أحمد بابكر حمدان يكتب: في التخطيط الذهني للمشروع المعرفي (3) | ساسة بوست
منذ 5 دقائق، 25 مارس,2017
في الجزء الأخير من سلسلة (التخطيط الذهني للمفردات الحضارية) لناشئة الفكر، أتناول عدة مفردات تتضمن (التربية، والفكر، والفلسفة) وما يتصل بها من (ثقافة، ودين، وحكمة).
تحت عنوان: بين نقل المعارف وتقويم الوجدان. في المقال السابق، تناولت تعريف مصطلح التربية كفعل ذاتي، وفعل اجتماعي، ومصطلح التربية الاسرية، أما التربية كمؤسسة فتعتبر أداة تنفيذية تعكس ما تتطلع الأمم إلى تحقيقه في أبنائها بناء على ما جد لديها من معارف وخبرات وظروف. وهنا تدخل الثقافة كعامل رئيس وحاسم في تحديد مضمون، وأهداف، وأسلوب الرسالة التربوية التي يضعها المجتمع لتشكيل أبنائه.
ولنقتبس من النص القرآني نموذجا تربويا تتجسد فيه الثقافة الإيمانية كأوضح ما تكون، وذلك في قصة لقمان الحكيم ووصاياه لابنه: ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد.
وبما أن لقمان قد أوتي الحكمة- سيأتي الحديث عنها في العنوان التالي- فإن توجيهاته التربوية التثقيفية تكتسب أهمية خاصة، لا سيما أنها موجهة لابنه وفلذة كبده.
الفكـر.. معـانٍ متعـددة ومهامٌ متباينة
الفكر مصطلح متعدد الاستخدامات والمعاني، يطلق على العقل وعلى العملية العقلية (التفكير) وعلى ما تتوصل إليه من أفكار، ويطلق على التصورات والرؤى الكلية للحياة والكون والإنسان، كما يطلق في مقابل الدين والوحي في العالم الغربي، بينما يعتبر شارحًا وموضحًا وأداةً للاجتهاد في الإطار الحضاري الإسلامي.
وبإدخالنا لعامل البيئات الحضارية والثقافية، يتضح أن الاستخدام الشائع لمفردة الفكر في فضائنا الثقافي- تنقصه الدقة وتغلب عليه ثقافة النسخ واللصق.
استخدام الفكر بمعنى التصورات والأفكار والرؤى الكلية للحياة، يمنحه جوهر خصائص (الدين) من حيث وضع الخطوط العامة لسير الحياة الإنسانية، وتحديد طبيعة مهمة الإنسان وغاية وجوده فيها.
تتمثل مهمة الفكر وطبيعة دوره في الحياة الإسلامية، في تسليط الأضواء على الأسس العامة للإسلام من عقائد وأخلاق وشعائر ونظم، وبيان قدرة الدين على سد حاجات الإنسانية في مختلف العصور، ومقدرته على إيجاد وصياغة حياة جماعية تسودها قيم السماء والوحي، وذلك بإعماله- أي الفكر- في حل المشكلات وإيجاد البدائل المناسبة وتحديد النسب والعلاقات في مختلف القضايا الحضارية- كما عبر بذلك البروفسير بكار- إلى جانب استيعاب المفيد من الحضارات الأخرى وقولبته في الإطار الإسلامي ما أمكن ذلك؛ فالحكمة ضالة المؤمن.
الفلسفة عندما اختطها سقراط في الحضارة اليونانية- كانت تعني الحكمة أو البحث في الحكمة، والبحث في الوجود أو البحث في مشاكله. بهذا المعنى وجه أبو الفلسفة شعبه إلى محاولة اكتشاف ذواتهم والتعرف على أنفسهم ومعرفة موقع الإنسان في الكون، وبالتالي فإن الفلسفة عندهم كانت تعني: طريقة في التفكير للوصول إلى المعرفة.
وبما أنه وراء كل فلسفة دين، ولا يتصور وجود فلسفة لا ترتكز على دين- كما يقول دور كايم- فإن الدين الذي كانت ترتكز عليه الفلسفة السقراطية كان هو وجدانيات سقراط نفسه وتصوراته عن الإله الخالق واهب الروح النورانية التي يعتبرها من نور الإله.
عند التأمل العميق في دلالات مفردة الحكمة في الحضارة اليونانية من جهة وفي الحضارة الإسلامية ومدرستها النبوية من جهة أخرى- تظهر فروق واختلافات اصطلاحية أكبر من أن تهمل. إن الخلفية الدافعة للبحث عن الحكمة- بما تحمل من معاني العلم والمعرفة- تعتبر محددا مهما في فهم الدلالة الاصطلاحية للمفردة.
توجه البحث عن المعرفة لدى اليونان بجانب البحث في القيم والأخلاق الفاضلة وتنظيم المجتمع- إلى التعرف على الوجود والكون والإنسان نفسه، في محاولة لبناء تصور مقبول يشفي غليل العقل ويجيب عن تساؤلاته الكبرى.
أما البحث عن المعرفة والأخذ بالحكمة (أنى وجدها المؤمن) كما تُوجه الحضارة الإسلامية- فينطلق وقد قدم الوحي تصورات شاملة وشافية لتساؤلات العقل وقضاياه الكبرى، ووفر له طاقة هائلة كانت ستستهلك في محاولات الوصول إلى إجابات شافية، وبالتالي أتاح له التركيز في البحث عن قوانين الكون وسنن الحياة واكتشاف ما أودعه الله فيها من خيرات وموارد، ومن ثم تسخيرها في مصلحة بني الإنسان وتعمير الأرض وفق التوجيهات الربانية المتمثلة في الدين الإسلامي.
والفلسفة لدى الفلاسفة المسلمين الأوائل- كانت تعني البحث في العلاقة بين الله والإنسان، أما في الاستخدام المعاصر فتطلق على الرؤية والمذهب والتصور والآيدولوجية، كالفلسفة المادية أو العبثية ونحوهما. وأما باعتبارها علمًا ومبحثًا معرفيًا فهي لا رأي لها؛ حيث تقول الرأي ونقيضه والفكرة وضدها حسب تعبير العلامة الدكتور عبد الحليم محمود.
Comments