المحتوى الرئيسى

الجوع فى الصِغر.. يكسر قلب الحجر!

03/22 18:34

كان صدره يعلو ويهبط بسرعة مخيفة مع أنفاسه المتلاحقة، فيما يضم شفتيه الجافتين ليبتلع ريقه فلا يدخل جوفه سوى الهواء، يغلق عينيه ثم يفتحهما على أقصى اتساع وهو يرقب زميله يلتهم «الرغيف الحاف» وتتناثر «الردة» حول فمه ويسقط بعضها على المريلة. أشاح «سالم» بوجهه عن «مصطفى»، وجرى مسرعا إلى «حنفية المياه» فى حوش المدرسة وضع يديه أسفلها فامتلأت كفاه الصغيرتان بماء رطب وأخذ يشرب ويشرب حتى تمتلئ معدته وينسى الجوع..

قصة «محمد» تلميذ الابتدائى ذى التسعة أعوام لم تنته بالعودة إلى البيت والتهام ما أعدته أمه من طعام الغداء حتى لو كان «شوية فول» أو «حتة جبنة» وقصة «مصطفى» لم تتم بوجود أى غموس فى البيت يلحق برغيف العيش الذى لم يجد سواه فى المدرسة، فحكايات الجوع عند هؤلاء الأطفال لا تنتهى بالشبع بل تتواصل حلقاتها لترتبط بكل أمراض الدنيا بما فيها أنيميا وتقزم ولين عظام وضعف بصر ونقص مناعة فضلا عن الأمراض النفسية التى يولدها الشعور بالحرمان والاكتئاب والحزن والعجز وكل هذه الأمراض لا تنتهى مع توديع الطفولة بل تمتد آثارها المدمرة للمراهقة والشباب حتى الكهولة لأن فرصة الفقير فى تعديل أوضاعه ضعيفة للغاية أو على رأى أم مصطفى: «الفقير يفضل طول عمره فقير» قالت جملتها، ثم استدارت ترص احزمة الجرجير أمامها فى قفص وضعته بالقرب من بيتها الذى هو قبر من قبور «بهوات زمان» فيما ارتمى عليها ابنها الصغير العائد توا من مدرسته الابتدائية. كان شاحب الوجه واتربة الجو الربيعى تغطى شعره وتعلق بالمريلة. احتضن الأم بشدة وسألها عن الطعام فأجابت بحزن وحسرة: «استنى يا مصطفى ربنا هيرزقنا ونشترى شوية فول وناكل مع اخواتك وأبوك، صمت الولد لأنه يعرف ان الانتظار يمتد بطول النهار وقد يبيت دون ان يأتى الفرج إلا إذا أتى بعض زائرى القبور بـ«كعك الرحمة» الذى يطفئ نار جوع الأسرة كلها.. و«مصطفى» لا يحصل على تغذية من المدرسة ولا يعرف عنها شيئًا ويسأل ببراءة شديدة «هى المدارس ممكن توزع أكل؟.. يا ريت دى تبقى حاجة جميلة» وقالت الأم «بنسمع عن الموضوع ده.. لكن بلاش بيقولوا العيال بتتسمم وفيه بتوع تغذية ما عندهومش ضمير يعنى لعيل يبقى ملهوف على لقمة بجبنة يروح فيها. الله الغنى»!!

أما سالم فيعيش مع زوجة ابيه بعد ان تركت أمه البيت من سنين وزوجة الأب لها وجهة نظر فيما يخص ساندوتش المدرسة.

«العيال هيخطفوه منك استنى لما ترجع ونتغدى كلنا» هكذا أقنعت «سالم» تلميذ الصف الثالث الابتدائى عن حقه فى ساندوتش المدرسة ليظل طول اليوم الدراسى دون طعام «مع انها بتعمل لأبويا ساندوتشات جبنة وحلاوة» هكذا قال الطفل مستنكرا قانون زوجة أبيه الذى يبقيه جائعا لأكثر من 8 ساعات وعندما يأتى الأب يأكل هو وزوجته فى حجرتهما بينما يأكل هو وأخته فى الصالة أى حاجة، ودايما ما فيش لحمة وفراخ. كل يوم عيش ووجبنة أو باذنجان أو شوية مكرونة وبتشيل لأبويا السمك، ولما أسألها فين «منابى» تقولى ابوك بيشتغل ويتعب انت لسه صغير مش لازم لحمة ولا سمك».

وهناك أم صغيرة شابة تمسك طفلها بيدها تعبر به الشارع، بعد يوم دراسى قضته تقريبا فى شارع أمام بوابتها فى انتظار خروجه. سألتها لم هذا العذاب؟

قالت: أخاف يخرج العيال الكبار تدوسه وهو صغير وتعبان ولا أستطيع العودة الى البيت والرجوع مرة أخرى.. المسافة بعيدة والتوكتوك بياخد 3 جنيهات رايح ومثلهم فى العودة.. أوفرهم علشان أعمله لقمة.. أنا بوفر له ساندوتش الفينو بالعافية علشان الدكتور قال لازم ياكل كويس وبخمسة جنيه جبنة ما يكفيش يومين والـ3 أرغفة فينو بجنيه يا دوب. فيه مدارس بتاخد وجبة للعيال لكن بعض المدارس لها. فيه ناس هنا محتاجة وعندها عيال كتير مش ملاحقة عليهم مصاريف اكل ولبس وتعليم «العيال مش واخدة حقها فى أى حاجة.

«شيماء» أيضا لا تحصل على حقها فى أى شىء ورغم ذلك بمجرد ان تدخل من باب البيت تخرج من حقيبتها الكتب والكراسات وتخفى وجهها وسط كومة العلم على أمل ان يتحقق الحلم وتصبح طبيبة «غنية جدا».

- علشان فيه ناس كتير شوفتها مرضت وماتت ومش قادرة تروح لدكتور.

كلمات شيماء تمثل صرخة فى وجه المجتمع حتى يشعر بالجوعى.

أم «شيماء» قالت لى ان أباها كان عامل رخام لكنه أصيب فى ذراعه وأصبح عاجزا عن العمل لتجد الأم أسرتها فى مواجهة الضياع بلا معاش أو أى دخل. وتعيش هنا وسط المقابر عيشة الموتى الأحياء.

عادت الأم إلى «شيماء» برغيف دون أى شىء معه فلم تسأل الطفلة وأخذته وشكرت أمها فيما أخذت تنجز واجباتها المدرسية بسرعة وكأنها تحاول الفرار من واقعها المر إلى رحابة الأحلام بلا قيود.

أهم أخبار مصر

Comments

عاجل