المحتوى الرئيسى

المثقف والسلطة والشعب.. جدلية عجيبة

04/09 06:13

يقول إدوارد سعيد في كتابه "المثقف والسلطة": "في وضع ملتهب على هذا النحو، فإن الشيء الأصعب الذي تفعله كمثقف هو أن تكون انتقادياً، أن ترفق تبنّي أسلوب خطابي هو المساوي اللفظي للأرض المحروقة".

العلاقة ما بين المثقف أو المبدع أو صاحب أي فكرة حقيقية والسلطة علاقة شائكة، فهي ما بين القبول أو الرفض، التدجين أو المعارضة، لكن ما الذي يحددها؟

لعل تحديد هذه العلاقة يحتاج إلى استكشاف مجموع الصلات بين المثقف والسلطة والشعب، 3 أيقونات يرتبط بعضها مع بعض.

المثقف، أو لعلنا نقول صاحب الوعي أو المبدع، هو حراك مجموعة من الأفكار تنمّي النظام الفكري والاجتماعي من حوله وتعطي الشعب فهماً واضحاً للمستجدات ولطرق التفكير والتحليل المختلفة، إنه مجموعة من المحاولات المستمرة لإثارة روح الإبداع والتعبير عن ذات الفرد وروح الجماعة بطرق جديدة ومعبرة عما يدور من حوله.

السلطة، ولعلنا نقول نظام الحكم القائم في أي بلد، ذلك أن السلطة هي مجموعة القوانين والنظم التي وضعها النظام ورضي عنها الشعب فاكتسب شرعيته منه، وليس كل سلطة كذلك، لذا أعتقد أنه من الأفضل أن نسميه نظام الحكم وهو كل نظام يحكمه مجموعة من القوانين والتشريعات والعرف، ويقوم على تنفيذه مجموعة من الهيئات والمنظومات، وكل نظام من المفترض أن يقدم نفسه للشعب بأنه القائم على رعاية مجموعة المصالح المشتركة للناس.

الشعب، جموع مختلفة متداخلة تنمو معها مجموعة من الصلات الاجتماعية والفكرية والاقتصادية، ويحكمها نظام طبقي ونسيج اجتماعي يضع لكل طبقة عدداً من القوانين الداخلية التي تنظم شؤونه، قد تجتمع طبقة على توجه ديني محدد "مثل: الإخوان المسلمين، السلفيين، الجهاديين، الصوفية"، وقد تجتمع على توجه سياسي أو حزبي "حركة 6 أبريل، حركة كفاية، يساريين، وفديين، حزب وطني"، وقد تجتمع على نظام اقتصادي "طبقة رجال الأعمال، الطبقة المتوسطة، محدودي الدخل، معدومي الدخل"، وقد تجتمع على نظام إبداعي "أدباء، مثقفين، إعلاميين".

لكننا في النهاية لا نستطيع أن نفكك كل أواصر طبقات المجتمع بعضها عن بعض، أو نحصي كمية التداخل بينهم، القائم على العديد من العلاقات والتبادلات المعرفية والاجتماعية والدينية والاقتصادية المختلفة. وسط هذا التداخل والتنوع، هناك مجموعة من العلاقات المشتركة التي تجمع صاحب الوعي ونظام الحكم والشعب، وهي الأيقونات المتشابكة التي تصنع لنا لوحة فنية لفهم ما يجري على الساحات المختلفة.

صاحب الوعي، هو المشارك في حياة الناس والمعبِّر عنهم والموضِّح لهم مجريات الأمور، لذا ينبغي أن يكون هناك مجموعة من القيم العليا التي يسعى إليها، والتي تمثل المصلحة العليا لمن يخاطبهم، وهم أفراد الشعب أو الجمهور المستهدف.

لكن، يحول دون وصول صاحب الوعي إلى جمهوره عدد من النظم؛ فمنظومة الإعلام الموجه تعمل على إعداد برنامج معين يخدم أفكاره وتستخدم صاحب الوعي، ومنظومة رجال الأعمال تخدم طبقتهم بعيداً عن الفقراء وتستخدم صاحب الوعي في التدشين للرأسمالية مثلاً وأهميتها للنهوض بالبلاد بعيداً عن فكرة المحتاجين والذين يعانون تفشي النظام الرأسمالي.

بل إن منظومة العمل التي يعمل بها صاحب الوعي قد تفرض عليه مجموعة من القيود التي تسخِّره لمصلحتها، مثل العمل في جريدة قومية مثلاً. وكذلك الأمر مع مجموعة العصبيات والمذاهب المختلفة التي تعمل على تباعد النسيج الشعبي وتقطُّعه، والتي قد ينتمي إليها صاحب الوعي بوصفه من أكثر الناس ميلاً نحو أيديولوجيا معينة والدعوة لها.

إذا كانت هناك مجموعة من العقبات تقف أمام صاحب الوعي، فهل تخطاها ليصل إلى مبتغاه؟

سؤال صعب، الإجابة عنه تكمن في أفق خطاب الوعي السائد في هذه المرحلة، فالخطاب العربي اتخذ منذ ظهور الإسلام على أرضه دلالة الديني ليبرر به أفعاله؛ بداية من عهد الخلفاء الراشدين وظهور الدولة الدينية، ثم ظهور الدولة المَلِكية في عهد بني أمية على أساس استحقاق بني أمية المنتسبين إلى البيت القرشي من طريق عبد المطلب بن هاشم، ثم الدولة الملكية القريبة من المدنية في عهد العباسيين المنتسبين أيضاً إلى البيت القرشي من طريق أمية بن عبد شمس.

ثم دولة الطوائف ذات النزعة السياسية المختلطة بالدين، وقيام الحروب على أساس ديني سياسي، حتى ظهور العثمانيين مرة أخرى والدعوة باسم الدين والخلافة الإسلامية، ثم احتلال العالم العربى من قِبل الغرب وظهور النزعات الدينية التي تدعو إلى وجوب العودة للدين حتى ينصرنا الله، ثم ظهور الخطاب الديني التنويري على يد رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني.

وبعد حدوث ما يسمى الاستقلال في العالم العربي، بدأت الخطابات الدينية تنحسر وتتجه إلى وهابية السعودية وشيعة لبنان وسوريا والبحرين وأخيراً إيران، وإخوان مصر وفلسطين، وصوفية المغرب وتونس، وعلمانية تركيا.

وسط هذا التراكم الهائل من النزعات المختلفة التي تدعو باسم الدين، حكَم زعماء أغلبهم أتى نتيجة انقلابات عسكرية، فكان في تصورهم أنهم أصحاب الأمر والنهي وأولياء أمر الشعوب، وعملوا في الغالب على تمكين التيارات الدينية المختلفة؛ ليثبّتوا حكمهم في البلاد، فكان الخطاب السائد هو الخطاب الديني. أما خطاب الوعي، فكان يظهر على استحياء؛ ما دعا إلى انصهار الناس في بوتقة الدين المؤدلج ونفورهم من الوعي وأصحابه.

الآن بعد الثورة، هل هناك الخطاب نفسه؟

أعتقد أن الخطاب الآن يعتمد على الإنسان، لقد تحولنا من خطاب اللاهوت إلى خطاب الإنسان، فصاحب الوعي الآن انفكّ من بعض قيود السلطة وأنظمة الحكم، وأصبح له القرار في توجيه خطابه بنفسه، فوقع الراقصون مع السلطة وظهر الوعي بين الناس في مدخلاتهم وآرائهم الداعمة للثورة، واعتمد الخطاب على لغة عاطفية؛ بداية من خطاب الرئيس الأسبق حسني مبارك؛ "سأعيش وأموت على أرض هذا الوطن"، ونهاية بتحريض المثقفين والساسة أفرادَ الشعب على رفض استفتاء الإعلان الدستوري بفيديو "يستميل الناس عن طريق مجموعة من الشخصيات العامة؛ منها شخصيات دينية معروفة".

وعلى الناحية الأخرى، كان هناك أيضاً أنصار "نعم" (الإخوان والسلفيون) الذين استخدموا الخطاب الديني العاطفي نفسه؛ لتكون الموافقة على الإعلان الدستوري هي موافقة على دين الله.

نرشح لك

Comments

عاجل