المحتوى الرئيسى

قابِل أشخاصاً مثيرة للاهتمام

04/09 09:41

بالعادة، الدوافع لمقابلة الناس وتقضية بعض الوقت، نعم بعض الوقت! تكون دوافع لحظية، أنانية نوعاً ما، ولكنها تتضمن منفعة مشتركة، وهي التسلية؛ بل وأعتبر أن لقائي في حد ذاته ذو منفعة عظيمة؛ لأنني أشعر بالملل في خضم المقابلة عادة، وأشعر بأنهم منتشون من هذا اللقاء العقيم، دون الخوض في تفاصيل وإصدار الأحكام على الناس.

فالرغبة في الاستمرار في مقابلة الأشخاص أنفسهم لاحقاً ستكون للدوافع اللحظية نفسها، راجياً أن يمضي الوقت أسرع من ذي قبل، مع تراجع في قبول تقديم وقتي الثمين لهذه المقابلة مرة أخرى، حتى نصل لنقطة أن أقترح على نفسي أن هنالك ما زال بالتأكيد العديد من المقابلات مع أناس آخرين ربما أوفر حظاً، وأكثر ثراءً!

ولكن، ليست القاهرة هذا المكان الأجدر بصنع هذه المقابلات المثمرة، ولست محظوظاً في هذا.

منذ أن بدأت صنع علاقاتي الاجتماعية في صغري، كنت -كما أذكر، وبلا شك- أكتفي بصديق أو اثنين، يزداد العدد في حال كان هنالك ما يمكن أن نشاركه من اهتمام، في مدرستي حتى الصف الثالث الابتدائي، أذكر أنني كنت صديقاً للفتيات المجتهدات في الفصل، نور وياسمين وآية أعتقد! وصديق ابنة خالتي وصديقاتها الأخريات، أشاركهن كل ما يمكن مشاركته من مذاكرة، نشاط ثقافي، نشاط علمي، الإذاعة المدرسية، مسابقة الخط، بجانب نط الحبل طبعاً والحَجْلة.

عندما انتقلت إلى المدرسة الابتدائية للصبيان، كنت صديقاً لطالبين آخرين قصيرَين ومحدودَي الحجم مثلي تمام (أحمد وبلال)، وكنا نجلس ثلاثتنا على مقعد خشبي واحد داخل الفصل، تلك السنوات الثلاث، لم أكن أقابل صديقاتي إلا نادراً، منافستي لابنة خالتي في الدراسة لم تعد ذات أهمية مثلما تهمني منافسة طلاب مدرستي، تلك السنوات الثلاث لم تتضمن أي نشاط رياضي أو ترفيهي، سوى الضحك الكثير والألعاب على الورق التي تحتاج لنشاط ذهني، كلعبة (ولد بنت بلد مدينة مهنة... إلخ).

في الإعدادية، ظهر صديق جديد شاركني المقعد (محمد)، هنا بدأت أتفهم فكرة الصديق وأهميته، وتعلقت كثيراً بتلك العلاقة، أنا أذكر هذا الفتى حتى اليوم، وكان صديقاً مميزاً ومضيفاً، لم يكن أحد سوانا يستمع للأغاني باللغة الإنكليزية، أو المسلسلات الأميركية المختلفة، لا يلعب كرة السلة مَن سوانا.

عندما انتقلت للثانوية، بدأت العشوائية في علاقاتي الاجتماعية تطفو إلى السطح لأول مرة، في المدرسة أقابل مجموعات كبيرة من الأصدقاء، أنا أشعر بالغربة عنهم ولكني جزء من (الشلة)، وعندما وصلت للثانوية العامة كنت قد وصلت لمرحلة لا أصدقاء لدي، حتى التقيت صديق أخي الذي يصغرني بسنتين (محمد) والذي لا يزال صديقي المقرب الذي لا ينقطع حتى الآن، وبدأت إنتاج موسيقى الراب والهيب هوب معه.

ومنذ ذلك الزمن، فقد كان هذا صديقي الوحيد، وأقابل الكثيرين الذين يُشعرونني بالغربة البحتة، ولكني كنت أشارك في أعمال مسرحية فأقابل فريق المسرح، ولكن لا صديق قريباً لي هناك، تركني هذا الصديق بعد 4 سنوات مضطراً، وهنا (استبدلته) سريعاً بصديق آخر (داني)، وقربني إلى صديقه الصدوق (سامي)، وأصبح لي صديقان مقربان؛ غادر أحدهما مضطراً أيضاً بعد سنتين، وتبقى سامي، كنا ننتج الموسيقى أيضاً.

لم يمض وقت كثير حتى قابلنا (بسام ومادي)، وأصبح أربعتنا الفريق الأنجح والأكثر إبهاراً في قطاع غزة، واستمرت العلاقة لمدة 6 سنوات، خضنا الكثير الكثير معاً، كانت أوقات جميلة جداً، حتى قمت أنا بالانشقاق التام عنهم، وتسببت في تدمير هذا المشروع الجميل (دون قصد)، لكن لم أشعر بالوحدة كثيراً؛ لأن الثورات كانت مفتاحي وملاذي التالي، فقابلت مجموعة رائعة من البشر (أسعد فادي، محمود محمد فادي، محمد سمرا، يارا، سماح، وآخرين)، لا يزال بعض منهم على تواصل لا ينقطع.

ما أود ذكره هنا، أنني أشعر برغبة شديدة في التعبير عن تميّز جودة وروعة الأصدقاء الذين قابلتهم في حياتي، كمّ الاحتواء لروحي وعقلي ونفسيتي، دفعي للأمام، وجودهم في كل لحظة أحتاجهم بها، قتلهم فكرة الوحدة طوال الوقت، في كل لحظة.

حتى غادرت القطاع بلا عودة في عام 2013، وبدأت أفقد أصدقائي، أعني أني لا أستطيع أن أراهم أمامي، وسبيلنا الوحيد للتواصل هو شبكة الإنترنت.

أنا لا أقول إنه لا توجد أرواح جميلة أقابلها هنا في القاهرة، ولا أعني أيضاً أنه لا يوجد سوى حوارات عقيمة ومحادثات بلا أهمية، ولكني أقول إنني أشعر بالغربة، لا يوجد صديق أستطيع مشاركته كل شيء؛ أفكاري، وهواجسي، ومخاوفي، وأحلامي، وأهم شيء، الضحك الكثير، هو يحدث لا محالة ولكن ليس كثيراً، لا أضحك كما كنت أضحك مع سامي وبسام ومادي، لا أضحك كما ضحكت مع أسعد وفادي ومحمود، أضحك أحياناً ضحكاً آخر، جميلاً يحرك عضلات قلبي، ولكن سرعان ما يهدأ وأتوه في الوحدة العقيمة التي في داخلي.

كان هنالك تجربة مع شخص عرفته اسمه (آدم)، كانت علاقة ليست بقصيرة، سنتان من الزمن، كنا نشاهد الحياة معاً، بكل تفاصيلها، نُفصِّصها، نناقشها، نتكلم كثيراً، ولكن بعد سنتين انتبهت إلى أنني لم أنظر إلى صديقي هذا ولا مرة واحدة، لم أكن أعلم أنه وسخ لهذه الدرجة، كغيمة الشتاء، ملبد بالكهرباء، وكشتاء القاهرة، يمر دون برق أو رعد أو مطر، لا حركة للطبيعة، فقط برد ساكن داكن أسود، هذا الذي اسمه آدم كان كذلك، برد ساكن داكن أسود، في مرة قرر أن يقرصني ليخبرني ويعلمني بأنني لم أنجح في تكوين صديق، ويربكني ويجعلني أنظر لعلاقاتي بمنظار جديد.

بدأت بعشوائية أقابل البشر الذين يتكلمون كثيراً، ليتكلموا معاً، حتى أجد مساحة معينة بين الكلام المبعثر الذي أسمع؛ لأضع جملتي التي بالأحرى ستوقف الحوار بضع ثوانٍ، ثم يتجاوزون هذا الغريب المريب الذي تكلم بلكنة غريبة، فلا داعي لمراجعتي، ربما أنطق بمنطق آخر، فآخذ خطوة للوراء وأكتفي بالمشاهدة فقط، ثم أشعر بالملل وأنسحب، وأعود للبيت لأقول لنفسي: لا بأس، ستقابل صديقاً يوماً ما.

لا أريد أن أتجاوز هذا الكلام دون القول، إنني أشعر بالحب تجاه عدد لا بأس به من الأشخاص الذين قابلتهم هنا في القاهرة، شمس وقمر؛ داليا وبلال؛ مينا وشيراز؛ بودي، محمود، وأخيراً حسن.

ولكن، هنالك شيء لا أعرف ما هو، لكن أريد صديقاً أشاركه الكثير الكثير، قدر المستطاع، الكثير الكثير، حتى أفيق من النوم وأعلم أنني يجب أن أكلمه أو أقابله، ليس للتسلية فقط، فلربما هناك شيء ما يجب أن نقوم به معاً، لا أعلم ما هو، ولكن لا يوجد شيء لا نشاركه معاً.

أعرف جيداً أن اهتماماتي اختلفت وتغيرت، وأن العالم هنا أكثر عشوائية وأقل انضباطاً، وأعلم أني صعب الإقناع، ومغرور، بجانب عُقدي النفسية العديدة، ولكن أعلم أيضاً أني قابلت الكثير ممن استوعبوا كل هذا ووجدوا أنني صديق يعرفونه ويريدون أن يعرفوه أكثر.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل