المحتوى الرئيسى

سوريا.. أهوال صيدنايا والعدالة الغائبة

03/15 21:32

«سجن صيدنايا العسكرى هو المكان الذى تقوم الدولة السورية فيه بذبح شعبها بهدوء«.

تلك هى الجملة الأولى فى تقرير حقوقى صادم تحت عنوان «المسلخ البشرى ــ عمليات الشنق الجماعية والإبادة الممنهجة فى سجن صيدنايا بسوريا». أصدرته منظمة العفو الدولية قبل أسابيع عن هذا السجن العسكرى الذى يرتعد من ذكر سيرته السوريون.

فى تقرير موثق استغرق إعداده عاما واستند إلى شهادات ٨٤ شخصا كان من بينهم ٣١ محتجزا سابقا فى سجن صيدنايا وثلاثة قضاة وأطباء وحرس سابقين ــ قدرت المنظمة الحقوقية الدولية أن ما بين خمسة آلاف وثلاثة عشر ألف شخص، معظمهم من المدنيين، قد تم إعدامهم خارج نطاق القانون فى سجن صيدنايا خلال الفترة الواقعة ما بين سبتمبر ٢٠١١ وديسمبر ٢٠١٥، فى عمليات شنق جماعية نُفذت تحت جنح الظلام وأحيطت بغلاف من السرية المطلقة.

وثّقت العفو الدولية كذلك ما وصفته بارتكاب جريمة «الإبادة» بحق محتجزين مدنيين كثر، قتلوا داخل سجن صيدنايا جراء تكرار تعرضهم للتعذيب والحرمان من الطعام والشراب والدواء والرعاية الطبية، ضمن منظومة ممنهجة وواسعة النطاق فرضتها السلطة. وخلصت المنظمة إلى أن الانتهاكات الجسيمة من ممارسات القتل العمد والتعذيب والاختفاء القسرى والإبادة التى تدعى بأن السلطات السورية قد ارتكبتها فى سجن صيدنايا منذ ٢٠١١، ترقى إلى مصاف «الجرائم ضد الإنسانية»، وطالبت بمحاسبة المسئولين عنها.

«صيدنايا هو نهاية الحياة، ونهاية الإنسانية» ــ هكذا وصف أبومحمد، أحد الحراس السابقين هذا السجن فى شهادته لمنظمة العفو. ترسم إفادات الناجين صورة عالم صُمم بقصد إذلال العالقين داخل السجن والنيل من كرامتهم، وأمراضهم، وتجويعهم، وقتلهم فى نهاية المطاف.

فالنزلاء الجدد يضربون ضربا مبرحا فى «حفل» استقبالهم، ثم يساقون عرايا للبقاء فى «الانفراديات» فى أقبية يجبرون على الكمون فيها لمدد قد تمتد من ساعات إلى أشهر. يموت كثيرون خلال فترة الاستقبال أما الناجون منهم فيتعرضون للموت البطيء بسبب ممارسات لا إنسانية من سلطات السجن. مع هطول الثلوج تسحب سلطات السجن البطاطين والملابس من المحتجزين مع إبقائهم بالملابس الداخلية. فى أيام الصيف يُحرم النزلاء من الماء لأيام طويلة ومن خدمات النظافة وهو ما تسبب فى إصابة سجناء كثر بمرض الجرب.

تجربة السجون فى النظم السلطوية تبدو متشابهة من حيث حرص السلطة على إذلال وسحق إرادة المحتجزين بأساليب قد تفضى إلى هلاكهم. يتم ذلك تحت غطاء شبه كامل من سياسة اللامحاسبة والإفلات من العقاب.

لكن سجن صيدنايا العسكرى كما سجون الاعتقال السياسى فى سوريا، مثل تدمر والمزة له ذائقة خاصة، تعكس طبيعة النظام الأسدى ومفهومه عن الشعب فى إطار العقد الاجتماعى بين الطرفين. السجون السورية تختزل هذه الرؤية وتعكس القبضة الأمنية الشديدة التى يفرضها النظام على المجتمع، والتى لا تسمح لأحد بالبَوح برأيه خارج الأطر التى تتحها الدولة.

أذهلنى أن أجد انعكاسا لهذا المعنى وأنا اقرأ عن قواعد السجن المعمول بها فى صيدنايا فى تقرير العفو الدولية. فالصمت المطبق هو قاعدة صارمة داخل السجن حيث يُحظر على المحتجزين الكلام أو التهامس فيما بينهم. بعض الإفادات جاء فيها أن الحظر يسرى حتى فى أثناء التعذيب. من القواعد الفريدة أيضا منع النظر إلى السجّان وهو أمر عقوبته قد تصل إلى الإعدام، منع الصلاة، إجبار المحتجزين على اتخاذ وضعية معينة كلما مر الحراس أو دخلوا الزنزانات. هذا كله يهدف كما قال أحد الناجين إلى خلق جو من الخوف الدائم الذى لا يمحى.

وفى واحدة من أهم الروايات عن أدب السجون عبَّر الأديب السورى مصطفى خليفة عن هذا المعنى من واقع تجربته المريرة فى سجن تدمر، وهو المسيحى الذى اتهم بمناصرة الإخوان المسلمين فى سوريا. فى روايته: القوقعة يوميات متلصص ــ يقول الراوى «رأسنا منخفض قليلا، أكتافنا متهدلة. وقفة فيها خشوع، وقفة تصاغر وذل، كيف اتفق جميع السجناء على هذه الوضعية وكأننا تدربنا عليها سابقا؟! لست أدرى. كأن كل واحد منا يحاول الاختباء داخل ذاته».

ألم تدفع تلك التجارب المحفورة فى الوجدان من تعذيب وحشى وذل واختفاء قسرى إلى إطلاق شرارة الثورة السوريا فى مثل هذا الشهر قبل ستة أعوام؟ فى ٦ مارس خرج أطفال درعا كاسرين حاجز الخوف الدائم وكتبوا على الجدران شعارات مناصرة للحرية وللثورات العربية. ألم يكن بطش الأجهزة الأمنية بهؤلاء الصبية والانتقام من البيئة الاجتماعية الحاضنة لهم سببا مباشرا فى تصاعد الاحتجاجات واتساع نطاق الثورة التى كان وقودها مزيدا من قتل الناس العزل على أيدى قوات الأمن؟

الثورة فى بدايتها كانت فعل صحوة مجتمع غيبه النظام الأسدى طوال ٤٠ عاما. شعار «الشعب يريد» كما يقول على بهلول، كان الأداة التى بدأت من خلالها الثورة تفكيك المسلّمات الأسدية، اليقينية، ورؤيته عن الشعب والمجتمع فى سوريا.

لكن الثورة تحولت منذ ٢٠١٢ إلى حرب إقليمية ــ دولية منخرط فيها ٤ أعضاء من مجلس الأمن إضافة إلى دول إقليمية وخليجية وحزب الله، وكل له مصالحه وتأثيراته المتشعبة على اللاعبين المحليين بجميع أطيافهم.

ومع وصول ترامب إلى السلطة فى الولايات المتحدة وصعود التيارات القومية المحافظة والمعادية للإسلام فى الغرب، تغيرت معادلات سياسة كثيرة وعادت مخططات «الحرب على الإرهاب» لتتصدر أجندات العمل الجماعى الدولى.

تمكن النظام الأسدى تدريجيا من استعادة شرعيته الدولية، بإظهاره الثورة على أنها إرهابية \ سلفية \ تكفيرية \ طائفية. أطلق النظام من سجن صيدنايا الكثير من السجناء الإسلاميين الذين انخرطوا لاحقا فى تيارات الجهاد المسلح. بالتوازى ركز الخطاب الرسمى على نعت المتظاهرين بالإرهاب، فى مسعى لوأد الثورة والدفع بالصراع إلى مربع الشراكة فى الحرب الدولية ضد الإرهاب.

فى هذه الحقبة المضطربة التى يستمد فيها خطاب «ما بعد ــ الحقيقة» postــfactual قوته من ترامب ذاته، وهو الذى يصدم العالم بأكاذيبه الشعبوية، تعلو قيم الجهل واللاعقلانية فوق الحقائق والمنطق. لذا لم يكن مستغربا أن يستخدم الرئيس بشار مصطلح «ترامبى» بامتياز، حين قال «نحن نعيش فى عصر الأخبار الكاذبة»« فى رده على سؤال صحفى بشأن التقرير الأخير للعفو الدولية عن سجن صيدنايا.

الحرب السورية وهى الأشد ضراوة بين الحروب خلال القرن الحادى والعشرين وضعت حدا للخطاب الحقوقى وآليات عمل حقوق الإنسان، كأطر لنزع فتيلها ومحاسبة المتسببين فى قتل ما يزيد عن ٤٥٠ ألف إنسان، والدفع بملايين المهجَّرين قصرا واللاجئين نحو رحلات موت سواء برا أم بحرا. روسيا استخدمت حق النقض سبع مرات فى مجلس الأمن فيما يخص الملف السورى، وهو ما ساعد النظام على الإفلات من العقاب. الفيتو الروسى حمى النظام الأسدى فى مراحل مفصلية خلال الحرب: منع إحالة الملف السورى إلى المحكمة الجنائية الدولية؛ أجهض مشروع قرار يدعو إلى منع تحليق الطيران السورى فوق حلب من أجل حماية المدنيين إبان حصار الموت والقصف الجوى على حلب الشرقية؛ منع محاولة إدانة النظام لاستخدامه الأسلحة الكيميائية ضد الشعب السورى بين ٢٠١٤ــ٢٠١٥.

التوافق الدولى حول سوريا يظل فى وضعه الأدنى. لم يعد متاحا سوى عملية سياسية باهتة تكرس بقاء النظام الحالى من جهة، ومن جهة أخرى لا تكفل المساءلة القضائية الموثوقة والشاملة.

أهم أخبار مقالات

Comments

عاجل