المحتوى الرئيسى

«أين سنغزو فى المرة القادمة؟».. الحلم الأمريكى فى أوروبا!

03/23 21:48

يواصل مايكل مور فى فيلمه الذكى «where to invade next» أو «أين سنغزو المرة القادمة؟»، رؤيته الانتقادية للسياسات الأمريكية، مستخدما نفس طريقته التهكمية فى الكشف عن المفارقات، وفى استخدام إمكانيات المونتاج فى بناء مادته (مهما كان مصدرها) بطريقة درامية مؤثرة، وعلى الرغم من بعض التطويل والاستطراد، بالذات فى النصف الثانى من الفيلم، فإننا أمام أحد أفضل وأنضج أفلامه عموما.

فيلم مور لا يهدم فكرة الحلم الأمريكى، ولا يسخر منها، ولا يعتبرها وهما، ولكنه على العكس، يؤكد وجودها، ويدافع عنها، ويحلم باستعادة الأساس الذى قامت عليه، بأن يكون الهدف هو «الإنسان»، وليس المادة، وقد كان من الصعب أن تتضح هذه الفكرة النظرية، بدون المقارنة الواقعية التى أخذته إلى ثمانى دول أوروبية، وواحدة عربية هى تونس، لكى يثبت للأمريكيين أن ما يحدث فى هذه الدول يحقق فكرة الحلم الأمريكى الأصلية التى تعرضت للتشويه بسبب سياسات خاطئة، هى فى مجملها، سياسات المحافظين الجدد.

اللعبة هنا، وهى التى منحت الفكرة بريقها، أن مور يجعل أمريكا أبعد ما تكون عن حلمها، الذى صنع منها قوة عظمى، بينما دول أخرى، استعارت الحلم فى صورته الأولى، وكأنها بضاعة أمريكية استقرت بالأساس فى أوروبا.

إنه ينتقد فكرة «أوروبا القديمة» التى قال المحافظون إنها غير قادرة على أن تعلم أمريكا شيئا جديدا، تبدو أوروبا فى فيلم مور كرمز للحضارة، وكأفضل مكان يليق بآدمية الإنسان، بل نشاهد أمريكيين هربوا إلى أوروبا، ليجدوا فرصا أفضل فى مجال التعليم.

أرجو ألا ننسى أبدا طوال مشاهد الفيلم، أنه موجه بالأساس إلى المتفرج الأمريكى، وأن المقارنة ليست فى أساسيات الحياة، التى لا توجد أصلا فى الدول الفقيرة أو النامية، وإنما فى «جودة الحياة»، إنه سباق فى قدرة الأنظمة التعليمية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية على أن تصنع إنسانا أفضل، كما يجب ألا يغيب عن بالك أن فكرة مور تتجاوز حتى الصراع الأيديولوجى بين اليسار واليمين، إنها لا تبحث عن نوع النظام، وإنما تهتم بنتائج ما أفرزه.

مور يستخدم فى الحقيقة كل أدوات الإقناع البراجماتية والعملية، وبذلك يضرب معارضيه فى نقطة قوتهم: فإذا كان المعيار هو الإنتاجية، فإن المواطن الإيطالى أكثر إنتاجية من الأمريكى، على الرغم من أنه يتمتع بإجازات مدفوعة أكثر، وإذا كان المعيار هو التعليم، فإن فنلندا تتفوق على أمريكا فى جودة التعليم، وإذا كان المعيار هو أوضاع حقوق الإنسان فى السجون، فإن النرويج تستضيف المساجين فى منتجعات، مقارنة بضرب وتعذيب المساجين فى السجون الأمريكية.

وإذا كان المعيار هو أوضاع المرأة والمساواة بينها وبين الرجل، فإن آيسلندا تتفوق على أمريكا فى ذلك، فالإيمان بحقوق المرأة يترجم هناك فى صورة مكاسب ومناصب، وليس فى شكل شعارات لا تتحقق، وإذا كان المعيار هو العلاقات الصحيحة بين العمال وأصحاب العمل، فإن إيطاليا وألمانيا توفران للعمال مزايا لا يحلم بها العامل فى أمريكا.

هنا موضع تفوق الفيلم الأساسى، إنه لا يعيد بناء المادة المصورة، أو المأخوذة من أفلام فحسب، ولكنه يعيد بناء منطق خصومه، مستخدما نفس أسلحتهم، ويوجهها لتأييد منطق مور وأفكاره التى يؤمن بها، ويصل هذا المكر الفنى البديع إلى درجة تحويل رحلة مور لاكتشاف تفوق أوروبا، إلى رحلة غزو أمريكية إلى أوروبا للحصول على أفضل ما فعلته للإنسان، وفى هذا البناء التهكمى ما يضرب من جديد منطق القوة الحمقاء، وهى قوة لم تحقق نصرا واحدا منذ الحرب العالمية الثانية فى رأى مور.

إنه يخاطب خصومه بالطريقة الوحيدة التى يفهمونها، وهى الغزو، بل يجعل البنتاجون وكبار مسئوليه هم الذين يكلفونه بالمهمة، ويجعلهم يأخذونه فى حاملة طائرات، ومعه علم أمريكى، لكى يقوم برحلته الأوروبية. ينجح مور خلال الرحلة فى ضرب عصفوين بحجر واحد: الكشف عن حماقة منطق الغزو، حيث إنه لا يصلح فى كل الأوقات، بل إنه كان سببا فى توجيه الإنفاق إلى الدمار، بدلا من التنمية كما فعلت أوروبا، كما يفضح فى الوقت نفسه الغازى الأمريكى المتغطرس الأكثر تخلفا ممن يغزوه، إنه فى وضع يشبه ذلك الشخاذ التركى الذى كنا نتندر عليه فى تراثنا الشعبى، والذى كان يشحذ متغطرسا، فيمد يده لكل مارّ قائلا:

«حسنة وأنا سيدك.. حسنة وأنا سيدك»!!

يتوالى هجوم مور مستعرضا تجارب عدة دول تتفوق على بلده أمريكا فى الاهتمام بالإنسان:

إيطاليا تمنح موظفيها وعمالها شهرين كإجازات مدفوعة، فرنسا التى تتاح فيها وجبات صحية وشهية فى أفقر مدارسها ومناطقها، فنلندا التى لا تزيد فيها فترة بقاء الطالب بالمدرسة على أربع ساعات يوميا، والتى تهتم بالأنشطة الرياضية، فتحقق أعلى مستويات جودة التعليم فى العالم.

سلوفينيا التى تتيح تعليما جامعيا مجانيا لأهلها وللأجانب أيضا، وهناك يلتقى مور طلابا أمريكيين جاءوا للدراسة، وكان يمكن أن يسجنوا إذا لم يسددوا ديونهم لجامعاتهم إذا بقوا فى أمريكا، ألمانيا التى تمنح عمالها إجازات فى المنتجعات الصحية، والتى لم تنس ما فعله الأجداد فى زمن النازية، بينما تنسى أمريكا ما فعلته فى العبيد.

البرتغال وسياستها فى مجال إباحة تعاطى المخدرات، النرويج وسجونها الفاخرة، وإصرارها على إلغاء عقوبة الإعدام، تونس ودفاع نسائها عن حقوقهن، آيسلندا ومساواتها بين الرجل والمرأة، وقدرة نظامها على عقاب انحرافات رجال البنوك.

وفى كل محطة تظهر المقارنة مع التجربة الأمريكية، ثم يضرب مور ضربته الأخيرة عند سور برلين المحطم، يقول لصديقه إن ما فعلته الدول التى زارها هى بالأساس أفكار أمريكية، ويضيف أن طرقات الناس فوق سور برلين لم تضع هباء، شيئا فشيئا انتصروا، وسقط الجدار، هذا هو معنى الرحلة كلها:

الجدير بالغزو فعلا هم من أرسلوه، والجدير بالتحطيم مثل سور برلين هى تلك الأفكار المحافظة التى شوهت الحلم الأمريكى، وجعلت الحرب بديلا عن التنمية ورفاهية الإنسان، ينتهى الفيلم البديع ــ بتحريض عكسى ــ بالتغيير فى اتجاه سياسات أخرى، ويستعين مور فى النهاية بأغنية من الفيلم/ الأيقونة «ساحر أوز»، حيث يستطيع الناس أن يحققوا ما يريدونه، وحيث لا يوجد شىء مستحيل.

نرشح لك

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل