المحتوى الرئيسى

يُحكى أن: ماذا يفعل المرء عند "العزال"؟

04/14 23:29

وصلت زوجة صديقي عصام إلى فرانكفورت للمرة الأولى، أراد أن يصطحبها في جولة لتعريفها بالمدينة، يحكي لي ضاحكاً: قضينا يوماً كاملاً في شوارعها، وكلما مررنا بواحد كنت تسكن فيه قلت لها "أسعد كان يسكن هنا" وما إن تمضي ساعة حتى نكون في شارع آخر فأقول لها "أسعد كان يسكن هنا" وهكذا، حتى سألتني كم بيتاً سكن فيه أسعد في أعوامه الثلاثة؟

"العزال" كما نقول في مصر، أو الانتقال من بيت إلى بيت هو نوع من العذاب بلا شك، ففضلاً عن الجهد المبذول، المطلوب أن تهدم عالمك الذي كنت تعيش فيه وأن تحشر أركانه بكل هيبتها في مجموعة من الصناديق، لتكتشف أن ذكرياتك في المكان ليس بوسعك أن تفعل بها ما تفعله بأشيائك، وبرغم ذلك فإن "العزال" يمنحك مكاناً جديداً، بتجربة جديدة، بذكريات جديدة، بروح جديدة، فإما أن تتواءم معه وتنسجم فيصبح المكان الجديد صديقاً لك، أو يقع النفور فتتعامل مع الواقع على مضض على أمل في "عزال" جديد، وربما من الغريب أن أفكر هكذا وأنا المسافر دوماً، لكن أليس من حق المسافر أن يجد صديقاً عند العودة؟

في مخيمنا التدريبي الأخير برواندا طلبت من الأصدقاء -الذين كانوا متدربين حال وصولهم قبل أن يصبحوا أصدقاء حال رحيلهم- أن يكتبوا لي على صفحتنا التي جمعتنا على "فيسبوك" بخبر وصولهم إلى بلادهم فأطمئن، ثم اتفقت مع نفسي على أن أفعل ذلك أيضاً، أن أبلغهم حال وصولي إلى السكن الأخير، لكنني اكتشفت أنني لا أصل، إنه السفر والانتقال والترحال.

"منجية" تختار بدقة اقتباساتها، قرأت على تويتر ما نقلته عن أن سهل بن عبد الله المروزي عوتب في كثرة الصدقة فقال "لو أن رجلاً أراد أن ينتقل من دار إلى دار أكان يُبقي في الأولى شيئاً؟"، لم يلفت نظري من المقولة أمر الصدقة والإحسان وصلاح الأوائل، بل هذا اليقين الذي امتلكه سهل.

كثيرون منا يعربون عن إيمانهم العميق بأمر ما، لكنهم يعيشون في انفصال تام عنه في حياتهم اليومية، وكأنهم في تناقض مع ما يؤمنون به، أما سهل فعاش أمر القيامة والخلود كحقيقة يراها رؤيا العين ويستعد لها، وتصرف كأنه في حال "العزال"، ينتقل من بيت إلى بيت، ومن ثم فإن ظاهر الحال أنه يُخرج ما لديه من مال كصدقات، لكن الواقع بالنسبة إليه أنه بيقين يعد بيته الجديد الذي سينتقل إليه.

مثل يقين أحدنا عندما يشتري أرضاً جديدة، فيجلب المختصين ليرسموا له شكل داره المأمولة، ويدخل في حوار طويل بشأن تفاصيلها مع هؤلاء الرسامين والمهندسين، يجادلهم في كل صغيرة وكبيرة، ولم لا وهذه داره الجديدة التي سيقضي فيها عمره، وهذا ما كان يفعله سهل بذات اليقين وهو يصرف أمواله في الصدقات ليزين بها بيته الأخير.

عندما بلغت الستين اكتشفت أنني زرت أكثر من سبعين دولة، وأنني مررت بالأمازون، وبمنطقة القطب الشمالي وأنني شهدت حروباً عديدة، بعضها يخصني مباشرة، وأنني مررت بتجربتي المرض والاعتقال، وأنني التقيت مسيحيين يختلفون عن جيراني في مصر، ومسلمين غير المسلمين الذين أنا منهم، وبوذيين ويهوداً وسيخاً وهندوساً وملاحدة، وأنني حاورت قادة وصعاليك، ساسة ومقاتلين، وصادفت أناساً تفوقوا على الشياطين، وآخرين كالملائكة، وأن حياتي شهدت صعوداً وهبوطاً وصعوداً وهبوطاً، وأنني عرفت الحب وتجنبت الكراهية، وذقت طعم الندم، وأنني في ذلك كله انتقلت بين عشرات البيوت وغرف الفنادق، وأنني أحببت الحقائب وأكن لها امتناناً لدورها في كل "عزال"، ومرافقتي رحلتي، وأنني دائم الدهشة والتساؤل، وأنني كنت أفرح بالجديد، وأحن إلى القديم، وتلك ما يسمونها حياة صاخبة.

عندما وصلت إلى هذا العمر قلت لنفسي قد بلغت سن الرحيل، ربما تغادر الآن أو بعد عشر سنوات، الله وحده يعلم بالأجل، وتصورت نفسي شخصاً صدر بحقه حكم بالإعدام ثم سئل عن أمنيته الأخيرة، ماذا تريد؟ وبدأت أفكر فيما سميته مشروع العشر الأواخر.

غريب أمر الإنسان؛ تنتابه في هذا العمر مشاعر متناقضة، هل يستمتع بما حرم منه في حياته، ويطلق لنفسه العنان، قبل أن تحين ساعة الرحيل، أم يقضي ما تبقى من عمره متصوفاً ناسكاً؟ هل يصرف ما تبقى من حياته في راحة ودعة، أم يصر على مواصلة هذه الحياة المضنية المجهدة حتى اللحظة الأخيرة؟

في هذه السن تجد طريقك إلى "مخزن العمر"، تدخل على أطراف أصابعك، تحاول أن تقوم بجرد مخزونك وقد غطته الأتربة، تزيلها بحرص وتحاول أن تتذكر كل شيء، وتقّيم كل شيء، تضحك أحياناً وتبكي أخرى، وتسأل نفسك ألف سؤال وسؤال، عن جدوى ما قضيت من حياة فوق ظهر الأرض، عن الإخفاقات والنجاحات، عن الناس، الجيران والأصدقاء والخصوم والأعداء، عن "الآخرين" إجمالاً، لكن السؤال الأعظم يمكن صياغته كالآتي: إنك لم تُخلق عبثاً، لقد أتيت إلى هذه الدنيا لغاية وهدف وحكمة ومهمة، الآن وأنت في نهاية المهلة التي منحت لك، وأنت في نهاية الرحلة، هل تشعر بأنك حققت الهدف منها، هل أنجزت ما كان عليك أن تنجزه؟

وأنت في "مخزن العمر" ستجد تجارب رائعة ودروساً عظيمة، لكن الزمان للأسف لن يسمح لك بالاستفادة منها، لكنه سيكون كريماً معك بمنحك فرصة التعبير عنها، سوف تتقمص دور الحكيم وتقول للشباب: اسمعوا مني، فأنا أعرف حق المعرفة حياة الشباب لأنني مررت بها، لكنكم لا تعرفون حياة الشيوخ لأنكم لم تمروا بها بعد، تعالوا أقل لكم ما خفي عنكم، وربما تردد في نفسك ما قاله الروائي البرتغالي جوزي ساراماغو: لا الشباب يعرف ما يستطيع، ولا الشيخوخة تستطيع ما تعرف.

لكنك ستتحمس وتخبرهم عما قاله فيكتور هوغو من أن سر العبقرية هو أن تحمل روح الطفولة إلى الشيخوخة، ما يعني ألا تفقد حماستك أبداً، أو ربما ستقرأ عليهم ما قالته لطيفة الزيات في "الشيخوخة وقصص أخرى": قد يطعن الإنسان في السن ويضطر إلى تغيير عدسات القراءة المرة بعد المرة. قد لا تحمله ساقاه ويضطر إلى الاستناد إلى عكاز أو إلى ذراع بشرية، ولكنه لن يستشعر أبداً برد الشيخوخة، ولا الإحساس بانعدام الوزن إذا ما ظل يناطح، يبدأ عملاً وينهيه، يقبل تحدياً فكرياً أو مادياً ويتجاوزه، يتبين منتشياً ومحتضناً للذات المزيد من القدرة على المناطحة، على المعرفة والتوصل إلى الهدف. لا يشيخ الإنسان طالما ظل عقله يضفي على وجوده معنى، يغنيه بهذا الوهج المتواصل الذي لا يشتعل فجأة ويخمد، الذي يدفئ ولا يحرق، هذا الوهج الأزرق زرقة غاز البوتاغاز النقي، الهادئ هدوء اليقين.

أسافر إلى المناطق الرمادية في التاريخ والجغرافيا ثم أعود فأحكيها حكايات، هكذا كتبت يوماً أصف ما أفعله في سفري، إنني أتوجه إلى المجهول ثم أرجع إلى الناس فأقص عليهم ما رأيت. الموت مجهول، مهما أخبرتنا عنه الكتب فإنه مجهول لا نعرف عالمه ولا مفرادته، ولا ما يمكن أن نراه هناك، أحقٌّ ما يقال من أنك ستجد نفسك فجأة تعلو وتعلو وتنظر فترى جسدك مسجى وقد أحاط به محبوك يبكونك وأنت لا تستطيع الحراك؟ هل ستلتقي حقاً بمن تحب فيستقبلك استقبال العائد من السفر ثم تجلس فتحكي لهم آخر أخبار الدنيا؟ لا أحد يعلم، ولا أنا، وعندما أعلم لن أستطيع هذه المرة أن أعود "فأحكيها حكايات".

يغيظني هؤلاء الذين يتحدثون عن شخص مات فيقولون في رتابة: الله يرحمه، جملة اعتراضية سريعة، مثلما تقول لشخص صباح الخير وأنت في قرارة نفسك لم تستحضر روح التمني أن يكون يومه بحق خيراً، "الله يرحمه"، كلمتان ينطق بهما الناس بلا روح ولا حياة، ليت الذين يحبونني يتمهلون قليلاً عندما يتذكرونني، يستحضرون روح الصلاة بين يدي العلي القدير ثم يقولون -أو بالأحرى يدعون- "الله يرحمه"، ليتهم يأتون حيث أرقد فيحكون لي حكايات حتى ولو لم أسمعها.

ترى هل أسأت إلى أحد، هل من غاضب، هل من غير مسامح، هل من مظلوم.. ترى هل ما لدي من "عزال" ثقيل أم خفيف؟.. يا ويلي!

قبل عدة سنوات رأيت في المنام جنازتي، بالتحديد "كادراً" منها كما نقول بلغتنا المهنية، النعش مائل يحمله كثيرون برغم أني أينما حللت غريب، فمن أين أتى هؤلاء المشيعون؟!

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل