المحتوى الرئيسى

«بدون تأشيرة».. رحلة الـ120 ساعة لتحرير الجَمَال من الاحتلال

03/14 21:18

إنها رحلة مرغوبة وممنوعة في ذات الوقت، تتماس مع الحلم الرحب والواقع الضيق، وتنشد أرضا محتلة من عدو صهيوني أزلي، يقف متربصا على حدود أرض ليست ملكه، محاولا قطع أي طريق إلى الحلم، لكي لا تصل الرحلة من الأساس.

كتاب "بدون تأشيرة.. 120 ساعة في فلسطين المحتلة"، للكاتب الصحفي النبيل محمد هشام عبيّه، والصادر حديثًا عن دار المصري للنشر والتوزيع، يقاوم ذلك بعينه وقمله، ويأخذنا في رحلة من 5 أيام إلى مدينة رام الله الفلسطينية، من القاهرة مرورا بعمان، ليقدم لنا بروح مصرية خفيفة وحلوة، تحمل شوقا عميقا للتراب الفلسطين، وببراعة "أديب رحلات" مخلص وشغوف، كل ما يتوقع أن يفيد القارئ، ولو بدا شيئا على هامش الغرض الأصلي للرحلة.

الكتاب من القطع المتوسط، يقع فيما يزيد عن 120 صفحة، ويضم 16 فصلا، بلغة لا تتكلف، لكنها نافذة وشديدة التركيز في أوقات كثيرة، رحبة في أوقات أخرى، تأخذك في أكثر من مدينة وأكثر من مكان، وفي كل صفحة إفادة بالمعلومة أو الدلالات أو المتعة عموما.

هنا سنعرض لبعض مشاهد الكتاب المهم في تفاصيله، المتميز في رحلته وفي طريقة تلاقيه معها.

الجزء الرئيس من عنوان الكتاب "بدون تاشيرة" يبدو واضحا وحاسما، واختيار العبارة كعنوان له دلالة في نفي ما يتردد مع مثل هذه الرحلات، من أن الدخول إلى الأرض المحتلة يكون من بوابة الاحتلال، لكن عبيّه يصدر رده بوضوح، ويؤكده في المقدمة، عندما كانت الرحلة في طور العرض: "هل توجد تأشيرة إسرائيلية؟ الإجابة الحاسمة: طبعا لا. الدخول يتم عبر تصريح من السلطة الفلسطينية، ثم المرور عبر معبر الملك حسين "اللنبي" بالأردن، ومنه إلى رام الله مباشرة".

في مواضع أخرى من الكتاب سيعيد المؤلف التأكيد على ذلك المعنى، كما سيطرح القضية الجدلية الخاصة بزيارة فلسطين وهي تحت الاحتلال، وسيبدي رأيه في ذلك، لكننا سنؤجل ذلك بعد تصفح الكتاب.

في مطار القاهرة: فلسطين تتدلل

كما ذكرنا، هذه رحلة بعيون مصرية –على مستوى تشكيل أفرادها وبتصرفاتهم وبخفة روح المؤلف-، ويظهر ذلك من البداية، عندما نرى عبيّه وهو يجري هنا وهناك لاستخراج أوراق عسكرية مطلوبة للسفر، مطاردا الوقت الذي يجري، كي لا يفوته ميعاد الطائرة، وهي أجواء ليست غريبة علينا، لكنها تطرح على عبيّه فكرة "أن فلسطين تتدلل على محبيها، لكنها تستحق كل هذا التوتر وضغط الأعصاب بكل تأكيد".

يصل الجمع إلى عمان، وينزلون في الفندق المخصص للمبيت، وبينما يرغب الجميع في الاسترخاء والتواصل مع الأهل في مصر، نكتشف ذلك الحس "الرحلاتي" أو نزعة الاستكشاف في المؤلف، فهو لا يتعامل مع الأردن على أنها محطة انتقالية إلى هدف الرحلة الأصلي ويقبع في الفندق حتى ميعاد السفر إلى رام الله، لكنه ينزل إلى شوارع عمان، ويمشي كأنه "صاحب مكان" متسلحا برد الفعل العادي من الأردنيين على وجود مصري بينهم. يشتري كتاب "أنا وكامب ديفيد.. موشي ديان" لمعرفة كيف كان يفكر هذا المجرم، ويلخص عبيّه مشوار ديان في تاريخ الصراع بين العرب والاحتلال فيقول: "في إسرائيل وحدها، يمكن للقاتل المحترف أن يتحول لدبلوماسي يتاجر بالسلام".

