المحتوى الرئيسى

صباح الغزو.. لا تحية للعَلم

03/26 00:25

حاولت مِراراً الإشاحة بوجهي وبيّ مكتملاً عن أبي وعن سؤاله فيما يَخص متى ستظهر نتيجة اختبار الرياضيات الشهرية؟

لم تَكن النتيجة ظهرت بعد، لكن الانتظار موت بطيء، وبالنسبة لطالب في الصف الأول الإعدادي كان هذا هو جُل مُصيبتيّ في الانتظار، وكذا الخوف والمُشكلات في التاسع عشر من مارس /آذار عام 2003.

أخلدتُ للنوم هرباً، هَبِطتُ للطابق الأسفل عِند جدتي أتحاور معها بلا هدف وفي لا شيء، ذهبتُ للمسجد لصلاة المغرب، ومِن ثَم العشاء، وتأخرت قدر إمكاني كي لا يسألني أبي.

إنني في التاسع عشر من مارس/آذار عام 2003 مِن بعد صلاة العشاء دخلت للمنزل في كامل التوتر من كلمة متى؟!

فيما وَجدت أبي أمام التلفاز لم يَهتم لوجودي بالشكل الكافي، لم يسألني متى نتيجة الرياضيات؟

لم تكن نشرة أخبار العاشرة أذيعت بعد، لكن كانت مذيعة تتحدث عن شيء ما بالعراق، سألت مُحاولاً إشغال أبي عن التفكير أو أباغته بسؤال مُشَتِت كي لا يسألني عن هَمي الأكبر.

ستدخل أميركا اليوم إلى العراق؛ كي تبدأ الحرب وسينقل التلفزيون أولى لحظات الحرب.

خَفتت حِدة التوتر بداخلي عن سؤال أبي عن الرياضيات، وشُغل عقلي ماذا سيحدث حين تبدأ الحرب مباشرة على التلفاز؟!

خرج أبي من المَنزل بعد إجابته المقتضبة، ومَكثت أنا أفكر كيف ستحدث الحرب فجأة وعلى التلفاز على دولة مسلمة عربية؟!

مَرة أخرى في العاشرة عُدت إلى الطابق الأسفل؛ حيث جدتي، قررت أني أبيت جِوارها كي أهرب من النوم مبكراً، ومن تعليمات أمي لأشاهد مع جدتي بداية الحرب.

في الحادية عشرة لم تبدأ الحرب.. في الثانية عشرة لم تبدأ الحرب.. في الثانية عشرة والنصف كان الـ20 من مارس/آذار عام 2003 قد بدأ في العَد، وغلبنيّ النوم فأوصيت جدتي حال أن تبدأ الحرب أيقظيني كي أشاهد معكِ كيف ستبدأ.

حسبنا الله ونعم الوكيل، اللهم انتقم من شارون أبو كِرش وبوش الأصفر اللهم انتقم منهم يا رب.. كانت تِلك دعوات جدتي التي هَزت السرير، وهي تَنتفض رافعة يديها إلى أعلى، لم تذهب عيني إلى التلفاز بل إلى الساعة على الحائط، كانت الثالثة فجراً، ويساراً قليلاً لأسفل نَظرت إلى التلفاز كانت بغداد تحترق وكُتل صفراء نارية تضيء المنازل، انفجارات ومن ثَم انفجارات وانفجارات أخرى تُضىء لوناً أخضر، ودعوات جدتيّ لم تتوقف أبداً، والقنابل تَغزل الحرب على المنازل، تُحيي رؤوس الفارين بتحية الحرب.

كانت الصورة يوم قيامة المنازل، دَك الذكريات، سحق رائحة الجدران المُعبقة بسلام الأجداد وأمان الأمهات.

البنادق المُصَوبة من الأغبياء للأطفال كانت تَنبُش السلام في صدورهم، تُعيد تَعريف العدالة في قلوبهم بأن الحرب حاضرة قائمة، وأن من العدل بعد نَبش السلام قِتال النابشين.

نِمتُ فجأة على وَقع قنبلة أظهرت لوناً أخضر مَرة أخرى على مَنزل كان ينتظر دوره في الغياب مع التراب مُختلطاً بالحنان مع دماء مَن فيه من عِباد الله.

في الصباح ذهبتُ للمدرسة مُهترئ التفكير والشكل، لم يكن يشغلني سؤال أبي عَن متى نتائج اختبار الرياضيات الذي كان من المقرر أن يكون يوم الـ20 أو الـ21 من مارس 2003.

اصطففتُ في طابور الصباح شارد الروح لا أفكر في شيء إلا في القذائف التي خلفت ضوءاً أصفر وآخر أخضر على رؤوس العراقيين منذ ساعات، لم أرَ من وقف بجواري في صف طابور الصباح.

السيد جلال عبد الجواد، مدير مدرسة الحديثة الإعدادية بنين، هو من كان يهتف تَحية العلم بعد رفع علم مصر،

بدأ "مدرسة صفا"، من المفترض أن أرد هتافاً من آلاف الطلاب "مصر " لم أهتف.

أتبع: "مدرسة انتباه"، مَرة أخرى لم أهتف "مصر".

استكمل "تحيا مصر" ثلاثاً، والآلاف يُشيرين بالتحية العسكرية ناحية العلم هاتفين من خلفه، لم أرفع أنا يدي عسكرياً، ولم أهتف ثلاثاً من خلفه، ولا من خلف زملائي، فقط كانت صورة القنابل الخضراء تُثقل قلبيّ ورُوحي وتَلَوك أحشائي وتفكيري ألماً.

لما يَكن رد فِعل مرتباً أو انتويته قبل دخول المدرسة صباحاً لم أقصده بشكله التام هذا، فقط صورة القنابل فوق بغداد هي مَن حَركت فطرتي للصمت فجأة اعتراضاً ربما، ألماً حتماً، ومن المؤكد فقدان رُوحي للانتماء لأول مَرة بشكل اعتراضي صامت.

فكيف أهتف "تحيا مصر" وعاصمة عربية بها آلاف المسلمين قتلوا منذ ساعات، ومن المؤكد أن الجثث ستملأ نشرة التاسعة مساء وسأشاهدها مَرة أخرى مع جدتي مساء؟!

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل