المحتوى الرئيسى

حوار مطوّل مع برهان غليون: "الديمقراطية لن تصل بالمتدينين إلى الحكم"

03/15 14:37

يرى المفكر السوري برهان غليون، رئيس المجلس الوطني السوري السابق، أن تغير أيديولوجية قيادة الثورة في سوريا لم يُغيّر من طبيعة الثورة والدوافع التي دفعت الشعب إلى الانتفاض على النظام وتقديم أعظم التضحيات.

وقال غليون، في حوار مع رصيف22 إن التنظيمات الإسلامية مثل داعش صادرت الثورة وكفاح وتضحيات الشعب، وأصبحت من حلفاء نظام الأسد في قهر الشعب وإذلاله وشل إرادته.

لا تخضع سوريا اليوم لحكم الأسد أو أي حكم إسلامي من أي نوع كان. اليوم هي دولة محتلة ومعدومة السيادة، تتقاذفها أقدام المحتلين من كل البقاع. ولم يعد النظام سوى دمية صغيرة تتلاعب بها الدول وتستخدمها لابتزاز الشعب السوري والحصول على مصالح غير شرعية وغير مشروعة. وبالرغم من المظاهر الدينية الغالبة على قوى المعارضة المسلحة، لا يوجد في سوريا أي مشروع إسلامي طامح للحلول محل نظام الأسد أو قادر على تحقيق ذلك.

أما تنظيم الدولة الإسلامية داعش وجبهة النصرة فهما تنظيمان دوليان استغلا الفراغ الأمني والسياسي الذي خلفه تخلي النظام عن مسؤولياته الوطنية وتوجيهه قوات سوريا المسلحة وأجهزتها الأمنية ضد الثورة، ومن أجل تحطيم إرادة الشعب وشلها، لتعزيز مواقعهما في سوريا.

عمل التنظيمان كما هو واضح للجميع كحلفين موضوعيين للنظام في حربه المضادة للثورة. وهو يستخدمهما اليوم، وحلفاؤه الروس والإيرانيون أيضاً، لتبرير الاحتلال الأجنبي والتدخل الواسع النطاق للقوى الأجنبية، وكذلك من أجل إعادة الشرعية للنظام المتهم من قبل المنظمات الإنسانية جميعاً، وآخرها منظمة العفو الدولية المستقلة، بارتكاب أعمال إبادة جماعية وإعدام الألوف من السوريين الأبرياء في السجون التي أطلقت عليها هذه المنظمات اسم المسالخ البشرية.

وبالرغم من كل ما حدث، والمآسي غير المسبوقة التي عاشها الشعب السوري، لن يستطيع النظام أن يستعيد قوته ولا أن يستمر مهما كانت مواقف الدول الأجنبية والحالة الضعيفة التي تبدو عليها اليوم المعارضة.

ولن تقود سياسات النظام للتمسك بالسلطة وتأكيد سيطرته مهما كان الثمن، ولا أطماع حلفائه الذين تحتل قواتهم أجزاء من البلاد وتحتكر القرار السيادي السوري، إلا إلى تفاقم الأزمة، والمزيد من الخراب والدمار والقتل الجماعي وتهجير السكان، تماماً كما حصل ولا يزال يحصل منذ 6 سنوات متواصلة.

لن يستطيع أحد أن يربح من نشر الخراب والفوضى في سوريا، ولن تقوم للدولة فيها قائمة، ولن تستقر فيها مصالح، لا للقوى الداخلية ولا للقوى الخارجية، ولا لأي طبقة أو نخبة أو طائفة أو قومية، ما لم يتوقف اضطهاد الشعب السوري بأجمعه، أي من حيث هو شعب، ويتم الاعتراف من قبل جميع الأطراف الداخلية والدولية بحقوق هذا الشعب الأساسية وحقه الأول في تقرير مصيره بحرية.

ستستمر أيام قاسية إضافية على السوريين لكن لن يستطيع أي طرف أن يحقق أي مصلحة من مصالحه ما لم يستعد الشعب السوري استقراره ووحدته ويحقق تطلعاته المشروعة نحو الحرية والديمقراطية والسيادة الوطنية.

ما عدا ذلك هو مجرد أوهام عند البعض الحالمين بالنصر على السوريين، وثمرة مخاوف عند بعض السوريين الذين عاشوا الموت والعذاب في كل خلية من خلايا جسدهم. التاريخ لا تصنعه الأوهام ولا المخاوف وإنما الإرادات الحرة والأفكار النبيلة والنيرة.

شارك غردالمفكر السوري برهان غليون يتحدث عن واقع الثورة السورية بعد 6 سنوات على انطلاقتها… هل انتهت الثورة؟

خسرت المعارضة السياسية ذات التطلعات العلمانية والديمقراطية دورها القيادي في الثورة منذ الأشهر الأولى، بسبب ضعف أحزابها وتهافتها، وهي أحزاب عهدي الأسد الأول والثاني التي وُضعت في قبصة الأحكام العرفية وقانون الطوارئ لنصف قرن كامل، مع حرمانها من أي نشاط، حتى الوجود خارج المسالخ البشرية، أي سجون تدمر وصيدنايا وغيرها، بجانب انقسام جمهورها ونخبها وضعف روح التعاون في ما بين قادتها وزعاماتها ونزاعاتهم الكثيرة وسوء تقديرهم لحقيقة الصراع العميقة وقساوة المعركة واعتقادها الطفولي بأن نزول الملايين إلى الشوارع قد حسم المعركة لصالح الشعب، ورهانها على حسن نوايا وإرادة المجتمع الدولي والالتزامات العالمية بوثائق الأمم المتحدة في حماية الشعوب والمدنيين.

وقد ظهر عجزها عن مواكبة ثورة الشعب وتضحياته اللامحدودة منذ الأيام الأولى للثورة عندما أمضت 6 أشهر في نقاشات طويلة لتوحيد نفسها قبل أن تخرج مقسمة من جديد بين هيئة تنسيق سمت نفسها وطنية، وإعلان دمشق هو أيضاً احتفظ بالاسم نفسه، بينما كانت دماء الشبان السوريين تسيل أنهاراً في شوارع المدن السورية.

ثم بعد أن عملنا المستحيل لانتشالها من سقطتها النهائية وإنقاذها من الموت بتشكيل المجلس الوطني السوري، الذي جمع كل أطرافها إلى جانب شباب الثورة، عادت إلى سلوكها ونزاعاتها التقليدية من جديد، ولكن من قلب المجلس هذه المرة، فعملت على تقويضه وفرغته من محتواه وحولته إلى ساحة لصراعاتها وأداة في يد كل منها لبسط نفوذها على الحراك الشعبي، بدل أن يكون الإطار الجامع للمعارضة بأكملها. وكانت هذه آخر فرصة لافتداء نفسها والخروج من محابسها التي أحاطت بها وشلتها خلال العقود الطويلة الماضية من عهد الديكتاتورية الدموية.

لكن تغيّر الأيديولوجية القائدة للثورة أو لقطاعات واسعة منها، وبشكل خاص للقطاعات المسلحة، لم تبدل من جوهر المطالب الشعبية، أي من مضمون الثورة الأصلي وغاياتها. فلا يزال المطلب الرئيسي والأول لجميع قطاعات الثورة السلمية والمسلحة، العلمانية والإسلامية، هو الانتقال السياسي من نظام القهر والاستبداد إلى نظام الحرية والديمقراطية والمساواة والمواطنة الواحدة.

وإذا كان هناك مغزى لمفاوضات جنيف، التي لم تفض، وعلى الأغلب لن تفضي، إلى نتيجة فهو في توافق جميع فصائل المعارضة، من كل الاتجاهات والتيارات، الإسلامية منها والعلمانية، على ضرورة هذا الانتقال، وقبولها بأن يكون مصير الدولة والبلاد رهن إرادة الشعب الواحد وحده.

باختصار إن تغير أيديولوجية القيادة لم يغير من طبيعة الثورة والدوافع التي حدت بالشعب إلى الانتفاض على النظام وتقديم أعظم التضحيات. لم يقم الشعب السوري بثورته المكلفة ولا قدم مئات آلاف الشهداء وملايين المشردين من أجل أن يستبدل ديكتاتورية شخص آخر إسلامي، أو يدعي التمسك بالعقيدة الإسلامية، بديكتاتورية الأسد، ولا من أجل أن يعطي رقبته لسيف جنود داعش أو النصرة أو من يشاركهم التفكير والقيم.

ثار الشعب وضحى من أجل الحرية، أي في سبيل نظام يحترم حقوقه وحرياته وكرامته، ويخضع لإرادته، كما هو الحال في كل الدول الديمقراطية، ولن يقبل بأن يصادر تضحياته أي مستبد آخر، بصرف النظر عن الاسم أو العقيدة أو المذهب الذي يريد أن يخفي خلفه هذا الاستبداد. وأول ما سوف يشهده الرأي العام العالمي عند انتهاء الحرب وبدء عهد السلام هو تفجر محتوى الثورة الديمقراطية هذا من جديد، في وجه فلول النظام البائد بالتأكيد.

 عدم نجاحها في توحيد نفسها ضد نظام بدائي ظالم، وفي تثمير تضحيات الشعب السوري الهائلة من أجل ضرب الحصار العسكري والسياسي والفكري الكامل عليه وإبراز إجرامه وتهافت حججه وذرائعه.

إذا كان المقصود من سؤالك عن الإسلاميين "النصرة وداعش"، فقد كانت جريمة هؤلاء وليس خطأهم فقط هي مصادرة الثورة وكفاح وتضحيات الشعب السوري لتحقيق مشاريع مناقضة تماماً لتطلعاته وآماله ومصالحه معاً. ولذلك لم يكن لديهم وسيلة للتقدم في هذه المشاريع إلا باستخدام الإرهاب والترويع والابتزاز الديني والسياسي.

وفي النهاية أصبحوا، بوعي أو من دون وعي، حلفاء للنظام في قهر الشعب وإذلاله وشل إرادته، وفي تأليب الرأي العام العربي والدولي على ثورته، وحرمانه من التضامن العالمي الذي كان بأشد الحاجة إليه في مواجهة نظام لا يتورع عن استخدام السلاح الكيماوي والقنابل العشوائية والقصف بالصواريخ والطائرات على المدنيين لتفكيك الحاضنة الشعبية للمقاومة وتدمير النسيج الوطني السوري.

أما بقية الإسلاميين أو أكثرهم ممن كانوا مع الثورة الشعبية، فلم يكن خطأهم في تدينهم، وهذا حقهم ولكن في ثقافتهم وأساليب عملهم السياسية التي لا تختلف كثيراً عن ثقافة وأساليب عمل أقرانهم من غير المتدينين أو العلمانيين، أعني الانطوائية والتمحور على الذات وانعدام الثقة بالآخر والاعتقاد العفوي بأنهم وحدهم مَن يعرف كيف يصون الثورة ويقودها، أي ثقافة الوصاية وغياب الحوار والتفاعل والنقاش مع منافسيهم في معسكر الثورة والمعارضة ذاته.

وهم في هذا أيضاً، كالمعارضة العلمانية، ضحايا نظام العدم السياسي أو إعدام السياسة لعقود وسياسات العزل المنظم وزرع الفتنة بين قطاعات الرأي العام وتشتيت المعارضة وضرب ثقة القوى في ما بينها وتوجيه بعضها ضد البعض الآخر.

ليس هناك في هذا الموضوع مجال للأسرار والاجتهادات. سوريا المستقبل ينبغي أن تكون كما يقررها السوريون الأحرار في انتخابات حرة ونزيهة. وفي كل البلدان التي أتيح فيها للشعوب أن تعبّر عن حقها هذا ورأيها بحرية، من دون تدخل أجنبي أو انقلابات عسكرية أو أجهزة أمنية، كانت الشعوب تميل نحو الديمقراطية، تماماً كما ترى نموذجها في الدول التي سبقتها إليها.

وليس هذا من قبيل التقليد ولا الاقتداء بالغير، فالتاريخ السياسي الحديث للبشرية منذ القرن السابع عشر، هو تاريخ ثورات الشعوب، في موجات متتالية، للحصول على حقها في أن تنتخب ممثليها وتقيلهم وتحاسبهم وتبدلهم، وكل ذلك حسب دستور ثابت، ونظام انتخابي معروف، يساوي بين الجميع، ومن دون تمييز من أي نوع.

وهذا يعني أنه لا توجد هناك نماذج جاهزة مفروضة على الشعوب، كما يريد اليوم مَن يعلنون وصايتهم على السوريين، ولكن هناك هدف أسمى ترنو إليه كافة المجتمعات اليوم هو أن تكون الدولة دولة الحرية لا أداة للاستعباد، وأن تنبثق السلطة فيها عن انتخابات حرة ونزيهة ندية، وأن تكون القيادة تداولية، ومنظمة، لا غنيمة أصحاب القوة أو أبطال الانقلابات العسكرية وتنظيم المجازر الجماعية، وأن تكون الغاية الأولى للحكومة فيها سعادة السكان والارتقاء بشروط معيشتهم ووجودهم المادية والمعنوية.

ليس هناك نماذج مسبقة الصنع للديمقراطية لكن هناك مثال ديمقراطي تنزع إليه كل الشعوب الحرة. والسوريون هم الآن، بعد التضحيات الجسيمة التي قدموها، أحد هذه الشعوب الحرة، ولن تقوم لديهم حكومة مستقرة من دون الاعتراف لهم بهذه الحرية، وتكريسها في نماذج حكم ديمقراطية، ومعبرة في الوقت نفسه عن خصوصيات مجتمعاتهم وتطلعاتها وحاجاتها العينية.

لن يتحقق غيره، لكن ليس قبل أن تخمد أحقاد الخاسرين وتتبخر أوهام الطامعين إلى وراثة إرث الدكتاتورية من القوى المحلية والإقليمية والدولية.

لو كان بإمكان السوريين الاستمرار في الخضوع لنظام الفساد والاستعباد فترة أطول لما هبّوا لإسقاطه. ولو شعروا في أي لحظة أن الفائدة من إسقاطه لا تساوي الكلفة الموضوعة فيه لما استمروا في تقديم التضحيات التي لا تزال مستمرة من دون حدود حتى اليوم.

الشعوب ليست كالأفراد، وحساباتها مختلفة تماماً. وإذا كان السوريون قد قبلوا بأن يبذلوا ما بذلوه من دماء ومعاناة فهذا يفترض أن دافعهم عميق أيضاً بعمق إرادة التضحية التي أظهروها. وعندما يقبل الناس مثل ما قبل به السوريون من خراب ودمار وقضاء على شروط حياتهم وعمرانهم فعلينا أن نعرف أن سبب ذلك هو أنه لم يكن لديهم خيار آخر، ولا يمكن أن يكون لسبب بسيط وعارض. وراء ذلك غاية، ربما كانت أسمى من الحياة، أو كانت جوهر الحياة نفسها.

الموت من أجل الحرية أسمى للفرد من الحياة كالكلب من دون كرامة ولا سعادة ولا إحساس بالإنسانية. كتب المتنبي: "وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجساد".

لا طبعاً. أخطاء المعارضة هي عرض لسياسات النظام، ولا يمكن وضعهما على المستوى ذاته وفي ذات السياق. المعارضة ورثت ثقافة فرضها النظام الاستبدادي والفاسد خلال نصف قرن، وسوّقها في مدارسه ومؤسساته جميعاً، وبشكل خاص من خلال تحطيمه أي شكل من أشكال التواصل أو التعاون أو التضامن بين الأفراد، من أجل تحويلهم من ناس بشر إلى آلات وأدوات تحركهم آلة قمعه المخابراتية كما تحرك الدمى في مسرح كراكوز، لكن في جو البؤس والقنوط والألم، لا في مناخ الهزل والضحك.

الصفات السلبية التي وسمت المعارضات السورية، كما هو الحال بالنسبة لكل المعارضات الخارجة من عصور الرعب والإرهاب، هي صفات موروثة عن نظام العبودية وثقافته وقيمه وسلوك محكوميه. ويمكن أن تتغيّر مع تغيّر النظام السياسي، لكن العداء للشعوب وتحقيرها وتجهيلها ونزع الإنسانية عنها هو مقوم النظام وقاعدة عمله وإعادة إنتاجه والعقيدة اللازمة لتبرير وحشيته وإمعانه في القتل والترويع والإرهاب من دون تساؤل أو حساب، وهذا هو أساس الشر، وهو مما لا يمكن إصلاحه.

بالإضافة إلى أنه ما كان من الممكن للمعارضة أن تصمد في مواجهة نظام القهر خلال عقود طويلة لو لم تمتلك، إلى جانب ما ورثته من ثقافة العبودية، قيماً سامية تدفعها للتضحية والفداء. وقد كان كثير من المعارضين الذين قضوا عشرات السنين في السجون فدائيين بالمعنى الحرفي للكلمة، وشهداء أحياء، في نظام حكم على شعبه بأكمله بالإعدام مع وقف التنفيذ، أكثر مما كانوا معارضين بالمعنى السياسي البسيط المتعارف عليه. ولا ينبغي لنا أن نتجاهل ذلك ونساوي بين المجرم والضحية لتوارد بعض السمات أو الأخطاء والانحرافات.

ما ذكرته في أكثر من نص مكتوب هو أن الديمقراطية تتضمن العلمانية، بمعنى حياد الدولة الديني والأيديولوجي، لكن العلمانية لا تتضمن الديمقراطية، ولا حياد الدولة، حتماً، لأنها من الممكن أن تفرض أو تستخدم من قبل سلطة استبدادية وديكتاتورية، حتى لو لم تكن غطاء للطائفية. في نظري، لن توصل الديمقراطية متدينين إلى الحكم إذا كان تديّنهم يعني إعادة تأهيل نظام الاستبداد والعبودية الفكرية والسياسية والدينية.

أهم أخبار العالم

Comments

عاجل