تاكسي بـ«النفر».. مصري في شوارع عمان

في شوارع عمان يلتقط عبيّه بعضا من الخيوط التي تربط العرب ببعضهم البعض، كشعب واحد ووطن واحد، نجد ذلك مثلا عندما كان يريد الذهاب لمكان ما فاقترح عليه أهل البلد أن يستقل "تاكسي بالنفر"، لنعرف أن هذا "ابتكار عربي أصيل، وليس مصريا فحسب". وفي طريقه إلى مقصده يجد امراة أردنية تعمل في مهنة لم تصل إليها نظيرتها المصرية، يقول: "ألمح سيدة تقوم بدور عسكري المرور بحزم في أحد الميادين ولا أجدعها لواء في شوارع القاهرة".

بعد زيارة جبل القلعة الشهير في عمان، يصادف عبيّه مشهدا "أردنيا/ مصريا" بامتياز، يقول واصفا التلميذات في الشوارع بعد خروجهن من المدارس في عمان: "تبدو الفتيات الصغيرات بردائهن الكحلي، وأحلامهن التي تلمع في العيون، والحقيبة المحمولة بمزيج غريب من الدلع والصلابة، وكأنهن خرجن من نفس الرحم الذي خرجت منه الطالبات في مصر. كلهن يعشن السنوات الأعذب والأكثر براءة والحبلى بأيام وأمنيات وأحلام لا حدود لها، ونصيبها من التحقق رزق ونصيب لا أحد يملك الإحاطة بهما".

في عمان أيضا سيلتقي عبيّه بـ"علي" وهو سائق أردني، فيه من طباع المصريين الكثيرين، فهلوي، ودود، صاخب أحيانا، وتكون له معه قصة. وعموما يتعامل أفراد الرحلة كما المصريين في أي مكان، لهم منطقهم وأسلوبهم و"مفاوضاتهم" بالطبع في أجرة المواصلات أو البيع والشراء.

«المنطقة المشمسة هي القدس»: الطقس يعانق التاريخ

"على المرء دوما أن يفعل ما يظن أنه يصعب تكراره مرة أخرى".. هكذا سيتغلب المؤلف والفريق المصري على منغصات تظهر من آن لآخر تعكر تشوقهم لزيارة فلسطين.

على جسر "الملك حسين"، في طريقهم إلى المعبر الذي سيدخلون منه إلى رام الله، نستمتع بحديث السائق "أبو عبد الله" الذي يقدم للركاب إرشادا سياحيا بليغا، يكتب عبيّه: "على اليسار نلمح ربوع الأردن المشهورة بزراعة الموز والموالح، يتحدث أبو عبد الله من جديد وهو يشير إلى السماء: "هذه الغيمة مسكرة على مطر"، ثم يهتف بصوت متهدج، ملوحا بيده صوب اليمين: "المنطقة المشمسة هي القدس".

أي عذوبة نافذة تكمن في مثل هذه العبارة الأخيرة، ففيها تناص أحوال الطقس مع الحقيقة التاريخية الساطعة للمدينة العتيقة، التي تبصرها العيون لكن الطريق إليها غائم. يقول المؤلف، الذي يتطلع إلى حلم الزيارة المشتهاة: "القدس إلى جوارنا. يخفق القلب ويضطرب، ويبدأ في الخشوع تحسبا للصلاة".

في مواجهة جندي صهيوني: «قطّعناكم في 6 أكتوبر»

في الناحية الفلسطينية من المعبر، والتي يسطير عليها واقعيا جيش الاحتلال، يكون الحتكاك الأول للمؤلف مع عناصر من الإسرائيليين، ويصف لنا المؤلف هذه النوعية من المحتلين، المنقوعين في صفاقة خالصة، يكتم المؤلف انفعلال كثيرة وهو ينتظر إنهاء أوراقه من الجندي المحتل، لكنه لا ينسى الروح واللغة المصرية الخفيفة التي يكتب بها، فعندما يسأله الجندي متمتما "بعربية مغتصبة" (لنلاحظ هذا تلعبير البليغ): "مصري"، يرد عبيّه بلسان حاله قائلا: "أيوة يا روح أمك. فيه حاجة؟! قطعناكم في 6 أكتوبر".

يدخل المؤلف إلى رام الله، المحررة نظريا، المحتلة فعليا، وهناك يقدم لنا إجابات عن أشياء بسيطة في الواقع الفلسطيني لكنها مهمة، فمثلا: "من أين يحصل أهل الضفة على الكهرباء؟" من شركتي كهرباء القدس وكهرباء الشمال الإسرائيليتين، باستثناء أريحا، فهي تستمد الكهرباء من الأردن". ويجمل المؤلف الإجابة الكاشفة لاوضاع بلد محتل فيقول: "أزمة إذن أن يكون النور في يد أهل الظلام والظلم".

عن الجدار الذي يقتطع من أعمار الصغار ست ساعات يوميًا

يُعرف الصهاينة من أشياء كثيرة، لكن ماركتهم المسجلة هي العنصرية، وفي أبسط الأشياء، من ذلك مثلا ما يكتبه المؤلف عن رحلته وهو في الطريق إلى بلدة ريفية بين رام الله ونابلس: "بعد مرور نحو ثلث ساعة، نبدأ في المرور على طريق ممهد، لكنه ليس ناعما، يشير أبو أيمن إلى طريق آخر يتفرع من طريقنا، قائلا: "هذا الطريق الناعم الممهد يؤدي بك إلى إحدى المستوطنات. أما طريقنا هذا، فلا يمر عليه سوى الفلسطينيين". ويعقب الكاتب: "التمييز واضح حتى في (الزفت) الذي يوضع في الأسفلت لتمهيد الطرق".

وليس أكثر وضوحا في عنصرية الكيان الإسرائيلي من الجدار العازل، ففي قليقلة "نعتلي إحدى العمارات في المدينة، برفقة نضال جلعود مدير العلاقات الهامة في بلدية قليقلة، ليشير إلى مبنى يبعد عن الجدار الذي يخرق أرض أرض البلدة نحو مسيرة 7 دقائق سيرا على الأقدام، قائلا: "هذه إحدى المدارس الابتدائية، لكم أن تتخيلوا أن على التلاميذ الذين عليهم أن يصلوا إلى هناك للمشاركة في الطابور الذي يبدأ في السابعة صباحا، أن يتحركوا من موقعنا هذا في الرابعة فجرا، لماذا؟ لان الجدار قطع الطريق الرئيسي المباشر المؤدي إلى المدرسة،  وعليهم بالتالي الالتفاف حول الجدار بكل هذه المسافة ذهابا وإيابا".، ثم يختم جلعود بعبارة عبقرية بالغة القسوة قائلا: "أي أن الجدار يقتطع من أعمارهم ست ساعات يوميا".

«أنا بابا يالا»: نحن الراسخون وأنتم فقعاعات

في اليوم الأكثر إثارة خلال الرحلة، على مستوى الأحداث، يعرض لنا الكاتب مظاهر محلية للاحتفال بذكرى إعلان إستقلال دولة فلسطين، في 15 نوفمبر، كيف تحيي أهل رام الله والضفة المناسبة: "في السابعة والنصف من صباح اليوم التالي، تحركت الأتوبيسات من أمام الفندق، وهي ممتلئة، لم يستطع معظم المصريين والأجانب التخلف عن هذه التجربة الاستثنائية. كان الصباح باردا، لكن الشمس ترسل دفئا ناعما من خلف السحب. خلال تحرك الأتوبيس، كان واضحا أن هذا يوم غير عادي لأهالي رام الله ومدن الضفة الغربية كلها، ثمة حالة ترقب ممزوجة بالشغف. المدارس تنظم صفوفها حتى يخرج طلابها من الأبواب في مظاهرات ضخمة ترفع العلم الفلسطيني، المسئولون في مقر محافظة رام الله يقفون أمام المقر للخروج في مظاهرات مماثلة منذ الصباح الباكر، أصحاب المحلات يرفعون الأعلام الفلسطينية، وأبوابها نصف مغلقة نصف مفتوحة تحسبا لأي تطور متوقع. الميادين الرئيسية في رام الله تستقبل العشرات الذين يهتفون باسم بلادهم. كانت فلسطين تتكلم وتزأر وتحتشد. كانت الأرض ترتجف تحت الأقدام، والطيور تزقزق مترقبة، والسماء تحمي من علٍ".

بعد قليل ستحدث المواجهة الأكثر وضوحا وخطورة في الرحلة بين الجمع المصري -وفيه المؤلف- بجانب نشطاء وصحفيين أجانب وبين جنود الاحتلال. يقطع التجمع طريقا يربط مدينة القدس المحتلة بعدد من المستوطنات السرطانية، ويكاد المؤلف أن يشتبك مباشرة مع مستوطن إسرائيلي: "كان.. يتقدم بسيارته، فإتقدم دوري تجاها، ثم وضعت قدمي على مقدمة سيارته في حركة لا إرادية تحمل قدرا من التهور كما ترى، لكنها حسمت صراع الإرادات مبكرا، فلم يتمالك المستوطن أعصابه، فغطل برأسه البغيض من نافذة سيارته مطلقا سبابا بالعبرية، فرددت عليه بكوكتيل من الشتائم المصرية المعتبرة". موقف محتد لكنه لا يمنع عبيّه "المصري" من أن يستكمله بخياله الساخر فيقول: "كاد الحماس يدفعني لأن أتجه صوبه وانزعه من السيارة نزعا، لأسقطه أرضا، قائلا له: "أنا بابا يالا!".

في دلالة مشهد قطع الطريق معنى كامن يبرزه عبيّه فيقول: "بدا أن الوضع معكوس، وأن الفلسطينيين ومن معهم من مصريين وأجانب، هم من يعيشون أحرارا في هذه البقعة من الأرض المحتلة، بينما يعيش الإسرائيليون مسجونين في سياراتهم".

ولأنه يوم محوري في الرحلة، فإنه يكلل بموقف رمزي من صحفية سويدية كانت تشارك في قطع الطريق: "بهدوء شديد، اقتربت من أحد الجنود الإسرائيليين، ثم أخرجت من حقيبتها لعبة فقاعات الصابون، وأطلقتها في وجهه لتغطيه، ورغم حنقه الواضح، تصنع الجندي الثبات في مكانه، قبل أن تعود الصحفية أدراجها بيننا وهي تبتسم في انتصار. لقد قالت الرسالة: "حتى وأنتم مدججون بالسلاح، وتحميكم العربات المجهزة، ونحن عزل، لا نحمل سوى المحبة لهذه الأرض، والإيمان بعدالة قضية أهلها، فإن الحقيقة الحاسمة، تقول بأننا نحن الراسخون، وأنتم مجرد فقاعات!"".

موقف رمزي واضح، لن يغير شيئا على الأرض، لكن ما أعظم دلالته، و"الرمزية هنا في فلسطين أسلوب حياة، يستخدمها أصحاب الأرض في محاولة للتغلب على تاريخ موجع وحاضر قاس ومستقبل لا يبدو أنه أفضل حالا"، كما يقول المؤلف.

كيف نكسر عن هذا الجمال حصار الاحتلال؟

في تصديه لقضية وجوب زيارة فلسطين وهي تحت الاحتلال من عدمه، يقول هشام عبيّه: "أدرك يقينا تعقيدات السياسة الممزوجة بتفسيرات دينية، التي تحظر على غير الفلسطينيين من العرب زيارة القدس بدعوى أنها تحت الاحتلال، هذا منطق يمكن أن نناقشه بهدوء ونحن في مصر، أنا شخصيا أراه منطقا مغلوطا ومتشددا، ويحرم الفلسطينيين من التضامن العربي بدعوى عدم التطبيع.. قال يعني مفيش تطبيع!".

قبل المناقشة الهادئة في مثل تلك القضية، يبدو لنا عبيّه شخصا يتمتع بنبل إنساني شديد، ورؤية عربية تقدمية، تسعى لتحرير فلسطين وإزالة الصدأ من على الحواضر العربية، وعنوان كتابه لا لبس فيه، ويعبر بحزم عن أنه لا يقبل أن يدخل الأراضي المحتلة بجواز سفر موقع من المحتل، وهو أمر يكرره في الكتاب أكثر من مرة، وبنى موافقته على الرحلة في البداية على هذا الأساس.

أهم أخبار متابعات

Comments

عاجل