المحتوى الرئيسى

عن القراءة والبوكابيكيا

03/25 09:59

يقولون لنا إننا شعوب لا تقرأ، وأثق في المقولة، فلو كنا نقرأ حقاً لتعلمنا من التاريخ والجغرافيا والحكايات، ولأعدنا صياغتها جميعاً كما يحلو لنا بعد أن نفهم دروساً مُستفادة.

كنت بصدد الكتابة عن القراءة في المجتمع المصري، لكني قررت أن أقرأ أولاً عن القراءة في العالم، وعندما فعلت وجدت أمراً غريباً، فقد أكدت إحصائيات عديدة أن الهنود أكثر شعوب العالم في عدد ساعات القراءة الأسبوعية، ويليهم جيرانهم مثل الصين وتايلاند، وبعد هذه الملاحظة، وجدت تلك الإحصائيات أن المنطقة المناخية الواحدة يتقارب أبناؤها في معدلات القراءة الأسبوعية، فمثلاً دول الشرق الأوسط ووسط أوروبا تتلاقى في منطقة تلي الهند وجيرانها، ويأتي من بعدهم بلاد شمال أوروبا وأميركا.

ولأني أعرف معدلات القراءة الحقيقية في بلادي بقلبي وبدون إحصائيات فقد تشككت كثيراً في العينة التي قامت عليها، لا شك عندي أنهم سألوا من يقرأون بالفعل عن عدد الساعات، ولكنهم لم يسألوا عن عدد القراء بالنسبة لعدد سكان كل بلد.

وجدت إحصائيات أخرى عن نوعية القراءة تماثل الإحصائيات السابقة، ولا تسمح بتخيل حقيقي لما يُقرَأ، فمثلاً في بلادي كانت قراءة الكتب على اختلاف أنواعها أعلى وتيرة حتى ظهور الإنترنت، ومن بعدها انتشار الهواتف الذكية وشبكات التواصل، وهذا قد يعطي فكرة عن النوعية، البعض يقرأ كتباً إلكترونية وهم قلة، والأغلبية تبحث عن النكتة والخبر المثير بدون حتى إكمال قراءته، بل إن رؤية ما يحدث في معرض الكتاب، وهو الحدث السنوي الأعظم للقراءة، تخبرك بالحقيقة الساطعة، أن من يقرأون هم القلة من المثقفين الذين ينتقلون من جيل إلى جيل، ربما يزيد عددهم كنسبة وتناسب مع عدد السكان، ولكنهم نفس الفئة التي تبحث عن كتاب فكر أو تاريخ أو رواية أو علم، بينما تمتلئ طرقات المعرض بمن يبتاعون ما دون الكتب، تلك المجلات الرخيصة، أو تلك الكتب اللقيطة التي تروج لأفكار مغلوطة في الدين أو الجنس أو فضائح المشاهير، ولنا أن نضيف تلك الكتب الصغيرة التي تنقل ما يعجب الناس في مواقع التواصل وتهندمه ليصير كتاباً، وزادوا في ذلك حتى امتلأت الأوراق بغثاء أعيد تصويره ونقله لتلك المواقع مرة أخرى؛ ليصبح هذه المرة هو النكتة، هذا ما يقرأه العامّة، وهذه هي النوعية التي تفتقد الإحصائيات رصدها، وهذا في عُرف القراءة هراء.

ما أثار إعجابي حقاً هو إحصائيات عن معدلات التعليم، وليس معدلات القراءة، أظهرت أن فنلندا هي الدولة الأكثر تقدماً نتيجة نظامها التعليمي المتميز، وهو ما أظنه سينعكس على أجيالها القادمة في معدلات القراءة، فالأمر منظومة متكاملة تصلح من سلوك الناس، وتنير العقول، وهو ما يعني زيادة شهوة القراءة في النفوس.

في بلدي، شباب يرغبون بالقراءة، يزدادون تبعاً لزيادة السكان، وتزداد بهم شريحة المثقفين، دعوني أظن ذلك وأتخيله، إنهم يبحثون عن المتاح ثمناً وأحياناً يمشطون الإنترنت بغية العثور على نسخة مجانية من كتاب، ولأن القارئ ليس لصاً؛ فهو يعذبه كثيراً أن تسرق روحه مجهود كاتب لم يسمح بتداول أعماله عبر نسخ إلكترونية، فيقع في خيار صعب، ويبحث عن النسخ الورقية المستعملة، فلا يجد لها سوقاً، ولعل من انتبه لهذه المشكلة هم بعض الشباب أنفسهم، فحاولوا مقاومة الجهل وضيق ذات اليد بمشروع صغير تدور فكرته حول "مبادلة الكتب".

تعرفون إذاً رحم المعاناة، إنها هذه الظروف التي دفعت مجموعة من الشباب محبي القراءة إلى افتتاح مشروع ثقافي، حسناً، من يرغب أصلاً في إقامة مشروع ثقافي في بيئة غير قارئة هو مُغامر بكل معنى الكلمة، ولعل هذا ما جعلني أتأمل مغامرتهم الصغيرة بقلب واجف، وأنا أتمنى لها ولهم النجاح.

يهدف المشروع إلى مبادلة الكتب، وبيع المستعمل منها بأسعار أقل من الجديد بالطبع، وكان موقع بوكابيكيا، ذكر أصحابه في تعريفهم بفكرتهم عبر صفحاتهم بمواقع التواصل أنهم يهدفون إلى خلق مكتبة مركزية تابعة لهم تحوي ما يتبرع به القراء مقابل نقاط معينة لكل كتاب، ويمكن لزوار الموقع الشراء من نقاطهم، أو نقداً تبعاً لما هو معروض على موقعهم الرسمي، ويقومون بخدمة التوصيل بأسعار مناسبة.

لقد راقبت المغامرة بشغف شديد، فنحن في مجتمع يدفع دفعاً لتلبية متطلبات الحياة، وتذهب بمطالب العقل والروح إلى أبعد زاوية، وما يثير الإعجاب هو صياغتهم للأمر بحيث يكون علاجاً لما هو حادث وليس نواحاً على أحوال، إنها مغامرة أتمنى لها النجاح؛ لأنها تعاند الواقع، وتحاول أن تقول ببساطة: سنتكامل لنقرأ وليكن ما يكون، وبقدر ما تُعطي وتمنح سيمكنك الأخذ.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل