المحتوى الرئيسى

د. منى زيتون تكتب: هل بُنيت الأنظمة الحيوية باستخدام سقّالات؟!‏ | ساسة بوست

04/11 14:53

منذ 5 دقائق، 11 أبريل,2017

في كتابه «أصل الأنواع»، وتحديدًا في الفصل الخاص بصعوبات النظرية، كتب تشارلز دارون قائلًا: «إذا كان من الممكن إثبات وجود أي عضو معقد، والذي لا يُرجَّح أن يكون قد تكوَّن عن طريق تعديلات عديدة ومتوالية وطفيفة فسوف تنهار نظريتي انهيارًا كاملًا».

بالتالي يكون دارون هو أول من ألمح إلى استحالة البناء التراكمي للأنظمة الحيوية المعقدة.

كان أول من نحت مصطلح التعقيد غير القابل للاختزال Irreducible complexity هو د. مايكل بيهي، أستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة ليهاي ببنسلفانيا، عام 1996م.

يُعرِّف د. مايكل بيهي في كتابه «صندوق دارون الأسود.. تحدي الكيمياء الحيوية لنظرية التطور» التعقيد غير القابل للاختزال على أنه: «نظام واحد مكون من أجزاء متعددة مترابطة بشكل جيد متفاعلة فيما بينها تساهم في الوظيفة الأساسية، أينما أُزيل جزء ما من الأجزاء فالنظام سوف يتوقف عن العمل. فأي نظام ذي تعقيد غير قابل للاختزال لا يمكن أن يُنتَج عن طريق تطوير مستمر للوظيفة البدائية، والتي تستمر بالعمل بالآلية ذاتها، عبر تعديلات طفيفة ومتوالية لنظام سالف؛ لأن أي سلف لنظام معقد غير قابل للاختزال، والذي ينقصه جزء ما هو بالتعريف نظام غير صالح للعمل».

ولأكثر من عقدين من الزمان، استُخدم المصطلح للإشارة إلى الكثير من الأنظمة الحيوية المعقدة التي تتكامل مع بعضها البعض، ويكاد يكون من المستحيل تصور أن أحد أجزائها كان سابقًا على الآخر.

سبق أن أشرت في مقال «الحد الكوني أم الأُلفة الكيميائية؟» إلى النقاش الدائر حول نشأة الحياة، وهل كانت البروتينات أولًا أم كان الحمض النووي DNA أولًا؛ كونهما يشكلان معًا نظامًا متكاملًا. ومن أشكال ذلك التكامل الذي يستحيل به وجود أحدهما وعدم وجود الآخر مع استمرار النظام في أداء وظيفته:

يُعرَّف التعبير الجيني Gene expression على أنه العملية التي يتم من خلالها تحويل المعلومات من الجينات (ترجمة شفرة الحمض النووي) لإنتاج البروتينات – غالبًا -، وفي نفس الوقت توجد مجموعة من البروتينات هي التي تتحكم بزيادة أو إنقاص سرعة التعبير الجيني، وشأنها شأن كل البروتينات يتم نسخها من جينات الحمض النووي! فالبروتينات، بالإضافة إلى وظيفتها الهيكلية والإنزيمية في الخلايا، هي المسؤول الأول عن تفعيل وتنشيط الجينات لإنتاج البروتينات! وبينما يُشفِّر الحمض النووي لتكوين البروتينات، تُسهم البروتينات الهيكلية (الهستونات) في الحفاظ على DNA؛ حيث تتعقد مع الحمض النووي لتشكيل الكروموسومات.

مثال آخر صارخ للتعقيد غير القابل للاختزال، مصدره مفهوم «الحد الأدنى من الجينات» Minimum Gene set concept. وفقًا لنظرية التطور فإنه ينبغي أن يكون ممكنًا البدء من (صفر جين) على أن يزيد العدد تدريجيًا وتراكميًا لتبلغ عدد الجينات المهول في جينومات كل الأنواع الحية والمنقرضة، ولكن من دراسة أدق وأبسط الخلايا الحية؛ الميكوبلازما Mycoplasma، والتي تحتوي على 468 جينًا، كل جين منها قد تصل أطوال سلاسل الأحماض الأمينية المكونة لبروتيناته ما بين ألف إلى عشرة آلاف حمض أميني، اتضح أنه لا يمكن تصور تخفيض عدد الجينات اللازمة لانطلاق الشرارة الأولى للحياة في الخلية إلى أقل من 200 جين.

وفي عدد 6 يناير 2006 من مجلة الطبيعة Nature، ذكر الباحثون المتخصصون أنه لا يمكن أن يُخفض العدد اللازم لبدء العمليات الحيوية في الخلية إلى أقل من 397 جينًا!

والأمثلة التي صارت تُضرب على التعقيد غير القابل للاختزال أكثر من أن تُحصى لأنها تمثل جميع الأنظمة الفرعية في الأنواع الحية بدءًا من التركيبات الخلوية فما أعقد.

وفي كتابه، ضرب د. بيهي أمثلة على بعض الأنظمة الحيوية الصغيرة جدًا، ومع ذلك فهي معقدة وغير قابلة للاختزال، مثل: الأهداب، والأسواط البكتيرية، وعملية تخثر الدم، والنقل الحويصلي في الخلايا الحية.

وتعد فرضية تعقيد الأنظمة الحيوية مهما كانت صغيرة، ومهما بدت للعامة بسيطة، إحدى أهم فرضيات نظرية التصميم الذكي. إن التعقيد في الأنظمة الحيوية، وفي نظام الكون ككل، يرتبط بقوانين فيزيائية عالية الدقة، وإلا ما توفرت الظروف المواتية للحياة. بل إن هناك ما يُسمى بـ«هرم التعقيد». وضعه برنارد كار، وهو فلكي، درس كيف تعمل قوانين الفيزياء في الكون. تبدأ قاعدة الهرم بالكواركات، والتي تُكوِّن الذرات، فالجزئيات، فالخلايا، فالكائنات الحية، وانتهاءً بالعقل والوعي، والذي يمثل أعلى درجات الأنظمة المعقدة. والضبط الدقيق في تكوين كل مرحلة من التعقيد على حدة، بحيث لا يمكن تفسيرها بتراكم تغيرات بسيطة، كما لا يمكن أن نُبسِّط الأمر بأن ذرات ما قد ارتبطت لتكوين جزئيات البروتينات المختلفة والدهون وغيرها والتي بدورها كونّت الخلايا وهكذا.

من هنا بدا واضحًا أن إثبات وجود أنظمة حيوية معقدة متكاملة، لا يمكن أن تعمل بشكل سليم في حال نقص أي جزء منها مهما صغر، هو تحدٍّ علمي حقيقي لنظرية التطور. بل هو أكبر تحدٍ واجه النظرية، من علم الكيمياء الحيوية تحديدًا، ودفع كثيرًا من العلماء – رغم كل الضغوط التي يواجهونها – لإعلان التشكك في النظرية في العقدين الأخيرين؛ ومن ثم التوقيع على انسحابهم من تأييد النظرية، وصار لهم موقع على الإنترنت.

كما يمكن تحميل القائمة بأسمائهم التي يتم تحديثها كل فترة.

لكن، في المقابل، كان هناك من جادل بإمكانية تفسير تلك الأنظمة الحيوية المعقدة عن طريق آليات التطور التي تفترض التدرّجية، فماذا ادّعوا؟ وهل كان ردًا علميًا له وجاهته؟

الطفرة: هي تغير في الحمض النووي DNA، والذي هو كتاب شفرة الحياة لكل فرد من أي نوع.

يفترض التطوريون أن الطفرة هي المسؤولة عن توليد المعلومات الجينية الجديدة في جينومات الأنواع الجديدة المفترضة، وأنه باستمرار حدوث الطفرات لفرد من نوع ما سينتج عنه في النهاية ظهور نوع ‏جديد.‏ بالتالي فإن:

«البناء التراكمي عن طريق الطفرات هو الآلية المفترضة للتطور»

ومعلوم أن الطفرات التي تحدث في خلايانا الجسدية لا يمكن الادعاء بشأن توريثها، كما أنه نظرًا لأن جميع خلايا جسم الفرد مستنسخة من خلية واحدة التي هي البويضة الملقحة بالحيوان المنوي، ‏لذلك فالاحتمالية الوحيدة لتوريث الطفرة هي أن تحدث في أحد المشيجين اللذين اندمجا لتكوين الزيجوت.

وما زال التطوريون الجُدد يُصرّون على هذه الآلية رغم أنه قد ثبت علميًا أن الطفرات الكروموسومية والجينية في الأمشاج الجنسية (الجاميتات) إما أن تؤدي إلى موت أو تشوه الأجنة أو إصابتها بأمراض خطيرة كاللوكيميا والتخلف العقلي. ولم يحدث أن شاهدنا على كثرة الأنواع الحية والأفراد التي تمثلها أي صفة جديدة نشأت.

وقد تحدث الطفرات طبيعيًا، ولكنها نادرة، بسبب وجود آليات لإصلاح أخطاء النسخ في الحمض النووي DNA، كما أنها قد تحدث صناعيًا نتيجة تعرض الفرد لعوامل التطفر مثل الإشعاع والمواد الكيميائية الضارة وبعض العقاقير الطبية، وكلها ضارة؛ لذا يُطلب من مرضى السرطان الذين يرغبون في الإنجاب حفظ بويضات وحيوانات منوية في بنوك الجينات قبل بدء العلاج الكيماوي أو الإشعاعي كي تُستخدم في التلقيح الصناعي بعد ذلك لإنجاب أطفال أصحّاء؛ لأن علاجات السرطان تؤثر على الجهاز التناسلي سواء للذكر أو الأنثى؛ مما يؤدي إلى تلف البويضات أو الحيوانات المنوية. وقد عانى اليابانيون كثيرًا من تأثيرات الإشعاعات النووية للقنبلتين النوويتين اللتين أُلقيتا على هيروشيما وناجازاكي في نهاية الحرب العالمية الثانية.

وحتى ما تم الادعاء بشأنها أنها طفرات مفيدة كالطفرات التي تُمكِّن البكتريا من مقاومة المضادات الحيوية، فهي في حقيقتها حذف للمعلومات الجينية التي من خلالها يتفاعل جدار الخلية البكتيرية مع المضاد الحيوي، كما أن بعض الطفرات تُنشِّط معلومات جينية مثبّطة في جينوم النوع الحي؛ وبالتالي فليس ثمة معلومات جينية جديدة متولِدة، وهو ما تفترضه نظرية التطور كأساس للانتواع. لكن التطوريين يطلبون من العالم التصديق بأنه كانت توجد طفرات مفيدة، أضافت معلومات جينية جديدة، وغيّرت تسلسلات الجينومات، نتجت عنها صفات جديدة عديدة، وسبّبت نشأة كل هذه الأنواع التي عمرت الأرض، ولكنها فقط لا تظهر لنا الآن، وتتخفّى عنا منذ كُتِب تاريخ البشر.

كما أن معظم الطفرات متنحية، ولذلك فهي لا تظهر إلا إذا اجتمع في الابن جينان متنحيان يحملان ‏نفس الصفة الوراثية المفترض أنها ناشئة من الطفرة؛ ‏مما يدعونا للتساؤل عن احتمالية نشأتها ابتداءً في أفراد مختلفين، بينما التطوريون في المقابل يصرون على أن أي طفرة لا بد وأنها نشأت في السلف المشترك، ومن ثم تم نقلها لجميع أفراد الأنواع الناتجة منه، متجاهلين أنه لا بد من سلفين؛ ذكر وأنثى، لأن السلف المشترك المطفور لا يصلح لتفسير توريث الطفرات المتنحية في الأنواع التي تتكاثر جنسيًا؛ إذ كيف تكونت أنثى مماثلة في النوع ولديها نفس نسخة الصفات التي تكونت عشوائيًا في الذكر؟! كالعادة السيناريو التطوري تنقصه التفاصيل.

طبيعة الأثر الذي تحدثه الطفرات

‏يعترف التطوريون من أصحاب الاتجاه الثالث الجُدد أن «سجل الحمض النووي لا يدعم التأكيد على أن الطفرات العشوائية الصغيرة هي المصدر ‏الرئيسي للتنوعات الجديدة والمفيدة».

The DNA record does not support the assertion that ‎small ‎random mutations are the main source of new and useful ‎variations‏.‏

لكن عندما نقرأ ما يحاولون افتراضه كآلية بديلة للطفرة لتفسير تولد المعلومات الجينية الجديدة نفاجأ بأنهم لا يبرحون يتحدثون عن الطفرة ذاتها، لكن بدلًا من الحديث عن طفرات عشوائية صغيرة في زوج من النيوكليوتيدات في DNA، يتحدثون عن الطفرات في الجينات المُنظِّمة (جينات هوكس) HOX Genes، وأشهرها طفرة تُعرف بطفرة أنتينابيديا Antennapedia، تحدث في ذبابة الفاكهة، وبدلًا من أن تُنظِّم التعبير الجيني بحيث تظهر الأرجل في مكانها الطبيعي، يظهر زوج من أرجل الذبابة محل قرون استشعارها! واستدل التطوريون على هذا الانقلاب في موضع الأقدام بأن الأخطاء الجينية يمكن أن تنتج أنظمة معقدة!

ولا يعنينا كثيرًا إن كانت تلك الطفرة طبيعية أو صناعية نتجت في ذبابة الفاكهة نتيجة تعريضها لسنوات للعوامل المُطفِّرة (الإشعاع ومواد كيميائية ضارة) أملًا في ظهور نوع جديد، في محاولة لإثبات صحة التطور، حتى أُسميت ذبابة الفاكهة شهيدة التطور.

وأول سؤال يتبادر إلى الذهن لا شك يكون عن قيمة الصفة التي اعتبرها التطوريون جديدة (تغير تموضع الأرجل لتظهر في الرأس!)، ثم عن قدرة الذبابة ذات الأرجل في رأسها على توريث تلك الصفة عديمة القيمة لإنتاج أجيال كاملة جميع أفرادها توجد بها الصفة ذاتها، والإجابة عليه بأن الطفرة لم تنتج الأرجل للذبابة حتى يُدعى قدرتها على إنتاج أنظمة معقدة، والواقع أنها خرّبت جسم الذبابة، كشأن أي تدخل عشوائي في تركيب معقد، فالمتوقع أن يؤدي إلى إفساد ذلك التركيب وليس إلى تحسينه ‏وترقيته، والأهم أن الذبابة المطفورة لم تستطع إنتاج أجيال تحمل أفرادها تلك الصفة بعد أن تم التلاعب في جينومها وإفساده.

وما زال السؤال الأهم قائمًا: أين المعلومات الجينية الجديدة التي ولّدتها الطفرة في جينوم الذبابة؟

كما يتحدث التطوريون عن طفرة كبيرة قد تحدث أحيانًا عندما يتم حذف أو مضاعفة جزء كبير من شريط DNA مرة واحدة، قد يصل إلى ملايين النيوكليوتيدات، ويعوِّلون كثيرًا على التضاعف الجيني «gene duplication» تحديدًا وليس على الحذف، والذي يجعل نفس الجينات تتكرر في شريط DNA للفرد. الافتراض التطوري يتعدى هذه الحقيقة ليضيف إمكانية حدوث طفرات بعد التضاعف الجيني في كلتا النسختين الأصلية والمتضاعفة.

ونظرًا لأن بعض أنواع البروتينات تتشابه متتاليات الأحماض الأمينية التي تتكون منها مع متتاليات بروتينات أخرى، فقد استُخدمت فرضية الطفرات التي أعقبت التضاعف الجيني لتفسير التشابه الكبير بين تلك البروتينات المتشابهة مع وجود بعض الاختلاف. طبعًا دون أن تخبرنا تلك الفرضية التطورية أي بروتين نشأ أولًا وكيف نشأ.

لكن هذا الافتراض لا يجد ما يدعمه من دراسات DNA الحديثة، فأي زيادة أو نقص في الجينات يولد خللًا، وليس كما يحاول التطوريون إيهامنا بأن فردًا تضاعفت بعض جيناته، ثم تطفّرت، ونتيجة التعبير الجيني عن تلك الشفرة المختلّة نتجت بروتينات غريبة، ثم إن هذا الفرد لم يتأثر! ثم ورّث ذلك التطفر الهائل لأبنائه! والأهم أنه بعيدًا عن فرضيات التطوريين عن الطفرات التي تتبع التضاعف الجيني، فإن التضاعف الجيني في حد ذاته ليس توليدًا لمعلومات جينية جديدة. بالتالي فنحن ما زلنا نعاود الدوران مع الطفرة.

ولندع الطفرة الآن جانبًا، ولنفترض بأن البحث جارٍ عن الآلية التي تم بها توليد مليارات المعلومات الجينية اللازمة لنشأة الأنواع الحية والمنقرضة.

ولكن هل يمكن البرهنة على أن الأنظمة الحيوية تم بناؤها تراكميًا باستخدام آلية ما؟

هنا يظهر اعتراض أنصار التصميم الذكي، فالأمر يتعدى الطعن في الطفرة كآلية لتوليد المعلومات الجينية المشفرة لكل بروتين على حدة، ويتعدى الطعن في احتمالية حدوث الطفرات المتطلبة المفترضة لترقي الأنواع وفقًا لنظرية الاحتمالات، بل إن فكرة البناء التراكمي للنظام الحيوي ذاتها – والذي شيئًا فشيئًا يُرقّي النظام – مطعون فيها؛ فتعقد الأنظمة الحيوية يبرهن على التكاملية الوظيفية وليس التراكمية.

فبينما يمكن أن يؤدي النظام المتكون تراكميًا وظيفته في كل الحالات، ولكن التراكم يوفر فقط إضافة وتحسنًا في أداء الوظيفة، فإن النظام المعقد المتكامل يعجز عن أداء الوظيفة في حال نقص بعض الأجزاء مهما صغرت، ويبدو الأمر أشبه بنزع مسمار من محرك السيارة. وهذا هو المقصود بالتعقيد غير القابل للاختزال.

عند طرحه مفهوم التعقيد غير القابل للاختزال لأول مرة استخدم مايكل بيهي مصيدة الفئران كنموذج مبسط لنظام إن تم نزع أي جزء من أجزائه فقد النظام وظيفته.

وقد سارع تطوريون بالطعن في عدم قابلية مصيدة الفئران للاختزال، منهم البيولوجي H. Allen Orr، في مراجعته لكتاب بيهي «صندوق دارون الأسود»، المنشور في Boston Review. وقام د. بيهي بالرد عليه بنفسه في مقالة على موقع معهد ديسكفري.

ادّعاء أور يتلخص في: «يمكن بناء نظام معقد بشكل لا يمكن اختزاله تدريجيًا بإضافة أجزاء، في حين أنها في البداية كانت مفيدة فقط، لكنها تصبح – بسبب التغيرات اللاحقة – أساسية. المنطق بسيط جدًا. جزء (أ) في البداية يقوم ببعض العمل (وربما ليس بشكل جيدًا جدًا). جزء آخر (ب) في وقت لاحق يحصل على إضافة لأنه يساعد جزء (أ). هذا الجزء الجديد ليس أساسيًا. إنه فقط يُحسِّن الأشياء. ولكن في وقت لاحق، الجزء (أ) (أو أي شيء آخر) قد يتغير بطريقة ما والتي يصبح على أثرها الجزء (ب) لا غنى عنه. وتستمر هذه العملية مع طي أجزاء أخرى في النظام. وفي نهاية اليوم، قد تكون هناك حاجة إلى أجزاء كثيرة».

يقول د. بيهي في رده على مراجعة أور: «الآن، كيف يمكننا أن نضع هذه الفقرة مع اتفاقه الأولي أنه إذا تمت إزالة أي جزء من مصيدة الفئران، فإنها لا تعمل؟ بالتفكير في مثال مصيدة الفئران، ما الذي يمكن أن يتوافق مع «جزء (أ)» والذي «في البداية يقوم ببعض العمل؟».

في الواقع، كانت النقطة الكاملة من مثال مصيدة الفئران تظهر أنه لا يوجد «جزء (أ)» الذي سيؤدي في البداية المهمة. ليس هناك «جزء (ب)» يساعد على التحسين التدريجي لـ«جزء (أ)». الإضافة التدريجية للأجزاء غير ممكنة لمثال مصيدة الفئران (أو على الأقل إنه بعيد جدًا عن الواضح أنه من الممكن)».

أما أشهر مقال يتداوله التطوريون على مثال المصيدة لبيهي، فهو مقال للبيولوجي John H. McDonald من جامعة Delaware بعنوان«مصائد فئران معقدة قابلة للاختزال»A reducibly complex mousetrap.

اعتراض ماكدونالد لم يختلف كثيرًا عن اعتراض أور. في هذا المقال عرض ماكدونالد تصورًا تدريجيًا افترض أنه يبرهن على إمكانية اختزال مصيدة الفئران، وأنها يمكن أن تعمل في كل مرحلة، والتأكيد بالتالي على إمكانية تطورها تدريجيًا، وعزّز تصوره برسوم متحركة تبين حال النظام (المصيدة) في كل مرحلة وصولًا إلى صورته النهائية.

يقول ماكدونالد: «هنا أظهر كيف يمكن للمرء أن يبدأ مع قطعة واحدة من الزمبرك، ويصنع منه مصيدة فئران غير فعالة، ثم من خلال سلسلة من التعديلات والإضافات من أجزاء يصنع مصائد أفضل فأفضل، حتى النتيجة النهائية؛ وهي مصيدة الفئران الحديثة. بالإضافة إلى إثبات أن مصيدة الفئران ليست معقدة بشكل لا يمكن اختزالها، وأوضح أيضًا الاعتراض الأكثر أهمية على «التعقيد غير القابل للاختزال» دليلًا على «التصميم الذكي»: جزء قد يكون اختياريًا في مرحلة واحدة من التعقيد قد يصبح ضروريًا في وقت لاحق بسبب التعديلات في بعض الأجزاء الأخرى».

اعتراض التطوريين إذًا يمثل شكلًا من أشكال الالتفاف على مفهوم التراكمية ذاته؛ الذي من البديهي أن يفترض إضافات متعاقبة، كما يُنكر اعتراضهم أن الأجزاء الضرورية في المرحلة النهائية كانت دائمًا ضرورية للنظام في مراحل سابقة.

إذًا، فماكدونالد يفترض أن إحداث تبديلات متلاحقة في أجزاء النظام – وليس فقط إضافات -، والتي قد تشمل إزالة أجزاء كانت تسهم في النظام يمكن أن تجعله يعمل في كل مرحلة أثناء رحلة تكونه التراكمية. كما يفترض أن جزءًا قد يكون اختياريًا – بحسب تعبيره -، ثم يصبح في مرحلة لاحقة أساسيًا للنظام مع تغير مكوناته.

ونظرًا لأن التطوريين يفترضون أنه كانت هناك أجزاء سابقة في كل نظام، وكانت جزءًا رئيسيًا منه؛ كونها سمحت له في السابق أن يعمل، ثم لم تعد موجودة فيه، أصبح اعتراضهم الأشهر على حجة التعقيد غير القابل للاختزال، يُعرف باسم اعتراض التسقيل، تشبيهًا بما يحدث أثناء عمليات البناء من إضافة سقّالات لدعم البناء، تكون هامة أثناء البناء، ولكن يمكن الاستغناء عنها بعد ذلك.

واستدل ماكدونالد بأن مصائد الفئران الحديثة كان لها بالفعل إرث قديم، وكل النماذج المختلفة والمتباينة في مستوى التعقيد التي استخدمها البشر قديمًا كانت تعمل.

المغالطة هنا تكمن في أن:

الجزء الأول وحده (سلك الزمبرك) الذي افترضه ماكدونالد كبداية – ولم يحدث أن استخدمه البشر يومًا ما كمصيدة فئران – لم يكن نظام مصيدة ناجحة؛ لأنه باعتراف ماكدونالد كان يمكن للفئران التملص منه. إنه ليس أكثر من محاولة إثبات زائفة لفرضية أن النظام المعقد الذي يعمل بتآزر عدة أجزاء قد يمكن أن يُبسّط ويبدأ من جزء واحد فقط. نماذج المصائد الأكثر تطورًا التي تم عرضها، والمتركبة من عدة أجزاء هي في حد ذاتها أنظمة معقدة غير قابلة للاختزال، ونزع جزء من أجزائها سيُعطِّلها، وكل منها بحاجة لتفسير كيف تجمعت أجزاؤها تباعًا لتعمل في النهاية؛ لأنه من الواضح أن الإضافات والتعديلات التي جرت عليها بدءًا من إضافة التفافات على الزمبرك واستخدام شرائط تثبيت والنقل على خشبة ووضع طُعم وتعديل شكل الزمبرك، لا تقف وراءها الصدفة والعشوائية.

فلتفسير وجود نظام مصيدة ناجح صار لزامًا علينا تصور أنظمة كثيرة! علّمونا في مناهج البحث العلمي أن التفسير الناجح يختزل الظاهرة ولا يتوسع فيها!

إن هذا الاعتراض أشبه بنظرية الأكوان المتعددة التي قُدِّمت من قِبل الملاحدة لتفسير الضبط الدقيق في كوننا، فالملاحدة من الأسهل عليهم تخيل مليارات الأكوان، خرج من بينها كوننا منضبطًا بدقة وصالحًا لنشأة الحياة فيه، على أن يعترفوا بأنه يوجد كون واحد منضبط، والضبط الدقيق فيه يدل على مصمم ذكي. ثم يطعنون في المؤمنين بأنهم يحيلون على الغيب! ومنهجهم غير علمي لا يقوم على الملاحظة والتجريب!

نماذج تراكمية تطورية وردود مُنظِّري التصميم الذكي

نظام تخثر (تجلط) الدم في الإنسان

نظام تخثر الدم في الإنسان هو من أشهر الأمثلة لنظام معقد غير قابل للاختزال. يحتاج هذا النظام إلى مجموعة من البروتينات الموجودة في بلازما الدم، التي تُعرف باسم عوامل التخثر، وتتفاعل مع بعضها البعض لتكون ما يُعرف باسم شلّال التخثر، والذي يتكون من مسارين، يتكون كل منهما نتيجة لسلسلة من التفاعلات الكيميائية، ويؤديان في النهاية (المسار النهائي) إلى تكوُّن خيوط من بروتين الفيبرين لسد الجرح.

بفحص أحدث تفسير تطوري لتخثر الدم؛ والذي وضعه دوليتل Doolittle، والذي يعني افتراض خطوات تكوين نظام تخثر الدم في الإنسان تدريجيًا، سنجد أنه لم يمكنه أن يدّعي من خلال نموذجه أن تخثر الدم كنظام حيوي هو نظام غير معقد، والأهم أنه كأي تطوري لم يهتم أن يفسر لنا مفارقة أن كل بروتين لازم في العملية يعتمد في تفعيله على بروتين آخر!

الفيبرينوجين والثرومبين هما قلب التفاعل في كل أنظمة تخثر الدم في الأنواع الحية. يتمثل الدور الرئيسي للثرومبين في تحويل الفيبرينوجين إلى خيوط بروتين الفيبرين، وبذا تكون الخثرة قد تكونت. لكن نظام تخثر الدم في الإنسان أبطأ وأعقد، وفي المقابل يُكوِّن خثرة دم أكثر فاعلية مما في الأنواع الحية ذات نظام التخثر الأبسط والأسرع كسرطان البحر، التي يقوم فيها عامل النسيج بتفعيل التخثر بشكل مباشر.

البروتيزات تقطع وتشذِّب الجزيئات إلى أشكالها وأحجامها النهائية. في دم الإنسان يوجد بروتيز البروثرومبين، ولا بد من تفعيله ليصبح ثرومبين قبل أن يستطيع القيام بعمله ويحول الفيبرينوجين إلى خيوط الفيبرين ويسد الجرح، وكي يتم تفعيل البروثرومبين لا بد من بروتيز X، وهذا البروتيز X بحاجة لأن يتم تفعيله أولًا قبل أن يقوم بتفعيل البروثرومبين، ويتم تفعيله بواسطة عدد من البروتيزات!

باختصار، الأمر أعقد بكثير من تحويل البروثرومبين إلى ثرومبين، والفيبرينوجين إلى فيبرين، كي يتم تخثر الدم في الإنسان، فهناك العديد من العوامل الوسيطة المحفِّزة التي يلزم وجودها، وغياب عامل واحد كما في حالة غياب الصورة الفعّالة من عامل (13 VIII) هو سبب الإصابة بمرض الهيموفيليا (نزف الدم). نظام تخثر الدم في الإنسان يتكون من حوالي عشرين من البروتينات. كما أن هناك عوامل أخرى مساعدة تسهم في تفعيل شلال التخثر مثل الكالسيوم وفيتامين K.

الرد التطوري في المقابل على ادّعاء أصحاب التصميم الذكي جاء بالتأكيد على أن نظام تخثر الدم في الإنسان هو بالفعل نظام معقد، ولكن من قال إنه لا يمكن أن يكون نتيجة تطور؟! ثم كتابة سيناريو طويل مُتوهم للكيفية التي يمكن أن يكون قد تم تطوره بها. ألخص خطواته ببساطة في:

في أنواع أبسط من الكائنات الحية اللا فقارية كسرطان البحر توجد أنظمة تخثر أبسط مما لدى الإنسان؛ بحيث يحدث التفاعل مباشرة بين الثرومبين والفيبرينوجين لتكوين الفيبرين، كما أن اللافقاريات تستعمل الأدينوسين للسيطرة على انقباضات الخلايا العضلية الملساء التي تحيط بالأوعية الدموية، مما يؤدي إلى تقليل فتحة الجرح وشدة النزيف؛ وبالتالي فنظام التخثر لدى الإنسان قد تطور ابتداءً من هذه الأنظمة. بلازما دم سلف الفقاريات كانت غنية بالبروتينات المستخدمة في عمليات حيوية أخرى لا علاقة لها بتخثر الدم وأهمها الهضم، وأنسجة سلف الفقاريات كانت محملة بالبروتيزات (الإنزيمات قاطعة البروتين) ولا علاقة لها أيضًا بالتخثر. وهو بداية تشكل نظام تخثر بدائي للفقاريات. حدثت طفرة تضاعف لجين السيرين بروتيز (وهو إنزيم مسؤول عن فسخ الروابط الببتيدية في البروتينات)، ثم تم تفعيل السيرين بروتيز غير الفعّال في البلازما بواسطة بروتيزات الأنسجة، مما زاد النشاط الكلي لتقطيع البروتينات في منطقة النزف؛ وبذا يكون قد طرأ تحسن على خثرة الدم. إذًا فالجين المضاعف مع البروتين الذي لم يكن مستهدفًا للتخثر أصبح مفضلًا بواسطة الانتخاب الطبيعي. ثم تم استنساخ نفس الأخطاء في جين بروتيز البلازما، وتم إعادة الترتيب الجيني، والذي أثر بدوره على كل البروتين الخلوي. مع الوقت، أجزاء وقطع من جينات أخرى تقسمت عرضيًا إلى تتابعات بروتيزات بلازما. ثم تحدث عملية يفترضها التطوريون، وهي خلط الإكسون لتشكيل جينات جديدة! تسلسل DNA المعروف بنطاق البروتين المحفوظ هو ذلك الجزء من الجين الذي يمكنه أن يتطور. وبعد هذه التغيرات يكون قد تكون عامل النسيج؛ من تركيبة بروتين سطح الخلايا مع مستقبلات البروتين المحفوظ بتسلسل جديد. وجود جين يضاعف واحدًا من بروتينات البلازما جعله يتعرض لضغوط انتخابية لزيادة قدرته على التفاعل مع البروتيزات. الانتخاب الطبيعي كان يفضل كل وأي طفرة أو إعادة ترتيب تزيد من حساسية الفيبرنوجين لبروتيزات البلازما، مما حسّن بشكل كبير قدرة البروتيزات الجديدة على تشكيل خثرة محددة غير ذائبة باستخدام الفيبرينوجين الذائب. ثم حدث تضاعف جيني للجين المسؤول عن البروتيز الذي يحول الفيبرينوجين إلى فيبرين، ثم طفرة في الجزء الفعال من النسخة المتضاعفة (ب) غيرت سلوكه. تلك الطفرة فضّلها الانتخاب الطبيعي؛ كونها زادت من كفاءة التخثر. الانتخاب الطبيعي كان ينتخب أثناء تطور نظام التخثر كل ما يبقي تشكيل الخثرة تحت السيطرة، وإلا تخثر الدم كله ولم يقتصر الأمر على سد الجرح. وهذا تم بآليات تضاعف جيني لبروتينات كانت موجودة أيضًا وتطفرت فتغيرت…

وللاطلاع على تفاصيل الرد التطوري يمكن قراءة الدراسة التالية:

The Evolution of Vertebrate Blood Clotting

إذًا؛ فنظام التخثر المعقد في الإنسان حسب التفسير التطوري أتى من بروتينات موجودة بالأساس في الدم، ولكنها كانت تؤدي وظائف أخرى، ثم إن هذه البروتينات تضاعفت الجينات المشفِّرة لها، ثم تطفّرت إحدى النسخ وحدثت عليها تغيرات في مواقع ‏التفعيل، وتم تفضيلها وانتخابها؛ لأنها أدت إلى تحسين عملية التخثر‏. والتضاعفات الجينية كانت تتم واحدًا تلو الآخر.

الرد التطوري على طوله لم يستطع ادّعاء دخول البروتينات اللازمة لعمل نظام التخثر تدريجيًا، ولكنه تحايل بادّعاء أن بلازما الدم والأنسجة في سلف الفقاريات كانت غنية بالبروتينات، ولكن ‏لا علاقة لها بتخثر الدم، ثم تطفرت لتؤدي وظيفة التخثر؛ وهذا تحايل على فرضية التعقيد غير القابل للاختزال؛ واعتراف ضمني باستحالة افتراض أن البروتينات ظهرت بشكل متتالٍ لأن النظام لن يؤدي وظيفته ما لم يتم إدخال البروتينات اللازمة دفعة واحدة!

إذًا مرة أخرى فإن العناصر التي شكّلت النظام تصادف أن وُجِدت حيث كان المفروض أن توجد!

يقوم التصور التطوري على أساس وجود تشابه بين عوامل التخثر، وبغض النظر عن إسراف التطوريين في الحديث عن التشابهات في كل شيء والتعويل عليها واعتبارها معيارًا لبناء علاقات النسب، فالتشابه بين عوامل التخثر لا يصل إلى هذا الحد، فلا يمكن جمعها في عائلة واحدة. بصفة عامة، تنتمي عوامل تخثر الدم إلى عائلة إنزيمات السيرين بروتيز، والتي يتلخص عملها في قطع بعض أنواع البروتينات الأخرى في أماكن محددة. لكن هناك بعض الاستثناءات. على سبيل المثال، ينتمي العاملان VIII وV إلى البروتينات السكرية، بينما ينتمي العامل XIII إلى عائلة إنزيم الترانسجلوتامينيز. في المقابل، لا يحاول السيناريو التطوري إعطاء أي أهمية لتفسير المميزات التي تميز كل نوع من أنواع بروتينات التخثر عن الآخر، والتي تمكنه من أداء دوره بسهولة. لم يأت دوليتل على مرحلة تكون الفيبرينوجين – الذي هو أساس تكون الخثرة – إلا في النهاية! وتظهر مستقبلات الثرومبين سابقة عليه، ولكن أيضًا في مرحلة متأخرة من السيناريو؛ فوفقًا لسيناريو دوليتل نفسه فإن نظام تخثر الدم لا يعمل بصورة فعّالة حتى مرحلة متقدمة منه، ولا يوجد تبرير لاستبقاء الانتخاب الطبيعي للنظام عندما كان في مراحله الأولى، والتي يحاول دوليتل جاهدًا أن يصور لنا أنه كان يمكن أن يعمل فيها وينتج خثرات.

إن التحدي الحقيقي الذي تواجه به البيوكيمياء بأنظمتها المعقدة التطور أن التاريخ البيوكيميائي قد ضاع للأبد، ومع ذلك فالتطوريون يرون في أنفسهم قدرة على إعادة بناء الماضي، وكتابة سيناريوهات تطورية أعقد من الأنظمة المعقدة التي تفسرها، والأهم أنهم يتجاهلون فيها كثيرًا من التفاصيل اللازمة؛ ليبدو السيناريو مثل سيناريوهات الأفلام الهندية حيث يجد البطل فجأة مسدسًا أمامه عندما احتاج إليه، ودون أن يوجد أي مبرر درامي لوجود المسدس، أو مع اختلاق مبرر غير ذي قيمة.

إن فكرة التدرج والتراكم في نشأة الأنواع قد تبدو فكرة لطيفة لمن لم يدرسوا الكيمياء الحيوية، ولكن من درس الكيمياء الحيوية، وفهم كيف تتكامل أجزاء كل نظام حيوي للقيام بالوظيفة، يفهم أن نقص جزء واحد يعني أن النظام برُمته غير موجود.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل