المحتوى الرئيسى

هل التفاوت فى الدخول والثروات كارثة كما يقال؟ The inequality myth!

03/16 11:18

شهد القرن العشرين منذ بداياته تزايد المناداة بوجوب تبنى سياسات إقتصادية تهدف للحد من التفاوت فى الدخول والثروات عن طريق التأميم والمصادرة أو عن طريق زيادة الضرائب بنسبة كبيرة على الشركات وكذلك على أصحاب الدخول المرتفعة وزيادة إنفاق الدولة على التعليم والصحة والمرتبات والمعاشات لموظفى الدولة وغيرهم. وكذلك التوجه نحو قيام الدولة بإنشاء وتشغيل المرافق وبعض الأنشطة الاقتصادية الموجهة لأعداد كبيرة من المجتمع. وكل ذلك بهدف تقليص إن لم يكن القضاء على التفاوت فى الدخول والثروات كما أسلفنا.

وقد تلقى المنادون بهذه السياسات دفعة كبيرة من انتصار الثورة البلشفية فى روسيا القيصرية فى 1917و ما تلاها من السيطرة على الدولة ثم التمدد الشيوعى فى أوروبا الشرقية وفى غيرها من دول العالم حتى الثمانينيات من القرن نفسه. وقد أدى انتشار هذه السياسات ذات التوجه اليسارى أو فلنقل التوجه الإشتراكى إلى حدوث تضخم كبير فى الجهاز الإدارى للدولة اختلف باختلاف درجة تبنى هذه السياسة من دولة لأخرى، وصاحبه كذلك انخفاض الكفاءة والإنتاجية للشركات المنتجة للسلع والخدمات والتى تولت الدول إدارتها باعتبارها المالكة لهذه الشركات سواء نتيجة التأميم أو نتيجة إنشاء هذه الشركات بداية. وقد صاحب ذلك ضعف الكفاءة والإنتاجية على مستوى الإقتصاد الكلى فى العديد من الدول.

 ومع الوقت ازداد العبء الإجتماعى على موازنات الدول مما أدى إلى لجوئهم إلى التوسع فى الإقتراض، بداية من الجهاز المصرفى ثم من أسواق المال.

وقد كان لانهيار الشيوعية فى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن العشرين أثر كبير فى خفوت الأصوات المنادية بالتوجهات اليسارية وبتبنى سياسات ذات فكر يسارى بصفة عامة. وذلك مرجعه إلى ثبوت فشل هذا الفكر بعد تطبيقه على أرض الواقع لفترات ممتدة لأكثر من ستين أو سبعين عاما نظرا لأنه يتجاهل عاملا أساسيا محركا للنشاط الإنسانى بشكل بديهى. وشهد العالم فى الوقت نفسه نجاحا إقتصاديا كبيرا للدول التى تبنت سياسات اقتصادية تقوم على الحرية والفردية فى التملك وفى الإدارة للنشاط الاقتصادى، بالإضافة إلى تقليص دورالدولة فى إدارة المرافق وفتح المجال للقطاع الخاص لأن يتملك ويدير المرافق العامة تحت إشراف الدولة بدلا من تملكها. حيث استطاعت هذه المجتمعات أن تحقق نموا اقتصاديا تراكميا أدى إلى الرخاء وإلى ارتفاع كبير فى مستويات المعيشة للأفراد وانعكس بدوره على تطورونمو القوة الذاتية لهذه الدول.

إلا أن ما يغفل عنه الكثيرون ممن يتعرضون للموضوعات الإقتصادية بالنقد أو بالتعليق أمران مهمان:

أولهما: أن ما تبنته الدول ذات التوجه الإقتصادى الليبرالى خلال المائة سنة الماضية لم يكن بحال من الأحوال تطبيقا خالصا للرأسمالية بصورتها النظرية الأكاديمية الخالصة.

وإنما اختلط التطبيق، تحت ضغوط اجتماعية ناتجة من تبنى الحرية السياسية والتداول الديمقراطى للسلطة (وأحيانا بسبب الوفرة الكبيرة فى الموارد المالية للدولة)، نقول اختلط التطبيق بدور اجتماعى متنامى للدولة. وقد نتج عن ذلك ظهور ما يسمى دولة الرفاه حيث تتولى الدولة تقديم الرعاية الصحية وتقديم العملية التعليمية بالإضافة لبعض الخدمات العامة الأخرى وعلى أعلى مستوى مجانا ولجميع المواطنين (بل ولجميع المقيمين فى الدولة، فى بعض الحالات ولو كانوا من غير المواطنين). وكما يدرك الإقتصاديون فلا يمكن اعتبار ذلك إلا خروجا عن شروط الرأسمالية كنظرية أو أيديولوجية إقتصادية واجتماعية. وهو خروج محمود ما دام فى حدود الرشادة أخذا فى الاعتبار إمكانات الدولة والمجتمع ككل ليس فقط على المدى الزمنى القصيرو إنما على المدى المتوسط ، والأفضل على المدى الطويل.

 فإن اقتصر الأمر على النظر فى قدرة الدولة على تقديم الخدمات المجانية للمجتمع على المدى القصير فقط ، فسوف تكون النتيجة الحتمية هى حدوث اختناقات وأزمات تمويلية للدولة ناتجة عن زيادة عبء الديون عن قدرتها على السداد فى المدى المتوسط أو الطويل. وهذا ما رأيناه يحدث بدرجات متفاوتة فى أوروبا خلال السنوات الخمس الماضية.

ثانيهما: أن الديمقراطية والتداول السلمى للسلطة وبرغم كونهما النظام المفضل للعالم المتحضر بلا جدال، إلا أن من مساوئه أنه عادة ما يؤدى إلى تمادى حكومات الأحزاب الحاكمة فى تقديم الخدمات للمواطنين مجانا أو بأسعار منخفضة (مدعمة) حفاظا على استدامتها لأطول فترة فى الحكم (أى بالفوز فى الإنتخابات أو بتجنب السخط الإجتماعى)، وتلجأ إلى الإقتراض بكل الوسائل المتاحة لتغطية هذه النفقات المبالغ فيها حتى تصل للحظة المواجهة فتكون الأزمة ثم يقال «هاكم قد فشلت الرأسمالية».

 وقد شهدنا ذلك يحدث فى أوروبا عبر السنوات العشرين الماضية، كما فى اليونان وأيسلندا وأيرندا وإيطاليا وإسبانبا والبرتغال وقبرص. وبدرجة أقل فى فرنسا.

إذا ومما تقدم نستخلص أن ما طبقته دول المعسكر الليبرالى ،إذا جاز التعبير، خلال العقود السبعة الأخيرة أى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم يكن الرأسمالية الخالصة ، وحسنا فعلوا بعدم تطبيقها بشكل كامل، وإنما كان ما طبقوه هو النظام الليبرالى الذى يؤمن بضرورة حماية الملكية الخاصة وتشجيع القطاع الخاص على التطوير والإدارة والإبتكار، مع قيام الدولة بالدورالإجتماعى الذى يشمل تقديم التعليم والعلاج على أعلى مستوى للجميع فى مقابل مادى متفاوت من بلد لآخر. كما يشمل حماية من يفقد العمل نتيجة لتتابع دورة النشاط الإقتصادى من فترات نمو إلى فترات ركود بتقديم إعانة بطالة. ويشمل أيضا قيام الدولة بدور المنظم والمراقب للنشاط الإقتصادى لمنع الممارسات الجائرة والاحتكار أو الغش. وقد كان ممكنا أن تواصل الأمور سيرها سيرا يسيرا فى هذا الطريق لولا التمادى.

إن المفارقة هى أن الفكر اليسارى قد فشل فشلا تاما لغياب الحريات والديمقراطية والتى كان يمكن أن تخفف من غلوائه.

 والطريف أن الفكر اليمينى قد فشل هو الآخر ولكنه فشل جزئى بسبب سطوة الحريات والديمقراطية التى أدت للتمادى فى دولة الرفاه بما يزيد على إمكانات الدولة.

لقد مر المجتمع البشرى بمراحل تطور فى الفكر الإقتصادى من الحرية التامة المطلقة (أو ما يطلق عليه الرأسمالية) إلى الإلغاء التام للحرية والملكية الفردية فى بعض الدول وليس كلها (أو ما يطلق عليه الشيوعية) ثم أدرك العالم ضرورة الأخذ من كليهما بإطلاق الحرية الفردية وحمايتها مع قيام الدولة بدورها الإجتماعى والرقابى ووجوب إحداث التوازن بينهما. فقد بدى جليا أن الميل بأى جانب منهما يؤدى لحدوث الأزمات.

ثم خرج علينا شعار جديد بدأ فى التنامى خلال السنوات الثمان الماضية وهو شعار «Inequality» التفاوت فى الدخول والثروات.

فماذا ينطوى عليه هذا الشعار؟ إنه يرفع بهدف تحفيز الدول على مواجهته وأن تتخذ هدفا أساسيا أن تسعى للحد منه أو القضاء عليه إن أمكن.

إن الزيادة الكبيرة فى الدخول والثروات فى عصرنا الحديث وفى غياب الممارسات الشاذة أو الإقطاعية لا يتأتى إلا من ثلاث طرق إما النبوغ والابتكار أو المثابرة فى ريادة الأعمال وتراكم الأرباح سنة وراء سنة أو التفوق والنجاح فى إدارة الأعمال والشركات والتى تتطلب مهارات أو قدرات شخصية وذاتية مرتفعة. فأى من هذه الصفات يسعى أى عاقل لكبتها أو لمحاربتها حتى نقلل من التفاوت فى الدخول والثروات؟ إن وجود هذا التفاوت طالما لا توجد ممارسات احتكارية أو إقطاعية لهوالمحفز للملكات الذاتية للإنطلاق ولإبراز طاقاتها الإبداعية فإن غاب الحافز خمد الإبداع وبهت الأداء وانحط المجتمع ككل.

فماذا يريد أصحاب الدعوة لمحاربة التفاوت فى الدخول؟ إننا نرى أنه شعار خبيث يسعى من باب خلفى وبدغدغة المشاعر النبيلة لإعادة الترويج للفكر اليسارى الذى تجاوزه الزمن. وذلك استغلالا لما يروجون له من فشل الفكر الرأسمالى.

 وقد رأينا أن ما جرى تطبيقه خلال الفترة التالية للحرب العالمية الثانية لم يكن الرأسمالية وإنما كان الليبرالية المطعمة بدور اجتماعى رقابى للدولة. وإنما الواجب إذا أن يكون الشعار المرفوع هو محاربة الفقر والعمل على رفع مستوى المعيشة وتحقيق حد أدنى من الحياة الكريمة لأكبر عدد من المواطنين وليس تقليل أو محاربة التفاوت فى الدخول.

أهم أخبار اقتصاد

Comments

عاجل