المحتوى الرئيسى

يحكى أن: أسئلة الجنون

03/24 15:48

اضطربت حياة الناس بشدة بعد تفكك يوغوسلافيا بجمهورياتها الست في أوائل التسعينيات، شركات أغلقت، وبنوك أفلست، ومؤسسات لم يعُد لها أي سند قانوني فانهارت.

يحكي لي صديق أن رجلاً توجَّه إلى شخص يعرفه، يترأس مؤسسة شبه حكومية. شرح الرجل لصاحبه الأمر، أسهب له في وصف سوء حاله، توسل إليه أن يقوم بتوظيفه في أي منصب وبأي راتب، بعد أن فقد عمله وهو رب عائلة تعتمد عليه، لكن المسؤول اعتذر له، انهار الرجل بعد أن سدت أمامه كل السبل.

بضعة أيام تمر وإذا بفكرة تباغته وهو يسير في الشارع واضعاً يديه في جيوبه الفارغة: لمَ لا يؤسس شركة طيران محلية وليس لبلاده الوليدة واحدة؟!

بعد دراسات طويلة وتعاون مع أطراف متعددة وإيجاد حلول بديلة لكل العقبات نجح الرجل في استئجار طائرة بدأ بها مشروعه مستديناً مرة، ومؤجلاً الدفع مرة ثانية، ومشاركاً مع آخرين في مرة ثالثة، وفي ظرف عام أصبحت الطائرة طائرتين وثلاثاً، لاحقاً يقص الرجل حكايته لصديقي ضاحكاً ويسأل ماذا لو كان صاحبه المسؤول وافق على تعيينه موظفاً؟

هذه الحكاية ذكرتني برجل أعمال سوري سكن أوكرانيا، وصف لي كيف كان يعاني وأسرته شظف العيش، وكيف كانت قمة سعادته أن يستطيع شراء أكياس البطاطس أول الشهر عندما يتسلم راتبه، فيخزنها فوق سطح بيته وقد ضمن غذاءه وغذاء عائلته لشهر.

وحدث أن انهار الاتحاد السوفييتي الذي كانت أوكرانيا جزءاً منه، وصاحبنا في أسوأ أحواله. وحدث في تلك الفترة أن فشلت صفقة حديد كانت تحملها باخرة ضخمة إلى ميناء أوديسا الأوكراني حيث يسكن، ونزل قبطان الباخرة إلى المدينة التي تعمها الفوضى آملاً أن يجد جهة أو تاجراً يشتري بضاعته؛ لأن مصاريف العودة بها تسبب خسارة فادحة.

لمعت الفكرة في ذهنه وأذهان أصحابه ممن يعانون نفس معاناته: لماذا لا ندبر نحن الأمر؟ وبالفعل عقدت الصفقة، ووافق قبطان الباخرة المخول بالتصرف في شحنة حديده على أن يتسلم أمواله بعد حين، وقفز الرجل ورفاقه إلى مرتبة أثرياء المدينة وفق صفقات متتالية.

عندما تكون في القاع انظر إلى علٍ، إلى القمة، واحلم وفكّر، لعلك تنال بهمتك منزلة لم تكن تتوقعها، ثم ما الضير في أن تنظر إلى القمة وأنت في القاع؟ اطمئن لن تسقط، فليس بعد القاع قاع.

يقولون دائماً: "فكّر خارج الصندوق"، رغم أنه لا أحد يعرف ما الصندوق بالأساس وما محدداته، لكنها ربما إشارة إلى معاكسة المألوف. أحياناً كثيرة نكتشف أننا تقليديون للغاية، نواجه المشكلات بمحاولة حلها بالطرق التقليدية، ونُدهش أنها في الأغلب لا تحل.

تريد أن تتزوج، لا بد من تأمين مصاريف الزواج، والشقة بأثاثها، ستحتاج إذاً إلى مبلغٍ ضخمٍ، والوظيفة - إذا كنت تعمل بالأساس - لا تؤمّن ذلك لك إلا بعد عدة عقود، عليك إذاً بالهجرة، لكنك تسعى إلى عقد عمل حتى تنزل من الطائرة إلى مقر العمل مباشرة، وتبحث عن صديق يعمل هناك، يؤمّن لك بيتاً، وحبذا لو يُسكِنكَ معه حتى لا تنفق كثيراً، وبالطبع لا شيء يتحقق.

الزواج في شقة مؤجرة، والهجرة أو السفر للعمل دون عقد مسبق هو الجنون في نظر بعضنا، في حين أن الجنون الحقيقي بنظري هو عكس ذلك تماماً، هو أن تبقى راكداً في مكانك، تنتظر الظروف المواتية لتبدأ، وفي الأغلب تنتظر كثيراً.

سهل أن تنصح الناس.. لكن هل لديك الجرأة أن تفعل ذلك؟

شخصياً لم أبدأ حياتي لا في شقة تمليك ولا مستأجرة، ولا في شقة من الأصل، ولكن في غرفة صغيرة، والعجيب أنني بعد أن انتقلت إلى شقق كبيرة وجميلة ظلت تلك الغرفة هي الأحلى مذاقاً.

ليس أجمل من أن تبدأ حياتك دون ديون وأقساط وعبء لا يحتمله قلبك، وإذعان لصاحب العمل لأن غضبه يعني توقفك عن سداد الأقساط كخطوة أولى نحو السجن.

انطلق.. كن كنبيّ في قومه يدعوهم إلى مخالفة ما تعارفوا عليه، تحمل أعباء السير في عكس الاتجاه إلى أن يصحح المجتمع مفاهيمه وقيمه.

أول مرة سافرت إلى البوسنة لم يكن معي من مال إلا بعدد أيام بقائي هناك بالكاد، فإذا تأخرت عودتي يوماً لأي سبب طارئ فسوف أبيت في الشارع. وأول مرة سافرت إلى الشيشان وهي في حرب لم أكن أعرف من يمكنه أن يدلني على الطريق، والصحفيون ممنوعون بالأساس من الوصول إليها إلا في أضيق حدود. وعندما سافرت الكونغو وكان اسمها حينئذٍ زائير وهي في حرب أهلية كان كل ما فعلته أن حملت حقيبتي من لندن وقصدت رواندا على أمل الوصول إلى أحراش جارتها الكونغو، ولم أكن أعرف أي شخص ولا أي طريق. وعندما فتحت مكتبي في دبي لم أكن أعرف كيف تدار الشركات ولا ماذا يمكن أن أفعل، هل تريد المزيد؟

أكثر الناس سعادة هم المجانين، صدقني والله، أنت تعتقد أنهم يتخبطون، لكن فجأة تجدهم وصلوا إلى القمة وأنت - عفواً - ما زلت في القاع، فاغراً فاك، غارقاً في حساباتك لكل صغيرة وكبيرة للوصول إلى حلمك الذي لا يتحقق، متسائلاً كيف حدث هذا؟ وكل ما في الأمر أن أولئك المجانين حطموا القواعد المعتادة، ووجدوا سعادة لا تضاهيها سعادة في مواجهة التحديات المترتبة على ذلك.

هل يعني ذلك أن الجنون يفترض الحركة دون تخطيط؟

لا.. مطلقاً، هو يحتاج إلى تخطيط وحسابات، شريطة أن تكون محدودة، ألا تمضي عمرك وأنت تعد الخطة وتحسب الحسابات، وتنتظر اللحظة المناسبة، التي عادة لا تأتي، عليك في لحظة ما أن تبدأ، أن تختار نقطة ما ولحظة ما وتتوقف عن الانتظار وتبدأ، المهم أن تبدأ.

قرأت من قبل نظرية "الدراجة"، وأعجبت بها كثيراً؛ حيث تدعي النظرية أنه ليس بوسعك أن تحقق توازنك وأنت تجلس فوق الدراجة، لكن عليك أن تسير بها، ثم تنحرف قليلاً يساراً أو يميناً إلى أن تحقق توازنك، وتصحح طريقك، فكرت فيها كثيراً، فعلاً التوازن والتصحيح يجري وأنت تسير قدماً إلى الأمام، وليس وأنت واقف، أو تنتظر استكمال الحسابات ورسم الخطة.

لكن ألا يمكن أن يؤدي ذلك إلى الفشل؟

بالطبع هذا وارد جداً! ولمَ تضحك؟ وهل الثبات لا يؤدي إلى الفشل؟ على الأقل فشلك وأنت تتحرك سوف يعود عليك بألف فائدة من خبرة ومعرفة الطريق، فيما بقاؤك ثابتاً لا يحقق ذلك، المهم ماذا ستفعل بعد أن تفشل؟ هل اكتشفت مَواطن الضعف عندك وقررت تصويبها؟ هل اكتشفت مَواطن قوتك لتنميها وتحسن استغلالها؟ هل اكتشفت أن الطريق الذي سلكته لن يؤدي بك إلى ما أردت وأن الأمر يحتاج إلى أن تسلك طريقاً آخر؟

هل تعلم أن الحياة ليست إلا رحلة، ولذتها ليست في الوصول، وإنما في الطريق، فاستمتع بالطريق، وافخر بنضالك وأنت تتغلب على عثراته، وارفع رأسك فوق، فأنت لم ترضَ بالهزيمة.

لكن بالله عليك كن واقعياً، إذا كان هناك شاب بهذه المواصفات، لا يملك شيئاً ومجنون كما ذكرت، ويسير في رحلته كما وصفت، ويتعثر كما أسلفت، ثم تقدم إلى ابنتك فهل تقبله زوجاً لها؟

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل