المحتوى الرئيسى

هل تعود الشمولية من جديد؟

04/17 21:04

"في اللحظة التي يبدأ فيها عرض الدوافع يبدأ النفاق بتسميم العلاقات الإنسانية كلها، يضاف إلى هذا المجهود الذي يبذل لجعل ما هو مظلم وما هو مخفي يظهر في وضح النّهار، لا يمكن أن ينشأ عنه سوى إشهار صارخ ومفتوح لتلك الأفعال، التي تجعلها طبيعتها ذاتها تبتغي حماية الظلام، ولسوء الحظ، فإنّه في جوهر هذه الأمور إن كل جهد يبذل لجعل الطيبة ظاهرة علناً ينتهي بظهور الجريمة والإجرام على المشهد السياسي".

هذا الكلام للفيلسوفة حنة أرندت، أوردته في كتابها "في الثورة"، عند تحليلها للحظة انتصار الثورة، اللحظة التي يبدأ فيها إفراز النّاس مع الثورة أو ضدها، ويحاول فيها البعض إظهار عكس ما يؤمنون به من خلال جعل "الطيبة ظاهرة علنية" من أجل أن يحظوا بثقة الثوار ورضاهم، في هذه اللحظة يبدأ الاصطناع المزيف بإفساد العلاقات الإنسانية، وكما هو معروف، فإن الدوافع الإنسانية ما هو ظاهر للعيان؛ لأنّ ضرورات الوجود تحتم إظهارها للآخرين، وأثرها لا بد أن يُظْهرَ حتّى تكون ذا مفعول إيجابي في المجتمع، يضاف إلى ذلك أنّ من يقوم بهذا العمل يملك الإرادة الحرة في الفعل أو في عدم الفعل، بمعنى آخر هذا الفعل ليس مفروضاً، كالحب والتّضامن والتّكافل بل هو نابع من ذات الإنسان، هذا النوع ليس مقصوداً في تحليل حنة أرندت.

ذلك أنّ النوع المقصود هو الدوافع التي تبتغي حمايةً من العتمة والظلمة، وابتغاءها حماية الظلام؛ لأجل أن تُنْشِئ شخصيةً سويةً، وبالتّالي مجتمع سوي، وأي محاولة لإظهارها سيكون مآل ذلك تسميم العلاقات الإنسانية بظاهرة "النّفاق"، إذا استعرنا عبارة أرندت.

بتعبير آخر، فإن الإنسان يُظهر شيئاً، ولكنه يبتغي عكسه، فهو يسعى إلى أن يتصنع الطيبة والولاء ابتغاءً لمرضاة الآخرين والتزلف إليهم، تكون النتيجة في التحليل الأخير مجتمعاً مختلاً وغير منسجم؛ حيث تعمُّ السلبية والكسل وتسود اللاثقة.

هذا التفسير لا يصدق على اللحظة الثورية فقط، إنما يصدق كذلك على المجتمعات، التي تعيش في ظل الأنظمة الشمولية، فهذه الأنظمة لا تؤمن بالفرد ولا بقدراته؛ إذ تعامله على أنّه آلة لا يحتاج إلا إلى الأوامر والضبط، ما يجعل الإنسان يتصنع الولاء والطاعة، فتجده يقوم بالعمل حسب الطلب، وإذا قام به فهو يؤديه خوفاً من تلك السلطة التي تراقبه، لا نتاج واجب يجب القيام به.

بعبارة أخرى، هو عالم "1984"، الذي نسجه جورج أورويل، الروائي البريطاني الشهير في روايته التي تحمل العنوان نفسه (1984)، النّاس في هذا العالم يعيشون في ظل "الأخ الأكبر"، الذي يرمز إلى القائد الأكبر، ويجسد الحزب.. في هذا العالم لا فضاء للحرية، ولا مجال للاختلاف والعلاقات الحميمة، فالإنسان "منذ ولادته إلى حين وفاته يعيش تحت رقابة شرطة الفكر" تراقب أدق تعابير وجهه، والكلمات التي قد يتلفظ بها أثناء نومه وحركات جسده، وكل "ما من شأنه أن يكون دليلاً على صراع داخلي".

ذلك أن الهدف الذي يسعى إليه هكذا نظام هو السيطرة بـ" تنظيم تعددية الكائنات البشرية وتمايزهم، وكأنما البشرية كلها إن هي إلا كائن فرد"، بمعنى آخر، الحياة كلها مؤطرة ومراقبة بشكل صارم.

المراقبة والضبط التي يعيشها الإنسان تجعله يكتسب الأخلاق السلبية؛ إذ تجده يتصنع الولاء وفي نفسه يبتغي الكره، ويُظهر الطاعة وهو يريد التّمرد، كما أنّه يُظهر الحب وقلبه عامر بالبغض والكراهية؛ لذلك لا تجد المبادرة من قِبَلِ أمثال هؤلاء الأشخاص إلى العمل أو الاجتهاد أو المثابرة، فكل شيء حسب الطلب، حتّى حبّ الوطن، ورفع رايته، وإنشاد نشيده.

لا يتوقف أثر هذا النّظام هنا، بل يتعدى إلى تسميم العلاقات الإنسانية، فالنظام الشمولي يشكل إنساناً بوجهين؛ الوجه الظاهر المتصنع والمتملق الذي يبتغي به حماية نفسه من غضب الأخ الأكبر وسطوته، ويبتغي به الولاء والطاعة، حتّى ينال الرضا والغفران.

أما الوجه المخفي، فمن خلاله يحاول إخفاء مكنونات نفسه المتمردة، التي إذا ظهرت كانت سبباً في هلاكه وعدمه، أثر علاقة الفرد مع نفسه تتعدى إلى المجتمع كله، وتصبح أخلاق مجتمع بالكامل.

ومن ثمَّ تنتشر اللاثقة في المجتمع الواحد، فالكل يتحسس رأسه، خوفاً من وشاية هنا أو غدر هناك، وتعمُّ الأنانية وحبُّ الذات، النّاس هنا هم عبارة عن أفراد موكلين بأداء مهمة، وليسوا مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات.

بناءً على ما سبق، إذا كانت اللحظة الثورية تؤدي في الأخير إلى الجريمة السياسية، كما استنتجت ذلك "حنة أرندت"؛ حيث التّصفية الجسدية للمعارضين، الذين يحملون أفكاراً مختلفة، وذلك حتّى ينجح مشروع الثّورة وتتجذر أفكارها.. فإن الأنظمة الشمولية تؤسس للفساد الأخلاقي، الذي يمسُّ كينونة الفرد وذاته، إذ تنتشر الأنانية، ويعمُّ الفساد، وتتكاثر الجرائم بمختلف أنواعها، ومع أن الفرد في هذا النظام يعيش العجز والقهر إلا أنه يمجد القوة، ويحترم القويّ، في حين يحتقر الضعيف والعاجز.

ولكن السؤال الذي يطرح: هل نشهد اليوم عودة النظام الشمولي؟

تُعرّف الشمولية بأنّها: "تلك الممارسة السياسية الرّهيبة التي تُحوّل الإنسان إلى جهاز وجعله عبداً للنظام".

للأسف هنا، لم ينفرط عقد هذا النظام حتى يعود من جديد، فالعرب يعيشون تحت أنظمة تسلطية لا تؤمن بحق الإنسان في حياة كريمة، وحقه في دولة القانون.. أنظمة لا تؤمن بالحرية والحق في الاختلاف.

أما هناك، فإرهاصات عودته تلوح في الأفق، خاصة بعد الوعي، الذي تشكّل للشعوب الغربية في ظل دولة الحقوق والقانون؛ إذ أصبح الإنسان الغربي يطالب بالحفاظ على مكتسبات الدولة الضامنة؛ لأنّه أدرك أن النُّخب المسيطرة تحاول التّضييق عليه، والتلاعب بمصيره، وأن هناك عالماً للكبار المسيطرين يُسيَّجُ بأسلاك شائكة، حتّى لا يقترب منه عموم الشّعب؛ إذ ظهرت العديد من المنظمات الجماهيرية كـ"احتلوا وول ستريت" الرافضة للسياسات الاقتصادية الجشعة، من بين ما تدعو إليه، رفع الظلم المسلّط على الشعوب المقهورة، ما جعل النُّخب السياسية والاقتصادية المسيطرة تستشعر الخطر فدُقّت نواقيسه وقُرعت أجراسه، نتيجة لذلك سنت قوانين، ظاهرها حماية المواطن من التهديدات التي تتربص به في كل حين من أعداء الحضارة، وباطنها تخويفه حتّى يعود إلى بيت الطاعة.

من علامات عودة الشمولية إلى العالم:

- فشل الدولة في القيام بمهامها تجاه المجتمع بتوفير "مجمل الحاجات ومن كل الأنواع مادية وثقافية وروحية"، ما جعلها تتخلى عن دورها في فرض القانون، بل كانت عاملاً في عدم تطبيقه، فاهتزت الثقة في القانون، وكذا في الدولة؛ إذ أصبح العنف هو السائد في حل الأزمات، وحالة الاستثناء هي الأصل في إدارة شؤون النّاس.

- تراجع الديمقراطية وانحسارها في العديد من بقاع العالم، فاسحةً المجال أمام عودة الديكتاتورية، ولقد سبق لأفلاطون أن توصل إلى هذه النتيجة عندما أعلن أن "الديمقراطيات تنهي أيامها بالوصول إلى حكم الطغيان".

- عجز النظام العالمي عن التأسيس لنظام إنساني في العالم، وعن حل أزماته، بل أصبح يستمد وجوده من الأزمات المفتعلة، والكل يعلم أن الفكر الشمولي ينمو في وسط تسوده الأزمات.

- خطاب التهديد "من لم يكن معنا فهو ضدنا"، وإشاعة الخوف من خلال آليات المراقبة والضبط (حالة الاستثناء وقوانين الطوارئ وانتشار الشرطة في العواصم والمدن الكبرى، بالإضافة إلى استحضار خطر داعش والقاعدة.. إلخ)، وشحذ السلاح وقرع طبول الحروب (حرب عالمية في الأفق، كما يبشرنا الإعلام العالمي).

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل