المحتوى الرئيسى

المنار: المجلة التي جذّرت للفكر السلفي المعاصر في مصر

03/21 16:42

تعتبر مجلة المنار (1898 - 1935) التي أسسها محمد رشيد رضا جذراً من أهم الجذور الفكرية للأصولية الإسلامية المعاصرة في مصر، إذ تبنت عدداً من الأفكار الدينية التي اعتنقها في ما بعد عدد من الحركات السلفية.

ولد رشيد رضا في قرية القلمون بالقرب من مدينة طرابلس اللبنانية لعائلة تنتسب إلى السادة الأشراف. قال الدكتور أحمد صلاح المُلا أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في كتابه "جذور الأصولية الإسلامية في مصر المعاصرة": "منذ نشأته المبكرة خضع رضا لتأثيرات صوفية عميقة، وانبهر انبهاراً شديداً بأبي حامد الغزالي، إلا أن القلق أصباه من بعض ممارسات الطرق، التي رأى فيها ابتداعاً في الدين".

وأضاف أن هذا القلق لم يكن يدخل قلبه لو لم يكن قد تأثر بالمذهب السلفي الحنبلي، فقد تنامت لديه بسبب ذلك توجهات سلفية محافظة ترتكز على أفكار هذا المذهب كما تجلت لدى ابن تيمية بشكل خاص.

وذكر المُلا أن أفكار رضا تطورت باتجاه الإصلاح الإسلامي وحاول الاتصال بجمال الدين الأفغاني الذي كان آنذاك يقضى سنواته الأخيرة في الأستانة كي يتتلمذ على يديه، إلا أن المحاولة فشلت بسبب التضييق على الأفغاني في الأستانة ولم تلبت أن انتهت بوفاته هناك عام 1897.

اتخذ رضا قراراً بالهجرة إلى مصر ليتتلمذ على يد محمد عبده، ووصل إلى الإسكندرية فى يناير 1898، وبعدها بأيام التقى عبده بالقاهرة، وأخبره برغبته في إنشاء المجلة.

تأسست المنار في وقت كانت دعوات الإصلاح الديني على أشدها بسبب الزخم الفكري الذي أحدثه الأفغاني وعبده.

وقال ماهر فرغلي الباحث في شئون الحركات الإسلامية لرصيف22: كان لكل منهما رؤيته الإصلاحية المستقلة، فبينما تبنى الأفغاني اتجاهاً ثورياً يرتكز على مقاومة الاحتلال الإنجليزي حتى لو كانت المقاومة مسلحة، انتهج عبده رؤية أخرى لا تمانع في التعاون مع الاستعمار من أجل النهوض بالمجتمع عبر روافد التربية والتعليم ونشر القيم الإيجابية، وهذا ما تبناه أيضاً تلميذه رضا الذي بلور أفكار أستاذه في المجلة.

مرت مجلة المنار بمرحلتين، شرح الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية أحمد زغلول لرصيف22، الأولى قدّم فيها رضا نفسه على أنه تلميذ لعبده ومتبنياً لكل أفكاره الإصلاحية، أما الثانية فبدأت عقب وفاة عبده وانقلاب رضا على تراث معلمه من خلال تبنيه للفكرة السلفية التي ترتكز على العودة إلى نهج السلف، وهو ما كان يعترض عليه عبده ويحجّمه.

تحولات رضا الفكرية بعد وفاة عبده والتي عكستها صفحات المنار أرجعها كمال حبيب الباحث في شؤون الحركات الإسلامية إلى تأسيس الدولة السعودية الثالثة عام 1924. وقال لرصيف22 إن رضا كان يراها نموذجاً للدول التي يجب أن تتبعه الدول الإسلامية، حتى أنه ألّف كتاباً أسماه "الخلافة" للرد على كتاب الشيخ مصطفى عبد الرازق "الإسلام وأصول الحكم" والذي رفض فيه فكرة الخلافة.

انجذاب رضا لنموذج الدولة السعودية ترك أثره في فكره وآرائه تجاه المرأة والفن وأمور الحياة الأخرى، إذ أصبح سلفياً وأقرب للفكر الوهابي، حسبما قال حبيب.

وساهم التمويل السعودي للمنار حينذاك بتأثر رضا بالفكر الوهابي. يروي زغلول أن آل سعود كانوا يطبعون كتب التراث في مطبعة المجلة ما ساهم في اقتراب رضا من أفكارهم.

وأوضح زغلول أن انهيار الدولة العثمانية عام 1924 أحدث حالة من القلق في العالم الإسلامي ساهم بدوره في تكريس فكرة العودة إلى السلف كوسيلة لإحياء الخلافة الإسلامية من جديد، ولمواجهة ثقافة التغريب التي كانت تفرض نفسها بقوة على المجتمع وقتئذ.

بدأ رضا يصبغ مجلته بالصبغة السلفية، فعلى المستوى السياسي كان لها موقف مناوئ لقيم العلمانية والديمقراطية، وكانت ترفض فكرة سيادة الأمة باعتبارها تتناقض مع الكتاب والسنة. وبينما كان مصطفى كامل زعيم الحزب الوطني آنذاك يدافع في جريدة اللواء عن الدولة المدنية الحديثة، كان رضا يدافع في المنار عن دولة الخلافة، حسبما قال زغلول.

وأشار زغلول إلى أن المجلة تبنت أيضاً المفهوم الكلاسيكي للمرأة من حيث حرمانها من الخروج للعمل وعدم مخالطتها للرجال ومساواتها بهم، كما هاجمت نظام التعليم وكانت تراه علمانياً، ورفض رضا الفن في موقف مخالف تماماً لمعلمه محمد عبده.

وأوضح أن السلفيين المصريين باختلاف تنويعاتهم استقوا أفكارهم من محمد رشيد رضا وأفكاره التي كان ينشرها بمجلة المنار سواء جماعة الدعوة السلفية الإسكندرية أو جماعة السنة المحمدية أو الجمعية الشرعية.

ذكر المُلا في كتابه أن رضا كان يؤكد دوماً في سنوات المنار الأولى ضرورة استناد الإصلاح الإسلامي الحديث إلى مقتضيات العقل والواقع، مشدداً على أنه ما لم يحدث ذلك باختيار القائمين على الإصلاح فإن معطيات العقل والواقع ستفرض نفسها عليهم، وهو ما يشكل خطراً ماحقاً على مستقبل الدين.

ومع وفاة محمد عبده وتحرر رشيد رضا من تأثيره، بدأ التلميذ يستعيد العناصر التقليدية المحافظة من تكوينه الديني، وهو ما انعكس سريعاً على صفحات المنار، التي ما لبثت أن ظهرت فيها كتابات مناوئة للعقل تميل إلى الحد من دوره في فهم الدين وتضعه في مرتبة أدنى في إطار العلاقة مع النصوص، ومؤكدة عدم اختصاصه بمناقشة أصول الدين وأحكامه، بل وعجزه عن ذلك أيضاً.

رغم أن المنار رفضت نظرياً إغلاق باب الاجتهاد في الدين، واعتبرت هذا الأمر مفسدة كبرى لحقت بالإسلام نتيجة لانحرافات الفقهاء المتأخرين، إلا أنها أوضحت أن ما تعنيه بالاجتهاد هو التقيد بأحكام الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح والتخلص من المذاهب التي وضعها الفقهاء المتأخرون والتي "فتحت أبواب الضلال والبدع"، مشددةً في إصرار على القاعدة السلفية المعروفة القائلة إنه "لا اجتهاد في ما فيه نص من الكتاب أو السنة"، حسبما ذكر المُلا.

والملاحظ في هذا السياق أن رضا بعكس أستاذه أعاد تثبيت مفهوم "الإجماع" كسلطة مقيدة للاجتهاد تكاد تتساوى مع سلطة القرآن والسنة، بل إنه وسّع من سلطة الإجماع  كثيراً حين أكد أنه واجب الإتباع في الفروع، وكان هذا يعني عملياً أن رضا ومجلة المنار قد أفرغا مفهوم الاجتهاد من أي محتوى عقلي له.

قال الملا إن المنار حاولت في كثير من الأحيان تقديم نفسها كمنبر يدعو للتقارب بين السنة والشيعة، وعياً بضرورة وحدة المسلمين في مواجهة التهديد الغربي، إلا أن هذا التسامح في الواقع لم يكن سوى مسألة شكلية، فرشيد رضا لم يكن يطلب التقارب بين الطرفين على قاعدة المساواة، بل على قاعدة الاقتراب من مذهب أهل السنة والجماعة، على أساس أن هذا المذهب يجمع المسلمين ويوحدهم على وسطية الإسلام الحقة، وكان هذا الأمر نابعاً عنده من رؤيته لعقيدة الشيعة باعتبارها بدعة طرأت على الإسلام لتنهي عهده الذهبي وتكرس عصر الاختلافات والمذاهب، والذي بدأ بالفتنة الكبرى وكان سبباً في ما آل إليه المسلمون من ضعف.

وفي هذا السياق كثيراً ما قدح رشيد رضا في عقائد الشيعة، مؤكداً أن ظهور التشيع كان مكيدة من اليهود والمجوس للإسلام، ومتهماً الشيعة بالغلو والطعن في القرآن والسنة وسيرة السلف الصالح، وخاصة الخلفاء الراشدين.

دخلت المنار في خصومة مع الطرق الصوفية، على أساس أن ممارساتها تعد مصدراً لا ينضب للبدع والمنكرات، وقد هاجمت المجلة مشايخ هذه الطرق لكونهم يفرضون طاعتهم المطلقة على أتباعهم ويصرفونهم عن العمل إلى الكسل، ويكرسون فيهم إيماناً سلبياً بالجبر والقضاء والقدر، أوضح المُلا.

وأكدت المجلة أن ما تفشى بين المسلمين من البدع المرتبطة بالتصوف كالاعتقاد في أصحاب الأضرحة والقبور، والتبرك بالأولياء ونذر النذور والذبائح لهم، إنما هو مأخوذ من عادات وثنية لأهل الكتاب من يهود ونصارى.

واستمد رضا موقفه من ممارسات الطرق الصوفية من أفكار أستاذه محمد عبده المتحفظة تجاه هذه الممارسات، وكذلك أفكار ابن تيمية العنيفة تجاه هذا الموضوع، علاوة على التجربة الشخصية لرضا نفسه.

ذكر المُلا أن رضا لم يهتم بعد زيارة قام بها إلى دار الأوبرا، من باب حب الاستطلاع، وشاهد فيها عرضاً نسائياً راقصاً إلا بالدلالات الأخلاقية لما رآه، إذ اعتبر أن ممارسة المرأة للفن بالطريقة التي شاهدها هي "العار الأكبر"، إلا أنه في فتوى أخرى طوّر رؤيته واعتبر أن ظهور الممثلات المسلمات ورقصهن مجرد ابتذال وتقليد لأوروبا، مؤكداً حرمة هذا الظهور دينياً، ولكنه أوضح أنه إذا كان لا بد من وجود النساء فيمكن استخدام غير المسلمات لأنهن غير مكلفات بفروع الشريعة ولا يُحرم النظر إليهن، كما سمح بظهور المسلمات على المسرح بشرط ألا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وأن لا يرقصن مع الرجال ولا يأتين بمنكر آخر معهم.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل