المحتوى الرئيسى

حول الرسالة الفلسفية العاشرة لفولتير

03/17 14:42

يحكى عن فولتير، الذي يعد بحق "أبو التنوير الفرنسي"، أنه كان سليط اللسان، ففي أحد الأيام رد بقسوة على اللورد النبيل "دو روهان"، الذي سأل عن اسم ذلك الشاب الذي يرفع صوته أثناء الحديث في مجمعٍ ما كانا حاضرين فيه معاً، رد فولتير المعتد بنفسه قائلاً إن هذا الذي يتحدث لا يملك اسماً كبيراً (يقصد مثل النبلاء)، لكنه نال احترام الناس باسمه (يقصد بأدبه ومواهبه)، وبسبب تلك المشاجرة أُرسل فولتير إلى سجن الباستيل الرهيب للمرة الثانية في حياته؛ لأنه دخل في صراع مع هذا النبيل، واستعد لمبارزة دعاه إليها، ومكث في الباستيل فترة، إلى أن تم الإفراج عنه مقابل أن يغادر فرنسا إلى إنكلترا، ورغم محاولة فولتير التملص من ذلك الاتفاق والرجوع إلى فرنسا، فإنه أذعن في الأخير، وبقي في بلاد الإنكليز قرابة ثلاث سنوات.

بهذا الخروج من فرنسا إلى إنكلترا انتقل فولتير من أرض الاستبداد إلى أرض الحرية، ومن أرض التعصب الديني إلى أرض التسامح الديني، ومن بلد يحكمه الملوك ورجال الكنيسة إلى بلد يحكمه القانون ويدير السلطة فيه مجلس العموم البريطاني العريق.

وحُق لفولتير أن ينبهر بهذا البلد الذي تعلم لغته في عام واحد أو أقل، وكتب بها "رسائل الإنكليز" التي ستنشر لاحقاً بعنوان "الرسائل الفلسفية"، لم يسبق لهذا الفيلسوف الفرنسي أن رأى تلك الحرية التي يتمتع بها الكتاب الإنكليز في أي مكان آخر في أوروبا. والحق أن فولتير جاء إلى إنكلترا بعد أن شهدت تاريخاً طويلاً من الصراع من أجل الحرية والتسامح الديني، بدأ هذا العصر الإنكليزي الفريد بالماغنا كارتا (1215)، واستمر في صعود وهبوط، وشهد الحربَين الأهليتين لعامَي 1641 و1649 اللتين أريقت فيهما دماء كثيرة، وبعدهما الثورة المجيدة (1688) التي لم تسقط فيها قطرة دم.

لقد حل فولتير بإنكلترا التي وضع أسس نظامها السياسي فلاسفة كلاسيكيون أحرار وعظماء، منهم جون لوك وديفيد هيوم وغيرهما.

وكما قال مؤرخ الحرية الأميركي المعاصر رالف رايكو: فقد مارست التجربة الإنكليزية تأثيراً كبيراً على عقول أوروبا، وخاصة الفرنسية منها؛ مثل فولتير ومونتسكيو اللذين جاءا لمعاينة تجربة الإنكليز، أو بعبارة أخرى جاءا لاكتشاف هذا المجتمع الحر والمزدهر حيث تطورت التجارة والتسامح الديني والفكر الفلسفي الحر. في تلك الأيام كان الفرنسيون يقفون بإجلال أمام الإنكليز، فهم سادة البحار وبلد الحرية وملجأ الهاربين من الديكتاتوريات المنتشرة في أغلب بلدان القارة العجوز.

في هذا الجو المختلف عما تركه فولتير خلفه في فرنسا؛ حيث الرعب والخوف من تبعات أية كلمة يتفوه بها الإنسان، كتب هذا الفيلسوف المتنور رسائله الفلسفية التي وزعها خفية على أصدقائه لما رجع إلى فرنسا، ولم يجرؤ أبداً على طبعها ونشرها على العموم.

وما سنقف عليه في هذا المقال هو رسالته العاشرة المعروفة أيضاً بالرسالة "حول التجارة".

في ذلك النص القصير نسبياً يقوم فولتير بربط التجارة بالحرية، فـ"التجارة التي جلبت الثروة إلى شعب بريطانيا، ساهمت أيضاً في جعلهم أحراراً، وبدورها، أدت الحرية إلى تنمية التجارة"، كما قال.

والحق أن التجارة فرضت على الإنكليز فتح الموانئ والأسواق وبورصة لندن أمام كل الأديان والمذاهب؛ كي يتبادل أتباعها السلع والمنافع، ولا عجب أن يخرج أكبر الاقتصاديين المدافعين عن حرية التجارة من هذا البلد، فهم وقبل أن يدعوا إلى ذلك في كتبهم ونظرياتهم رأوا منافع التجارة في تجربة بلدهم، لكن الدفاع الكبير لآدم وسميث وديفيد ريكاردو كان حاسماً في دعم التجارة الحرة؛ لأن منافعها أكبر من منافع الحمائية، والتاريخ وقف إلى جانبهم في تأكيد ذلك.

لا شك أن فولتير لم ينسَ أبداً أن القدر الذي جاء به إلى إنكلترا منفياً مبعداً من بلده كان بسبب اللورد النبيل "دو روهان" الذي اعتبر أن لقبه وأصله يمنحه مرتبة أعلى وجاهاً وسلطة، ولهذا السبب لا يفوت فولتير أية فرصة دون أن يستغلها؛ ليبدد صورة النبلاء في المجتمع، وليبين زيف مظاهرهم بل ويصيب سلطتهم في مقتل بتنوير المجتمع بأفكار الحرية والتمرد على ذلك النظام الإقطاعي، لقد كتب فولتير مثلاً في هذه الرسالة حول التجارة قائلاً:

"إنني لا أعلم أيهما أنفع للدولة: نَبِيلٌ معطر يعلم أوقات استيقاظ الملك ونومه ويتظاهر بمظاهر العظمة، بينما يلعب دور العبد طلباً للقاء أحد الوزراء، أم تاجر عظيم يغني بلاده ويرسل شحنة من البضائع إلى الهند ومنها إلى مصر، ويسهم في رخاء العالم".

إن بريطانيا علمت فولتير أن التجار هم سادة المجتمع وليس النبلاء، أولئك التجار الذين يكدون ويجتهدون ويبحثون عن الفرص الجيدة ويتحملون الخسارات أيضاً، وليس النبلاء الكسالى المتفاخرين بالألقاب التي ورثوها والمتباهين بمجد لا دور له في تطوير المجتمع، بينما يسهم التجار بعملهم في ترقية المجتمع وتحريره من العبودية، قدمت بريطانيا، وكما كتب فولتير نفسه مثالاً رائعاً للورد عمل أخوه في التجارة:

"فعندما كان اللورد أوكسفورد يحكم إنكلترا، كان أخوه الأصغر يعمل وسيطاً تجارياً في حلب، ولم يرغب بالعودة إلى وطنه حتى مات هناك".

وما من شك في أن تلك المرحلة كانت حاسمة في تغيير وجهة التاريخ الغربي ككل.

إن فولتير هنا بصدد الحديث عن حلب السورية، عن ثاني أكبر الحواضر الإسلامية في بلاد الشام، تلك الحاضرة التي يدمرها الاستبداد السياسي والحروب الطائفية المجنونة والعبثية هذه الأيام، وكأنها لم تتعلم من تاريخها أن التسامح والحرية السياسية وحرية التجارة والاقتصاد من مداخل الازدهار والسلام. لقد نسيت حلب تجربة هذا التاجر الإنجليزي الذي عاش ومات فيها، بعيداً عن وطنه وعائلته وكل ما يضمنه له ذلك من مظاهر الأبهة والسلطة.

لقد نسيت حلب أو تناست أن تتعلم من تجارب الأمم التي خرجت من عصور الظلم والظلام إلى عصور الحرية والرخاء، ولهذا أصبحت ضحية للصراع الديني ولاستفراد فرد واحد بالسلطة والثروة، وتحول إلى إله لا يجب نقده والاعتراض عليه، حتى جلب لبلده الحرب الأهلية والتعصب الديني وهروب مَن نجا مِن مواطنيه من ويلات الحرب إلى بلدان يجهلون عنها كل شيء.

ربط فولتير ربطاً وثيقاً بين التجارة والحرية والتسامح الديني، فقد سبق له أن كتب في الرسالة السادسة حول التسامح الديني ملاحظة جديرة بالتأمل، إنه ما يشبه التبشير بدين جديد تجتمع فيه مصالح كل أتباع الأديان والفرق الأخرى، لقد قال فولتير بعد أن نظر إلى التعاملات في بورصة لندن:

"اذهب إلى البورصة في لندن، وهو مكان يتمتع بمنزلة محترمة تتفوق على الكثير من الهيئات، وستجد هنالك ممثلين عن الأمم كلها مجتمعين لمصلحة الجنس البشري، ستجد هنالك اليهود والمسلمين والمسيحيين يتعاملون مع بعضهم البعض، وكأنهم أتباع دين واحد، أما (الكافر) فهو لقب يحتفظون به لمن يصيبه الإفلاس".

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل