المحتوى الرئيسى

الذرة الأولى التى منها بدأ خلق العالم | المصري اليوم

03/21 01:18

كنت جالسا فى المسجد شارد الذهن كالعادة. لا أصغى مطلقا لخطيب الجمعة، لولا أنه فى سياق الخطبة، تلا هذه الآية الكريمة: «إن المتقين فى جنات ونَهَر. فى مقعد صدق عند مليك مقتدر».

انتبهت فجأة وكأننى أسمعها لأول مرة. استوقفتنى بلاغة التركيب فى: «مقعد صدق» واستوقفنى أيضا «مليك مقتدر». تجسدت أمامى المعانى كلها، وقد اقشعر بدنى، من تلك الكثافة غير العادية فى التعبيرات القرآنية، وتذكرت لحظتها الذرة الأولى التى منها بدأ خلق العالم.

يُقال– والعهدة على العلماء- إن نظرية الانفجار الكبير فى تفسير هذا الكون، تفترض وجود ذرة واحدة، غير متناهية الكثافة، تشتمل على هذا الكون الذى نعرفه من مجرات وشموس وأقمار وكواكب. ثم بدأ الانفجار الكبير فتشرذمت هذه الذرة الأولى إلى هذا الكون الذى نعرفه.

يقولون فى تفسير هذا الشىء العجيب إن هذه الذرة لم تكن تشتمل على أى فراغ. كانت محتشدة بكل معنى الكلمة. وتزول غرابة هذا التفسير حين نعلم أن التركيب الذرى يشتمل على فراغ هائل. كلنا نعرف أن الذرة مكونة من نواة والكترونات تدور فى مدارات حول أمها النواة. لكن ما لا نعرفه هو الفراغ السحيق فى تركيب هذه الذرة. هو شىء قريب من تكوين المجموعة الشمسية. فكما أن الشمس أكبر– بما لا يقاس- من أبنائها الكواكب، فكذلك النواة بالنسبة للالكترونات العاشقة التى تطوف حولها. والأعجب أن نسبة الفراغ فى النموذجين توشك أن تكون واحدة. فالفراغ السحيق بين الكواكب أشبه بالفراغ السحيق بين المدارات. بحيث إن مركبة فضاء إذا انطلقت من إحدى الإلكترونات– بدون توجيه- فإنها تتوه للأبد فى فراغ الذرة اللانهائى.

وهذا ما يعطى النظرية مصداقية. لو تخيلنا ذرة بدون فراغ، فإنها– بالفعل- تستوعب هذا الكون بأكمله.

أعود إلى النص القرآنى. الآية تقول: «إن المتقين فى جنات ونَهَر. فى مقعد صدق عند مليك مقتدر». تفجرت المعانى أمامى فاكتشفت أن هذا النص البليغ القصير يلخص الدنيا والآخرة. الدنيا متمثلة فى «المتقين». لم يقل المؤمنين. أنا مثلا أؤمن بالله بكل قلبى، ولكنى لا أتقيه مطلقا. ربما أتقى الأشياء الضارة التى قد تؤذينى. لن أضع يدى فى النار أبدا. لن أمسك بسلك كهرباء عالٍ. لن أقفز من الدور السابع. لكننى– مع الله- اقترف المعاصى بكل سلاسة. فهل استحق الجنة بإيمانى؟

المتقون هم من يستحقونها. من لا يكتفون بالإيمان– مثلى- وإنما يهربون من سخط الله هربى من شعلة البوتاجاز وسلك الكهرباء العالى.

ولأن الحياة فى الأصل اختبار عسير. ولأن نداء اللحم والدم يستعبدنا. ولأن تقوى الله هى أصعب شيء فى الكون، لذلك استحقوا هذه المنزلة: «مقعد صدق».

ما أعجب القرآن وما أشد كثافة عباراته. لذلك حيّر العرب وما زال يحيرنا. لقد صك تعابير جديدة لا علم للعرب بها. تعابير عجيبة. تعابير بليغة. تعابير لن تصل إليها مهما حاولت. «مقعد صدق». هذا الاستواء! التكريم! الثقة! بلوغ القصد! الراحة بعد التعب! يا لها من بلاغة مذهلة.

Comments

عاجل