المحتوى الرئيسى

يا الله.. لم نعد نكترث!

03/19 17:10

طالما كنتُ من الأشخاص الذين يقدرون وهج اللحظة الأولى، ذلك الانفعالُ الذي لم تصبه الرتابة بعد، مجرداً كاملاً وصادماً ربما، وهكذا هي الحقيقة في أغلب أحوالها.

كثيراً ما عدت أدراجي على أثر خطوات الزمن أتتبع تلك اللحظات، حيث لم ألج البابَ بعد وكلِّي تساؤلٌ عما وراءَه، أبحث عن الحقيقة متمثلةً في شعورٍ صادمِ مفاجئ يحيط بقلبك حتى يملكه عليك، وهذا هو ما جردت قلمي أكتب فيه اليوم، الصدمة التي فارقتنا على حين غرة.

أمُر على الأخبار كل يوم، وكل يومٍ أرى وأسمع ما يستوجب الرهبة والفزع، ولكن يا لَلمفاجأة! لم أعد أفزع.

ستون مدنياً قُتلوا اليومَ في حلب، مائة وعشرون بالأمس، مائتان وأكثر في قصفٍ بغاز الكلور السام..

تتتابع تلك الأخبار على مسامعي مزودةً بصورةٍ حية تستقبلها عيناي، ولكني لم أفزع!

وهنا يا صديقي كان عليَّ أن أفزع فشيء ما قد أصابني.

ربما لو عدتُ بالزمن خمسة أعوام إلى الوراء لشعرت بما يتوجب عليَّ أن أشعر به اليوم، حينها لو سمعت بأن مدنيين قُتلا في تظاهرةٍ سلمية لملَك عليَّ ذلك جوارحي واسترعى مني اهتماماً وحزناً بالغين، في الغدِ ربما أسمع خبراً بالمضمون ذاته، بعد غد يزداد الرقم شيئاً، بعد مدة تأخذ الأرقام منحى جديداً وتدخل في خانة العشرات ولم تلبث شيئاً إلا وصارت تأخذ خانة المئات بشكلٍ يومي.

وهكذا -يا صديقي- صار الأمر أرقاماً فحسب، أرقاماً مجردةً من كل شيء اللهم إلا ما تستوجبه قيمة الرقم من القلة أو الكثرة، رقمٌ من الشهداء، رقمٌ من الجرحى، رقمٌ من المعتقلين، رقمٌ من المحاصَرين الجوعى.

واختُزلتْ دماءٌ وأرواحٌ وحيوات في أرقامٍ مجردة حسابياً من أي حسٍ أو شعور.

ربما أكثر ما يستحق اللعن في الحياة هو اعتياد القبح، والاعتيادٌ لا يزال يقتل العاطفة شيئاً فشيئاً، قتلاً بطيئاً لا رحمة فيه، يجرد القلب من حرارة الشعور ويقتل حدة رد الفعل إلى أن تقارب الانعدام.

أسوأ ما جلبتْه الحروب علينا هو استتباعُ مظاهرها البشعة أمام أعيننا طويلاً فيتحول إنكارُنا لها عادةً تفقد مضمونها مع الزمن.

صرخات الأطفال الخجلة تحت دوي القصف لم تعد تفزعك، صورة الأحياء المهدمة لم تعد تستوقفك لأكثر من لحظة، دماء القتلى بين الأنقاض لم يعد يرجف لها قلبك.

وهكذا هي الطبيعة البشرية، يخبو اهتمامُها بكل شيءٍ اعتادت عليه مهما كان هاماً أو مدعاةً للتأمل أو العجب.

ولكن ربما هذه طبيعةٌ جديرةٌ بالمقاومة والرفض، ربما عليك أن تستدعي جلال الموقف حين يغفلُ عنه قلبُك، أن تستدعي الفزع حتى، ربما عليك أن تقاوم ذلك الاعتياد الذي غلّف قلبَك بالركود قبل أن يطغى عليه ويصطبغ به مع الزمن فيستحيلُ قلباً ميْتاً لا تعلنُ دقاتُه عن شيءٍ ذي قدر.

ربما على قلوبنا أن تتخلص من تلك الرتابة والبرود ولو بالأمر.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل