ولا جمل فى محاربة المعسكر الثانى، على أن تتركه للمثلث المزعوم بقيادة روسيا لمحاربة كل منهما الآخر وتدمير بعضهما البعض.

يرى فريدمان أن محاربة الولايات المتحدة لداعش فى المنطقة لن يسهم فى القضاء على خطر الأيديولوجية الداعشية التى هى الأكثر خطورة والتى ستستمر فى بسط نفوذها بين المسلمين فى المجتمعات الغربية، لا سيما مسلمى الجيل الثانى بحثا عن هويتهم فى مجتمعات لا يشعرون فيها بالانتماء إليها ويتوهمون أن هذه المجتمعات تعمل على إذلالهم. ومن ثم يصبح هؤلاء أرضا خصبة للاستقطاب ويؤمنون بأيديولوجية تبيح لهم القتل والإجرام تحت ذريعة استعادة كرامتهم من تلك المجتمعات التى أساءت وتسىء لهم.

تكمن مشكلة فريدمان فى خلط الأمور وعدم اتضاح الرؤى له. فإنه لا مناص من أن تُبقى الولايات المتحدة على أولويتها فى المنطقة بالنسبة للوقوف ضد ومحاربة تطرف الإسلام السياسى فى العراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها من دول المنطقة. فكيف يتأتى له أن يفرق بين أطماع الإسلام السياسى وإنشاء دولة إسلامية، من ناحية، والأيديولوجية التى تخدم هذه الأطماع وتعمل على فرض نفسها على العالم، من ناحية أخرى؟

وإن كنت لا أميل إلى التفرقة بين الجبهة الافتراضية وجبهة التوسع الإقليمى، فإننى أنظر إليهما ككل لا يتجزأ وضرورة شن الحرب عليهما بالتوازى وفى آن واحد، فإننى أعترف أن آليات الحرب تختلف بالنسبة لمحاربة كل من هذين المعسكرين. فلا مناص من محاربة ما تسمى بداعش الإقليمية فى المنطقة وإقامة التحالفات اللازمة للقضاء عليها عسكريا. وقد كان هذا مطروحا على قمة أولويات زيارة السيد الرئيس للولايات المتحدة، وتم الاتفاق على التعاون للقضاء على الإرهاب الدينى والدولة الإسلامية. وعلى فريدمان وأمثاله أن يدركوا أن ضرب سوريا المتعجل وما كان يستلزمه من التحقق من صحة المعلومات قبل المبادرة بالهجوم من شأنه أن يقضى على بعض التخطيطات التى كانت محتملة فى المنطقة للقضاء على داعش. وأن ترك الأمور لتستفحل بين داعش والدولة السورية ليس فى مصلحة أحد، بما فى ذلك الولايات المتحدة نفسها.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل