المحتوى الرئيسى

مخاض الحقد والطائفة السورية الأكبر: محمد سعيد حمادة

03/18 11:49

مثل هذه الأيام، قبل ستّ سنوات، كانت الأيام الأولى لبدء مخاض الكشف عن الوجوه الحقيقية للعداوة والأحقاد والإجرام والوحش الهمجيّ الكامن في النفوس الذي لم تستطع تغيير طبائعه الشعارات والتكاذب والتوفيقية وشراشف التجميل والتزيين والسُّترة والعناد أننا الأصحّ التي كنّا وما زلنا نلقيها على عفننا.

قبل ستّ سنوات من الآن بدأ هذا المخاض الدامي ليقول سوريّو البطاقة الشخصية إنهم ليسوا عربًا ولا سوريين، وأن عقودًا من ترداد شعارات الأمّة العربية الواحدة والهتاف لها كانت كذبًا وارتدادًا ورجعة مخيفة إلى هويّة منحطّة مجرمة، لا دين لها ولا أفق إلا القتل والقتل.

لن أعود وأنكأ الأسباب ولغة التعالي الأجوف، غير أنني على يقين من أن ستّ سنوات من الدمار والقتل والتهجير والنخاسة لم تعلّم السوريين إلا المزيد من التعصّب والانغلاق والهمجية الطائفية، فمن كان فيها ازداد انحيازًا إليها، ومن كان على وشك الخروج من قوقعتها أعاده الدم وشدّته مأساة جار أو قريب بقوّة إلى داخلها، ومن كانت بذرتها موجودة فيه فقد أصبحت نبتة ريّانة مشبعة، لها أشواك وإبر لا تعدم وسيلة تملّق لتمارس دورها في الأذى.

ستّ سنوات على مدّ اليد على العبّ وإخراج علم "إسرائيل" المخبّأ منذ سنوات وسنوات ورفعه على أعمدة الكهرباء، بحجّة أن من يحكم يحمي حدود "إسرائيل" منذ أربعين عامًا!! خرج من يريدون كسر حماية "إسرائيل" برفع علمها جهارًا نهارًا وقتل من أنزله ورفع العلم السوريّ مكانه!! يا للمهزلة التي صفّق لها قطيع طائفيّ منحطّ وحاقد، تقدّمته كلاب سلوقية للأجنبيّ العدوّ أقنعت السوريين على مدى عقود أنها مع التحديث والتغيير، متّهمة السلطة الحاكمة بالرجعية ومساومة الأنظمة العربية المتخلّفة، وعند أوّل اختبار للتقدّمية بان صديد انحطاطها الطائفيّ وعفنها الذي فاخرت به من دون حياء، ما دامت السفارة الأميركية موجودة وتخبّئهم في مراحيضها.

ستّ سنوات من الدم، ولم يفهم القطيع الطائفيّ ولم تتّضح له الصورة في أن درعا ليست مدينة شيعية أو علوية، بل يدافع "النظام العلويّ النصيريّ الرافضيّ...." عنها ويحميها لأنها سورية، وأن الضباط والجنود "الرافضة" الذين يدافعون عن دير الزور جُلّهم ليسوا من أبنائها، وأن من حرّر حلب ويقوم بتحرير ريفها ربما لم يتسنّ له من قبل زيارتها.

فما العمل إذًا؟ ما العمل مع أناسٍ تهجّروا وتشرّدوا وخسروا بيوتهم وأملاكهم وأعمالهم وجني عمرهم، وبيعت بناتهم ونساؤهم في أسواق النخاسة الفقهية، وما زالوا يصفّقون ويهلّلون لمن انتهك أعراضهم ومرّغهم بوحل الذلّ والحاجة والعبودية؟ في أيّ مصحّة يمكن علاج هذه الألوف المؤلّفة من معاقي الضمير ومغيّبي الوعي؟

لن أشارك في تضييع بهجة النصر والفرحة التي طارت لها قلوب السوريين الأقحاح، على كلّ أرض سوريا التاريخية، فلقد فرحت أمس، كما فرح كلّ سوريّ صميم، والعدوّ يجرّ أذيال الخيبة والهزيمة على خطى عملائه في الداخل، إذ جاء ليشدّ من أزرهم ويقوّيهم، فنال نصيبه من الذلّ والعار. غير أنّ توصيف المرض جزء من العلاج لبلوغ الفرحة الكبرى في انتصار سوريا المؤزّر. وهذا التوصيف لصيق تمامًا بما حدث أمس، بل إن ما حدث جاء ليعزّز التشخيص في أن سوريي البطاقة الشحصية انكسروا أشدّ الانكسار بعد سماعهم نبأ اندحار طائرات العدوّ وسقوطها، وأن ما فعلوه خلال ستّ سنوات، من ضرب الدفاعات الجوية وقواعد الصواريخ لم يُجْد نفعًا، فضاعت عليهم فرصة التهليل للعدوّ من جهة، وفرصة التهكّم بأسطوانة حقّ الردّ من جهة أخرى. وكثير من هؤلاء بيننا، ممن صمتوا عن كلّ الجرائم التي ارتكبت بحقّ مواطنيهم وجيشهم، لأن ما يحرّكهم هو غريزة الطائفة التي أعلن متزعّموها، بالنسبة إليهم، أنهم في الصفّ الآخر، أي في الصفّ الأميركيّ "الإسرائيليّ"، وأنهم مستعدّون لفعل أيّ شيء، كي يحقّق لهم كسبًا ولو إعلاميًّا يعزّز ولاء القطيع لهم. أيعوّل على سوريّ حزن على إسقاط طائرات العدوّ المغيرة على إخوته وأبنائه وجيرانه؟ أيمكن أن يكون يومًا مواطنًا سويًّا؟

أمس كانت ذروة الفصل الطائفيّ في سوريا الذي كانت تتشكّل معالمه وتتّضح، قويّة تارة وباهتة تارة اخرى، خلال السنوات الستّ الماضية، ذلك أن هناك من أساء التقدير في البداية، وهناك من حسب أن الأمور سهلة فعاد إلى صوابه، وهناك من كان مغيّبًا وعاد إليه وعيه. أمّا يوم أمس، فقد كانت نهاية الفرز، واتّضحت الأمور في أن السوريين واقعًا ينقسمون إلى طائفتين، واحدة تفشّى فيها ورم العمالة وتضخّم ولم يعد من الممكن علاجها إلا بالاستئصال الكامل عبر جراحة دقيقة وشاملة، وبترها بشكل نهائيّ كي لا تنقل معها أورامها إلى مستقبل السوريين، وأخرى طائفة كبيرة مترامية الأطراف وموزّعة على كلّ الجغرافيا السورية، وهي التي رقصت فرحًا وبهجة وهي تسمع أخبار أبنائها وإخوتها في جيش سوريا العظيم، وهم يذهلون العالم ويتحدّونه ويمرّغون أنف العدوّ بالذلّ والخيبة، ويعلنونها شاملة لا تبقي ولا تذر.

هنا بيت القصيد،.. بعد هذه السنوات من الخراب والدم والتضحية، ألا يحقّ لهذه الطائفة أن تكون على درجة واحدة من المواطنية، بكلّ حاراتها وأحيائها ومدنها وقراها وزواريبها وعائلاتها؟ ألا يحقّ لها أن تشبك الأيادي لبناء ناصع جديد هو وجه سوريا المستقبل، من دون أن تكون على درجات، وبعض أبنائها محروم من مجرّد الحلم في أن يكون بنّاءً حقيقيًّا لبلده؟ أسيكافأ هؤلاء بأن لا خروج ممّا أنتم فيه إلا بأن يكون حثالات الطائفة الأولى شركاء لكم في السلم ولهم الحظوة والدرجة الأعلى في المواطنية؟

نعرف جميعًا أن الدولة محكومة بوضع دوليّ عام، تذهب إلى مفاوضات واجتماعات لا يمكنها ألا تذهب إليها وتخوض غمارها، لكن قيادة هذه الدولة التي اتّخذت القرار، في توقيت دقيق ومفصليّ في سياق هذه الحرب، وأعلنتها حربًا ليس على "إسرائيل" ربيبة الغرب فقط، بل على داعميها كلّهم، قادرة على أن تقول للعالم كلّه أيضًا، نحن نفصّل دستورنا على كيفنا، ومواطنونا جميعًا متساوون في الحقوق والواجبات، لأننا سوريون ولسنا مسلمين ومسيحيين وسنة وعلويين ودروزًا وووو. ثمّ ما الذي يمكن أن يقوله العالم، وما الذي يمكن أن يحتجّ به علينا ونحن نصوّت الآن لدستور علمانيّ كامل، بكلّ ما تعنيه الكلمة؟

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل