المحتوى الرئيسى

كيف عبر "عندما يقع الإنسان في مستنقع أفكاره فينتهي به الأمر إلى المهزلة" عن موقف كامل من الحياة؟

04/14 13:52

تقول القاعدة الجدلية الشهيرة إنك لا تُلزم مُحدّثك بما لم يلزم به نفسه، أي إنه من الخطأ أن تجادل شخصاً بناء على قناعة ليست لديه، أو تحاسبه لأنه أخفق في تحقيق هدف ما لم يضعه منذ البداية نصب عينيه.

الأمر يمكن تطبيقه على النقد السينمائي كفكرة عامة، فمن العبث مثلاً أن تُحاسب فيلماً يُعرض في المسابقة الرسمية لمهرجان "كان" بذات المعايير التي تقيم بها فيلما تجارياً مصرياً من أفلام الأعياد؛ فأهداف صناعة كل عمل ومعايير تناوله من الضروري أن تختلف، وقد يكون فيلم "كان" الذي تصفه بالمتواضع أفضل كثيراً من الفيلم المصري الذي نعجب بجودته، لكن الأمر في النهاية نسبي ويتعلق بالفيلم نفسه وسياق عرضه.

لابد من التفكير فيما سبق باعتباره ركيزة أساسية للتعامل النقدي مع فيلم "عندما يقع الإنسان في مستنقع أفكاره فينتهي به الأمر إلى المهزلة" للمخرج شادي علي، والذي تكاد أهداف صنّاعه تظهر بوضوح من اختيارهم لعنوان الفيلم الذي سنختصره لاحقاً إلى "المهزلة".

العنوان كما هو واضح يحيل الأمر من اللحظة الأولى إلى حيز المزاح، هذا فيلم يريد أصحابه من اللحظة الأولى ـ أو من قبلها في حقيقة الأمر ـ أن يخبروا الجمهور بوضوح أنهم يمزحون، يقدمون عملاً هدفه هو "الهلس" المضحك، لدرجة أنه لا يلتزم حتى بامتلاك عنوان يُعرّف به، فيستبدل ذلك بنكتة أولى تصل للمشاهد بمجرد قراءة العنوان أو مشاهدة البوستر الخاص بالفيلم.

نتيجة ما سبق هو أننا سنكون مخطئين إذا ما حاسبنا الفيلم بمعايير الكوميديا الكلاسيكية، لو بحثنا عن بناء شخصية كوميدية متماسكة الأبعاد وحاولنا إيجاد بناء درامي متماسك يحكمه منطق السبب والنتيجة، أو أي معيار آخر يمكن من خلاله تقييم الفيلم الكوميدي التقليدي، فالفيلم ـ من عنوانه ـ يرفض هذه التقليدية.

هل يعني هذا أن المسائلة قد رُفعت عن الفيلم؟ أي عن أي "مهزلة" أخرى يقول صناعها أننا نمزح ونقدم فيلماً معياره هو الهلس؟ بالتأكيد الإجابة هي لا؛ فعدم ملائمة المعايير الكلاسيكية لا يعني غياب المعايير كلياً، بل يظهر هنا السؤال الأهم وهو سؤال الهلس: هل ينجح الفيلم في هدفه؟ هل يُضحك الفيلم مشاهديه؟ وكيف ينجح ـ أو يفشل ـ في تحقيق ذلك الهدف؟ وهل من الممكن أن يحمل الهلس أفكاراً أكبر من مجرد المزاح؟

لاحظ أن البناء الكلاسيكي يمكنه أحياناً أن يكون منقذاً لفيلم كوميدي حجم الضحك فيه محدود، أما في غياب الشكل التقليدي والتماسك المنطقي لا يكون أمام صانع الفيلم سوى النجاح في مقامرة الإضحاك، فإن ربح فاز بالتقدير على مزاحه، وإن فشل جاء سقوطه مدوياً لانعدام عوامل الإنقاذ. وأبرز مثال على ذلك أفلام محمد سعد، الذي كانت أعماله الأولى مثل "اللمبي" و"عوكل" (وليس "اللي بالي بالك" كلاسيكي البناء) مزاحاً فائق النجاح، بينما غدت أفلامه الأخيرة نموذجاً للفشل، فلا يوجد ما هو أكثر بؤساً من مزاح سخيف في فيلم بلا بناء.

من هنا نقول أن سؤالنا الرئيسي بالنسبة لفيلم "المهزلة" يدور حول مدى نجاحه في الإضحاك، وكيفية استخدامه لعناصر الحكي المختلفة كي يصل للغاية الكوميدية.

"المهزلة" بالتأكيد فيلم مضحك منذ بدايته لنهايته، تبدأ الضحكات فيه من اللحظة الأولى التي نشاهد فيها شاباً يستعد لمشاهدة فيلم إباحي، قبل أن تنقطع الصورة ليظهر أحد الدعاة يحدثه بشكل مباشر عما يفعله ويدعوه للتوبة بطريقة عصابية.

الرسالة الثانية إذن من الفيلم لمشاهده ـ بعد رسالة العنوان ـ هي: ضحكنا سيخترق المحظور، سنسخر من البورنو والشيوخ على حد سواء.

لا يمكن فصل هذا المدخل عن ثلاثي التأليف أحمد سعد وأحمد كامل وعمرو سكر، وهم كتاب شباب كونوا شعبية على مواقع التواصل الاجتماعي عبر قدرة كل منهم على صياغة نكات قصيرة لاذعة، بصرية أحياناً في حالة سعد، تمتاز بجرأتها الشديدة وتفكيكها لفكرة المحظور أو الممنوع من السخرية، فكل شخص وكل شيء متاح لسينيكية cynicism تقول باستمرار وبشكل غير مباشر: البشر أغبياء، دوافعهم ساذجة، وحياتهم عبث خالٍ من المعنى.

هذا بالضبط هو حال أبطال الفيلم الثلاثة الذين تجمعهم الظروف للسفر إلى بيروت على الطائرة نفسها، فمنهم من لا يمتلك هدفاً من الأساس ويسافر للتخلص من إلحاح العائلة (سمير/ محمد ثروت)، منهم الساذج الذي يكفي خطاب الشيخ في مشهد البداية لتحويله متطرفاً (بيبو / أحمد فتحي)، وحتى من يمتلك فيهم وظيفة وشهرة وتحقق (هاني / محمد سلّام) فهو يمارس مهنة سخيفة قمة أمله فيها هي "الجلوس تحت أقدام قذرة"!

لا تمتلك الشخصيات إذن ما تخسره، ولا ما تكسبه أيضاً، تخوض رحلة لا طائل منها ولا يكون الإنجاز/النهاية السعيدة في آخرها سوى أن يعود كل منهم إلى حياته لحظة بداية الفيلم. لا نجاح شخصي ولا مهنى، لا فتاة جميلة يحبها، وحتى إنجاز منعهم لتنفيذ عملية إرهابية تخطط لها الجماعة الإسلامية، يفعلونه مرغمين وبمحض الصدفة، مع كون خطة العملية نفسها صورة أخرى للعبث والسخرية من الثوابت.

الأبطال إذن يدخلون الفيلم كما يخرجون منه بالرغم من خوضهم تجربة يفترض نظرياً أن تُغير حياة أي إنسان وهي الانضمام ـ بإرادتهم أو رغماً عنها ـ إلى تنظيم متطرف هو صورة ساخرة لداعش. شكل يجعل أي فيلم آخر مجرد سكتشات تتوالى دون بناء درامي، لكن في "المهزلة" تحديداً الأمر يختلف؛ والسبب هو أن غياب التغيير هو أمر مرتبط عضوياً بأهم أهداف كوميديا الفيلم: العبث والسينيكية والسخرية من كل شيء.

سمير وهاني وبيبو لا يتعرضون لتغير إنساني لأن كل ما يمرون به هو سلسلة من تفكيك كل شيء يمكن لأحد أن يحترمه أو يتعصب له أو يدافع. الفيلم يسخر تباعاً من الجماعات الدينية وأفرادها، من الأسرة واختيارها لمستقبل الفرد، من التظاهر الحقوقي، من المثلية الجنسية، من العمليات الوطنية وعلى رأسها الشخصية الأشهر أدهم صبري، من ضحايا جهاد النكاح، وحتى من صندوق تحيا مصر.

هل من الضروري أن تمتلك الآراء ذاتها كي يُعجبك الفيلم؟ بالقطع لا؛ ببساطة لأنه موقف عام لا يحكم فقط كوميديا "المهزلة"، وإنما يكاد يهيمن على شكل الإضحاك الشائع بين قطاع عريض من الجيل الذي ينتمي له المؤلفون الثلاثة. إضحاك عبثي سوداوي يفجر الضحكات من إيمان وأمل مفقودين في البشر ودوافعهم، وهو بالمناسبة تعريف السينيكية وفق موسوعة ويكيبيديا.

الطريف هنا أن الشخصية الوحيدة التي تحقق إنجازياً شخصياً هو الخال (بيومي فؤاد)، والذي رغم كونه تاجر مخدرات يبدو عليه الغباء والبلاهة حتى في تفاصيل عمله، هو الوحيد الذي يفوز في النهاية بالمرأة الجميلة والحياة الأسعد. أمر يمكن بشكل ما تفسيره كموقف غير واعٍ من جيل الآباء ومكاسبه الترممية غير المتناسبة مع إمكانياته.

ما يزيد هذا الأمر وضوحاً أن حتى أمير الجماعة الإرهابية (أطرف شخصيات الفيلم التي يجسدها محسن منصور بخفة ظل هائلة)، تماثل رحلته هو الآخر رحلة الأبطال في انتهائها بشكل عبثي يعيده لنقطة البداية التي كانت سبب هروبه، وكأن قدر البشر جميعاً أن يدوروا في دائرة مفرغة، إلا لو كانوا مثل الخال الغبي!

هل كان صناع الفيلم يفكرون في كل هذا خلال تنفيذه؟ في الأغلب لا، هم فقط أرادوا أن يكتبوا عملاً يفجر الضحك من بدايته لنهايته، والمخرج شادي علي أراد تصويره بأبسط أسلوب ممكن (لا تكاد زاوية الكاميرا تتغير عن زاوية الرصد المحايد التسعينية في كل مشاهد الفيلم). لكن ما حدث أن ما صنعوه امتلك في النهاية شكلاً يناسب مضمونه: كوميديا صارخة لكنها سوداوية بلا أمل.

الإبداع بشكل عام ـ وفي الكوميديا بشكل خاص ـ فيه قدر كبير من اللاوعي، أفكار وخيارات تمر داخل الأفلام بشكل فطري ودون أن ينتبه المبدع لما تعنيه، لكنها موجودة طالما تمكن بعض المشاهدين من إدراكها وتفسير العمل وفقاً لها، وهذا جوهر نظرية "موت المؤلف" التي لا يزال الكثيرون ـ حتى من النقاد ـ يرفضونها بوعي أو بدونه.

في الأغلب كان هدف صناع "المهزلة" هو التهريج لإضحاك الجمهور، لكنه تهريج أسفر عن فيلم ممتع ومضحك أولاً، وعن حكاية تعبر بشكل مبطن عن موقف قطاع عريض من جيل المؤلفين مما يحدث في العالم حولهم ثانياً. وسواء كان هذا التعبير واعياً أو لم يكن، يظل موجوداً علينا رصده وتحليله وإن لم نوافق عليه، لاسيما وهو يأتي داخل عمل كوميدي بحق، عمل مُضحك، وهذا شرط بديهي يتناساه بعض صناع الكوميديا وكثير ممن يكتبون عنها.

خاص- تعرف على رأى الناقد طارق الشناوى في فيلمى.. "بنك الحظ" و"عندما يقع الإنسان في مستنقع أفكاره فينتهى به الأمر إلى المهزلة"

أهم أخبار فن وثقافة

Comments

عاجل