المحتوى الرئيسى

جار المأذون "2"

03/18 18:04

في اليوم التالي كانت الجمعة، يتجمع الكل في بيت الله، مخلفين وراءهم الدنيا وما فيها، متقربين إلى الله كل على قدر همته، فمنهم مَن بكر وابتكر، ومنهم مَن غلبه النوم متأخراً معتذراً بأنه اليوم الوحيد الذي يصحو فيه بعيداً عن إزعاج جرس منبهه.

صعد مولانا إلى منبر المسجد، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم صلَّى على النبي الأمي الأمين وآله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان ثم أردف:

فاشرأبت الأعناق إليه، وشخصت الأبصار.. بدا جاداً كما لم يكن قبل اليوم، يدركون نظرته التي بدا فيها الجد ونبرته التي اتشحت بالحزن.

قال الله -تعالى- في كتابه العزيز: "لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ " (الشورى).

أنت وزوجك وما ولدت هبة من الله تعالى، يعطي من يريد ما يريد متى يريد، أكرم الناس على الله الأنبياء، ولو كان الإناث عقوبة ما اختص بها لوطاً عليه السلام، ولو كانت المكرمة في الذكور وحدهم ما اختصَّ بهن أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام.

وأكثر الناس ابتلاء كان سيدنا النبي المصطفى، أعطاه الله الإناث والذكور، ثم استرد وديعته في الذكور وفي الإناث واحداً تلو الآخر، وفقد ما هو موجود ينفطر له القلب، يود المرء ساعتها لو أنه لم يرزق بولده من الأصل، وما تعلق به فؤاده، ولا رآه يكبر أمام عينيه يرجو فيه بلوغ مبلغ الرجال.

مات القاسم -وبه كُني أبا القاسم- صلوات ربي وسلامه عليه، ومات إبراهيم، وماتت أم كلثوم ورقية وزينب، ولم يبقَ له إلا فاطمة، وحتى التي بقيت أبلغه وحي السماء أنها أول مَن يلحق به إلى دار الحق.

لي يا مَن ترجو البنين ولم يرزقك، أتقوى على فقدهم على حياة عينك؟ أم أن الله رؤوف بك إذ حرمك؟!

أتدعون بدعوى الجاهلية التي وضعها محمد النبي الأمين تحت قدميه منذ أربعة عشر قرناً!

أنسيتم كتاب الله إذ يقول فيه:

"وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ" (النحل).

أمام مستشفيات الولادة كل يوم قصة جديدة لجاهلي جديد، رد هبة الله إليه، واكفهر وجهه واسود، وأشاح بوجهه عن صغيرته التي حباه الله بها دوناً عن كثير من خلقه الذين حرمهم الله نعمة الإنجاب من الأساس، وفي حرمانهم حكمة يعلمها وحده، تنتظر زوجته عقوبة ذنب لم تجنيه، وإعراض زوج لا عقل له ولا علم ولا فقه ولا دين ولا إنسانية!

أما قرأ هذا المتغطرس المتبجح على الله قول الحق تعالى: "فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى" (القيامة)؟

فكان نوع المولود مرهوناً به لا بزوجته، ولو كانت هي المسؤولة عن تحديد نوع الجنين ما اختصه الله بقول "فَجَعَلَ مِنْهُ".

قديماً أدركت المرأة العربية بفطنتها وذكائها لهذه الآية، فزوجها أبو حمزة قد تزوج عليها ابتغاء للولد من ضرتها، وسميت الضرة ضرة، نسبة إلى الضر الذي يقع بالأولى، وصار هواه إلى بيت الثانية أقرب من الأولى التي يمر بها في طريقه غير مكترث بحقوقها عليه، فأنشدت أبياتها التي دوَّت في أذن الزمان إلى أن وصلتنا:

ما لأبي حمزة لا يـأتينا ** ويدخل البيت الذي يلينا

غضبان ألا نلد البنينا ** والله ما هذا بعيب فينا

فإنا كالأرض لزارعينا ** ننبت ما قد يوضع فينا

فأوكلت أمر إنجاب البنين إليه، وأسمعت أذن الأولين والآخرين من الجهال ما يكرهون، وأقامت عليهم الحجة البالغة.

واستمر مولانا يسمع أهل الحي وكلهم منتصت لا ترمش له عين، حتى انتهى من خطبته الأولى، ثم ألحقها بالثانية، ودعا على كل من ظلم زوجة أو ابنة، ودعا الله أن يعين كل أم على ما وهبها الله، ثم شحذ همة المصلين أن يتبرعوا لكل من لا عائل له، يتامى بلا أب، أو مساكين أعوزهم جهل أبيهم وظلمه وهواه.

بعد الخطبة تكون الصلاة، ومولانا يخطب ولا يصلي بالناس، استحساناً لصوت الشيخ مصطفى، ذلك القارئ الفقيه حرم البصر، وأوتي عوضاً عنه بصيرة عزَّت في هذا الزمان، فهو ما إن يسمع الخطبة حتى يحضر الآيات التي تعضد المعنى الذي ذكره الخطيب، فيكون الأثر طيباً لدى الناس، وتعم الفائدة من التكرار الممتع ولمَ لا والشيخ مصطفى قارئ فذ، يبكيك في آية الخوف ويشعرك بالوجل، وتطير فرحاً إذا أسمعك آيات الجنان ونعيمها وصحبة النبي والأخيار؟!

سلم الشيخ، وكأنما أفاق الناس من حلم، استند الكبار إلى أعمدة المسجد وحوائطه، اعتلت الهمهمات من باحة المسجد، ومن الدور العلوي الذي تصلي فيه السيدات.

ينظر إليهم مولانا بعين رقيب لا تخطئ نظرته، يعلم كل أسئلتهم مسبقاً، بل ويعلم مَن سوف يسأل، وما سؤاله، ولماذا يسأل، ويدرك بطول عشرته مشاكلهم.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل