المحتوى الرئيسى

معاذ حجازي يكتب: لمْ أعُدْ أحتمل القصف يا أمي ! | ساسة بوست

04/12 09:21

منذ 6 دقائق، 12 أبريل,2017

هُنا، حيث المدينة تلفظُ أنفاسها الأخيرة، هُنا، حيث المدينة ترقدُ على فراش الويْلات، والباقي لها في الحياة سكرات، هُنا، حيث اليوم أسوأ من الأمس، وغدًا أسوأ من اليوم، والأسبوع كله يبكي، ولا إجازة للبكاء، قد يقف الدمع قليلًا، حينما يبدو الجو هادئًا، لكن سرعان ما تعمل الأجفان عملها وتسكب الدمع عند أول رصاصة تنطلقُ في الفضاء، لا أحد يعلم مَنْ أطلقها، وعلى مَنْ أُطْلِقَتْ عليه، لكنّ الجميع يعلم علمًا تامًا، أنها ستكون مِنْ نصيبِ شخص ما لا ذنب له إلا أنهُ كان قريبًا من مرمى النيران!

أُسَامة صاحبُ الاثني عشر عامًا، والاثنتي عشرة شظية أيضًا، وقف أمام منزلهم الذي كان كالمَنازل، قبل أن تُعاقبه صواريخ الطائرات بإطاحتهِ أرضًا، لم يكُنْ أسامة ملمًا بتفاصيلِ المجريات، لكنه بغْتة وجد نفسَه متهمًا ومدانًا ومُجرمًا، لا بد أن يرتاح العالم من شره، لا بد أن يختفي من هذا الكوكب!

لم يبك أسامة وقتما زجّت به قدماه إلى منشأ الطفولة المُتهشّم، فالحجارة ليست أغلى من أبيهِ الذي استهدفته عناصرٌ قالوا إنها مجهولة، ليسَتْ أغلى من أخته رهف التي راحت ضحية الغارات، حينما قرّر سقفُ المنزل أن يُعانق الأرض، ورهف بين السقفِ والأرض تُحْتَضَن، مَنْ ينزعُ هذا عن ذاك لِتعيش رهف؟ أنينُ الفتاة يُنادِي، ولا أحد يُجيب سوى أنينٍ آخر في المنزل المُجاور، المُتهشم أيضًا، والكل في مصيبتهِ قد أُفْجِع، قلوبُ الجَمْع تَحْتَضِرُ لِما ترى، ردّ الله أمانتهُ إليه، ماتت رهف بضغطةٍ من الحجارة وثبات من الأرض، وانتقلت تحت ظِل عدالة قدسية الأحكام والميزان!

أم أسامة كانت جاثيةً على ركبتيها فوق الأنقاض، تقطفُ من بين الحجارة بقايا دمار يعود ذكراه إلى السّلام، تنطلقُ يداها إلى صورة العائلة التي باتت مُشتتة، بعضُها تحت أطباق الثرى قد مات، والآخر فوق الأطباق ينتظرُ الموت، صورةٌ كان الكل فيها يبتسم، رهف كانت تحتضن أسامة فيها، رحلت رهف، ليحتضن أسامة ذكراها، بكت أم أسامة على ما آل إليه الزمن معها عندما تمعّنت تفاصيل الصورة المبهجة في حين، والمميتة في أحيان، بكت حتى ابتلت الصورة من فرطِ الدمع المُنسكب، وقالت في نفسها: «مَنْ ذا يقفزُ بالزمنِ إلى الوراء فنعود كما كُنا لنموت كما كُنا»!

كان أسامة منتصبًا أمام شبح المنزل يُغازلُ الماضي، والماضي مِنهُ في إعراضٍ مُستقيم، لم ينتصر على عينيهِ كثيرًا في حبسِ الدموع داخل مصيدة الحزن، لأنه رأى أمهُ غارقة في بحر من الدمع لا يَجف، يبدو عميقًا ومُخيفًا، هرول إليها واحتضنها، ذلك الاحْتضان الذي يحوي بداخلهِ معاني تَعْبُرُ حدود الرّأفة وتتخطّى حواجز الـ«آه»، ويخلقُ في الناظرِ بكاءً لا يدري مِنْ أين يأتي، وعلى أي شيء ينصبّ، وقال لها وما زال الاحتضان قائمًا: «ما ذا يبكيكِ يا حبيبتي؟ يا قرّة عيني، لا تجلبي دمعي بدمعِكِ، لا تفضحي ضَعفي بتلك الحسرة المُقامة على وجهكِ، لا تزرعي في قلبي بذور الحزن في الوقتِ الذي أُصارعُ لاقتلاعها، لا تُميتي الجزء الحي في جسدي بما مات فيكِ من وجدان، فلنُحَافظ على ما تبقّى منّا، إنْ كان هناك شيء قد تبقّى!

رحماتٌ من اللهِ تُربِتُ على قلوب الأم وولدها، هامِشُ الحياةِ سعيدٌ بوجودهم بالجِوار، الحُزنُ يُرثي المَحزونين أمثالهم، فالقهر عبر حدود الأحزان، والدّمعُ رأس مالهما، أناملُ القدر لمْ تَعُدْ تُكفكِفُ سيول النوائب السّاقطة، قالت له والدته وعيناها شاخصة للماضي كما لو تودّ اقتلاعه مِمّا فات وتُحضِرُه مُؤنسًا: «أتذكرُ يا أسامة والدك رحمهُ الله حينما كان يُداعبنا على طاولة الإفطار؟ سأخبرُك سرًا لم تعرفه من قبل، والدك هو الذي كان يضربكَ دائمًا في قدمك من تحتِ الطاولة، وكنت تضْجرُ مِنْ رهف لظَنكَ بأنها مَنْ فعلت، كان يُمازِحُك يا أسامة، لا بارك اللهُ فيمن قتلوه، ولا جعل لهم قوة ولا سلطانًا، لقد اشْتقْتُ يا ولدي!».

واصل أسامة مسلسل حضور الماضي وقال وعيناهُ يُلمّعْهُمَا الدّمع: «أتذكرين شجرَ الزيتون الذي كان شامخًا هُنا مكان الرماد؟ كان جميلًا جدًا، جعل البيت حديقة مِنْ طرازٍ فريد، والآن أصبح كَهفًا من طرازٍ فريد أيضًا، لا أُخفيكِ سرًا يا أمي، أفتقد رهف بشدة، آمل لو أراها لنظرة واحدة وبعدها تصعد الأرواح إلى ما كُتِبَ عليها، لا يُخَيّلُ إليّ أبدًا أنّ الحياة ستمضِي هكذا ببساطةٍ دُونَها، كانتْ جميلة جدًا، ومرحة تَدُسُّ البسمةَ في أفواه المُحْبَطِين، رحمها الله، جاءت إلى الدنيا لترحل على الفور، زهرةٌ سُمِحَ لها بأن تتفتّح وسُرْعَان ما أماتها سوء الأجواء، بذرةٌ غُرِسَتْ في أرضِ الحياة وانقطع عنها مجرى الري حتى ماتت قبل أن تَرْتَوِي، اللهم هوّن على قلوبِنَا المُنْكَسِرَة!

توغّل الاثنان في حب الماضي واندمجا في الحَنين، لكن حنينهم قُتِلَ أيضًا حينما سمِعَا صوت طلقات تُدَوّي في المُحيط، وشاهدا مُصَابي القلوب يُهرولون إلى المَخابئ، يَستترون بالحجارة التي أبَتْ السقوط، سأل أسامة والدته عن كنهِ ما يحدث مُتعجبًا مُتخوفًا، أجابته أمه بأن عربات القوات تقتحمُ المدينة لِتنظُر رصاصاتها في أمرنا، مَنْ مِنّا يستحق الموت البطيء لِيَعيش، ومَنْ يستحق الموت العاجِل فتُعانقه طلقة الرحمة لِيموت، اهدأ يا أسامة واستعن بالله، فوالله الذي لا إله غيره لن يَفْعل بنا عبد شيئًا غير ما كتبه لنا خالق العباد أجمعين، تعال لنختبئ ونأخذ ساترًا، فرُبّمَا يُكتَبُ لنا اليوم بعض الأنفاس، ردّ عليها أسامة: «ورُبّمَا لا»!

استترا وراء جدار كان آيلًا للسقوط، حالهُ كحال القلبين اللذين يخفيهما وراءه، كان الجنود يذبحون من لا ترتاح قلوبهم له، رصاصاتهم كانت تنطلقُ في صدور المُشاة العُزّل، كأنها وُرودٌ تتهادى، الأرضُ أصبحت حمراء، مجاري الدّم مفتوحة لا تُسَد، صراخُ النساء على ذويهم كان يُصيبُ الجنود بالسخط، أطلقوا الرصاصات على مَنْ يصرخ فزال السخط، وصارَ الموتُ صامتًا والحُزن أبْكم لا لسان له، أسامة يراقبُ من بعيد، هذا لا يُشبهُ الأفلام الحربية التي كنت أتابعها قبل الدمار، هذا غير معقول، أي شجب وأي تنديد واستنكار يجلبه ما أرى؟ وحِيدين نموت، ووحيدين نعرفُ الحقيقةَ الكاملة، اللهم صبرًا لا قهرًا!

لمْ يكتف المشهد عند دخول الجنود فقط، فالطائرات المُقاتِلة جاءت لتحلق من جديد فوق سَماء الانهيار، لِتَدُك ما لم يَرْضخ في المرة الأولى، قصفٌ دام ساعات، رؤوسٌ تُقَطّع، وأشلاءٌ لا يُعرَفُ أجزاؤها تعود إلى هذا أم ذاك، انفجاراتٌ تظهر فجأة، لا أحد يُقاوم هُنا، الكل في رحابِ الموت يَحْتضِر!

لم يستطِع أسامة الصمود أمام مسرح المعركة التي كانت ذات جانب واحد، ارتجف وبدا عليه أنهُ أصيب بنوبةِ صرع من هَوْل ما يَجرِي، ونزع جسدهُ من صدرِ أمه مبتعدًا عن الساتر، والأم تُنادِيه ليعود، لمْ يَعُدْ، هرولَتْ إليه، لكنّ خطواته كانت أسرَع ممّا تتوقع أمه، حتى وضعتهُ أمام فَتحَات الأسلحة، رصاصةٌ انطلقت من قوة الظلام إلى ضعفِ النور، أطاحت بأسامة أرضًا، ليودع الحياة صارخًا يقول: «لم أَعُدْ أحْتَمِلُ القصف يا أمي».

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل