المحتوى الرئيسى

ابراهيم طارق يكتب: في رثاء جدي  | ساسة بوست

04/10 17:33

منذ 10 دقائق، 10 أبريل,2017

لا يزال الموت يلاحقنا من كل جانب، تنبعث رائحته لتحيطنا وكأنها تكبلنا، ولا يزال الفقد ينهش في قلوبنا، كلما تمكنا منه لاح لنا من بعيد يهددنا مرة أخرى، ألا إن الموت حقيقه لا جدال فيها، ولا كفر بها، ولكن الفقد الملازم له لا سبيل لنا به أو بنكرانه أو بالهروب منه، وأسره لا مناص منه!

كانت لي معه وقفات سابقة كثيرة متفردة، فكلما تلاقينا كان اللقاء، وكأنه لأول مرة، وما أقسى المرات الأولى!

تقاطعت طرقنا مع بدايات الطفولة في سن السابعة؛ حيث توفي عمي، وقد كان مقربًا لي كثيرًا، ولازلت أذكر مزاحه وضحكاته معي إلى الآن. أذكر وقتها عندما أخبرونا أنه قد مات، لم تدرك حواسي اللفظ، ولم يستوعبه عقلي، فسألت: ماذا تعني مات؟

أخبروني أنى لن أراه ثانية وفقط، وأدخلوني لأقبل رأسه قبل تكفينه؛ فهي آخر فرصه إن أردت، ولما رأيته لم يكن يبدو عليه تغير كبير! كان وكأنه نائم في سلام! فطبعت قبلتي على جبينه، وخرجت أيضًا في سلام!

وعند الدفن وجدت الجميع يبكي، ولم أفهم لماذا! وسألت ابنه الصغير ـ الذي كان يكبرني بعامين ـ عندما وجدته حزينًا أيضًا! وفي محاولة طفوليه منى لمشاركته حزنه، أخبرته أن يضربني لأبكي أنا أيضًا!

سبع سنوات، ومن ثم التقينا مرة أخرى حيث توفي أحد أقرب أصدقائي غريقًا، وكان ذلك اللقاء الأعنف بيننا، فدخلت مع الدنيا كلها في خصومة شديده لشهور، وتوقفت حياتي تمامًا، فكنت وقتها أدركت ـ قليلًا ـ ماهية الموت، وما يصاحبه من ألم الفراق والاشتياق! ظللت أبكي لأسابيع، وكنت أسير في الطرقات تائهًا، أفتش عنه في صفحات وجوه الناس، فقد رأيته مرات بالفعل، غير أنها كانت مجرد خيالات مشتاق!

كانت تلك الأبرز وقعًا والأعنف والأكبر تأثيرًا! وقد تلاقينا كثيرًا بعد ذلك، تلمست فيه رسائل كثيرة متجدده متفردة في كل لقاء، كان الموت رفيق حياتي الذي لم يتخل عني أبدًا، ورافقني طويلًا، علمني دروسًا لم أكن لأتعلمها لو حييت دهرًا، وتألمت به عمرًا، غير أن الآلم وليد الشوق، والشوق وليد الفراق.

من يعانى مرارة الفقد يعلمُ جيدًا أن لا علاج للشوقِ إلا بثلاث: لقاءٌ يروى ظمأ القلوب، أو اعتيادٌ يقتُل مشاعِركَ، أو تعايشٌ ونِسيانَ.

ومع الموت، فالأولى مستحيلة، والثانية نسأل الله أن يعافينا منها، والثالثة من رحمة الله بنا النسيان؛ لتستمر حياتنا بذكريات طيبة لمن سبقونا!

أما أنت يا جدي فكنت صاحب الأثر الأكبر في حياتي، ذلك الذي لا ينتهي، وستراه دومًا في كل تصرفاتي، كنتَ الرفيق والمعلم والقدوة، وكنتُ الحفيد المدلل، الأقرب لقلبك بلا منازع، تشاركنا سويًا كل فنجال قهوة، كل وجبة كنت تزيدني من طبقك، كل صلاة شاركتك الخطوات للمسجد ذهابًا وإيابًا، كل أعمال السر أشركتني معك فيها بحكم مرضك، شاركتني في المقابل كل أمالي وأحلامي ورافقتني فيها، وقدمت لي كل العون في تحقيقها.

حكاياتك الشيقة وصوتك العذب الذي لازال يتردد في أذني، مُحيّاك ووجهك الوضّاء الذي والله ما رأيته قط إلا وزال عني كل غم، ونسيت شقاء الدنيا كله، كنت أهرب إلى دفء حضنك من كل شيء، أبثك همومي، وأشركك تفاصيلي، وكانت لديك السعة والسماحة لتسمعني.

رحلت يا جدي قبل أن أزف إليك خبر نجاحي وانتظامي بالدراسة مره أخرى، وأعلم كم كان يشغلك ذاك الأمر كثيرًا، كنت طامِعًا في ابتسامتك بذلك الخبر، وأنتظر منك هدية نجاحي تلك التي لم تنسها يومًا منذ الروضة وحتى اليوم، والتي كانت تسعدني والله أكثر من أي شيء آخر.

تسابق عبراتي كلماتي يا جدي، فأكتب وطيفك حولي يؤنسني، يرافقني، كم سأفتقد دعواتك تلك التي كانت تحيطني وتطمئنني بمعية الله لي! فما حادثتك، أوصيك بالدعاء، إلا وكنت تسبقني لتخبرني أنك لا تتوقف عن الدعاء لي، وأنك اشتقت لرؤيتي كما اشتقت أنا لرؤيتك بالمثل.

رحلت يا جدي، وكنت قد وعدتك ألا أتزوج إلا وأنت معي، وكلما تلاقيينا تذكرني، ولما اشتد بك المرض تعاهدنا أن تكون أول زيارة لعروسي لك، فتبارك يا حبيبي خطبتنا وزواجنا.

رحلت يا جدي، وسترحل معك فرحة كل عيد؛ فوحدك كنت تجمع العائلة كلها، وتخبرني صباحًا أن اعلم يا فتى أن تجمعنا هذا هو ثروتنا وفرحتنا وعيدنا الحقيقي؛ فأرتمي في أحضانك، وأخبرك أن فرحة العيد لا تكتمل إلا بك.

رحلت يا جدي ورحل معك آخر متنفس لي، ومهرب من الحياة وهمومها، رحلت واطمأننت؛ فزال عنك المرض والأرق والألم، ونزل بي الشقاء باشتياق لا يروى!

مطمئن قلبي، ونفسي راضية، ولكن لوعة الفراق ومرارة الفقد تؤرقني لا أكثر.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل